الاحتفال النوعي الذي نظمته المقاومة بدعوة من العلاقات الإعلامية في حزب الله واللقاء الإعلامي الوطني بمناسبة عيد المقاومة والتحرير سوف يبقى موضوع دراسة وتمحيص وتدقيق في دوائر القيادة في كيان الاحتلال، بعيداً عن الضجيج الذي سوف يحاول إثارته بعض اللبنانيين عبر محاولة زج المناورة في لعبة الزواريب اللبنانية، التي أتقنت المقاومة منذ نشأتها النأي بنفسها عنها، والالتزام بالبقاء درعاً وحصناً لحماية لبنان بوجه تحديات الاحتلال وعدوانيته، لتكون سنداً وحامياً لكل اللبنانيين ليمارسوا حياتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، من مخالفيها ومؤيديها على السواء، بما في ذلك ممارسة البعض لهذا الحق في تصعيد خطابه المناوئ للمقاومة.
العنوان الأول الذي سوف يتوقف أمامه قادة الكيان، أن المناورة التي تضمنت تنظيم نماذج رمزية عن أعمال قتالية، ليست عرضاً لأسلحة، بل لمشاة البر في المقاومة وفي طليعتهم وحدات النخبة من قوة الرضوان، تحت عناوين تكتيكية واضحة من تسمياتها في المناورة، عبور الجدار، اقتحام مستعمرة، أسر جنود، تجاوز الشريط، هي إعلان الانتقال في رسم سقف المواجهة، من اعتبار التوازن الناري أساساً والعبور إلى الجليل فرضية، الى جعل هذا العبور أساساً، والدعم الناري عنصر إسناد لهذا الهدف.
العنوان الثاني تقديم نماذج عن تقدم نخبة المقاومة على جيش الاحتلال بخطوات في تكتيكات حروب مشاة البر، ومنها خصوصاً عامل الوقت، فكل عملية تكتيكية من العمليات التي نفذتها وحدات المقاومة الرمزية كانت مرسومة بطريقة تقول إنها عندما تكون في ظروف حرب طبيعية فلن تتجاوز بضع دقائق، والسقف هو خمس دقائق. هكذا كانت علمية الأسر وعملية اقتحام مستعمرة وعملية اختراق الجدار، والوقت كان حاضراً أيضاً في بلوغ المدى صفر بين نهاية القصف المدفعي والصاروخي التمهيدي لكل عملية وبين تقدّم مشاة البر، بينما يقع هذا المدى الزمني بين هاتين الخطوتين العسكريتين في أي هجوم لدى أفضل الجيوش، بين دقيقتين وسبع دقائق، وقد شاهدنا المشاة يتقدّمون ويقتحمون بينما القصف التمهيدي مستمر ومتواصل بدقة متناهية على بعد أمتار من المهاجمين، وكان هذا مصدراً للإبهار، والإبهار ملازم لتجربة المقاومة منذ النشأة وهو أحد أسلحتها في الحرب النفسية.
يعرف قادة الكيان أن الإعلاميين والقادة السياسيين الذين احتشدوا لمتابعة المناورة، على بُعد مرمى حجر من حدود لبنان مع فلسطين المحتلة. وهذا يعني أن المقاومة ليست آبهة بكيف سوف يتصرّف الكيان وجيشه تجاه هذا الاحتشاد الذي كان قادة عسكريون وسياسيون كبار من المقاومة في طليعته، بل إن المقاومة واثقة أن الكيان سوف يتصرف كما يجب أن يتصرف كل مردوع تجاه هذا الحدث. وبالتوازي شاهد قادة الاحتلال العسكريون والأمنيون كيف أن هؤلاء الذين تابعوا المناورة كانوا عسكرياً جزءاً منها، لوجودهم على مسافة مئتي متر من خط النار، وهي مسافة محرّمة في المناورات، ولذلك تكون المراقبة من مسافة كيلومتر على الأقل في حالات مشابهة لاستخدام النيران ويزوّد المتابعة بمناظير يتابعون من خلالها، وكانت القذائف الصاروخية الثقيلة تسقط على مسافة خمسمئة متر من الحضور، وليس فقط على مسافة أمتار من المقاتلين المشاركين في العمليات التكتيكية، وهذا يعني أن المقاومة أرادت أن تقول إنها واثقة من دقة نيرانها ورماتها، والقناصة بعض مهم منهم، وأن رماة مدفعيتها وصواريخها قناصة مهرة أيضاً، وأن التدريبات قد انتهت، والثقة مطلقة لحد اليقين، بالجاهزيّة لنقل المشهد من الرمزية إلى المعركة الفعلية.
لقد حشدت المقاومة أكثر من ألف من مقاتلي نخبتها وعشرات الضباط القادة في هذا العرض، لمعارك رمزية عنوانها الميداني اقتحام مستعمرة وتدمير مئة متر من الجدار وأسر جندي، ويستطيع قادة الكيان تخيّل معنى مئة عملية مشابهة يوم العبور، ولكن تحت نيران أسلحة مختلفة وطائرات مسيّرة مختلفة، وآليات عبور مختلفة، وفي ظل تساقط حمم الصواريخ الدقيقة على عمق الكيان، في كل مرة يريد قادتها التحدث عن حرب على جبهات متعددة، أو عن تهديد لبنان بالحرب، أو تهديد المقاومة بتغيير موازين الردع، وفوق كل ذلك عندما تفكر بالعبث بضوابط وضع القدس والمسجد الأقصى، وقد صار ثابتاً في حسابات المقاومة، أنه من الخطوط الحمراء التي يشكل تجاوزها مصدر خطر لحرب إقليمية، أظهرت المواجهات السابقة أن احتمال تحرّك كل الجبهات خلالها أمر مؤكد.
تأتي رسالة المقاومة على خلفية المتغيرات الجارية في المنطقة، لتمنح هذه التحولات فرصة أن يقرأها الآخرون بصورة صحيحة، فالانفراجات والتهدئة مصطلحات تطال النزاعات البينية في البيئة التي تشكل السند الطبيعيّ لشعب فلسطين ومزقتها الألاعيب الغربية وربيعها، وفتاوى الفتن المذهبية، وهلوسات التطبيع، وهذه الانفراجات وهذه التهدئة إعلان إغلاق لهذه النوافذ التي كان يدخل منها الريح الأسود، أما المواجهة مع كيان الاحتلال فلا علاقة لها بمعادلات التهدئة، بل الجهوزية والاستعداد للمزيد من مراكمة القوة، في رسالة واضحة لشعب فلسطين عنوانها، لستم وحدكم.
قدّم مشهد الانتخابات الرئاسية التركية صورة شديدة التركيب والتعقيد بين عناصر تتشكّل منها كل مشاكل وأزمات المنطقة والعالم، وتدور حول أسئلة كبرى وتفصيلية، لتقول إن هناك توازناً هشاً بين معسكرين متداخلين، لا يمكن للمفاضلة بينهما أن تتم إلا بصعوبة عالية، بما يُعبّر عن غياب الخيارات الواضحة في تعبيرها عن مقاربة مشاكل الغد بلغة متجانسة؛ حيث يمثّل الرئيس أردوغان نموذج الإسلام السياسي القريب من الغرب ومفهوم الدولة المدنية، مقابل منافسه كمال كليجدار كممثل للعلمانية الأصولية المشبعة بروح الغرب والمعادية للدين؛ ويمثل أردوغان من موقعه في زعامة الأخوان المسلمين ضمن معسكر الإسلام السياسي نموذج العنف وشهوة البحث عن دور على حساب استقلال دول المنطقة، وصولاً للاستعداد لاستضافة عشرات آلاف الإرهابيين التكفيريين، وبالمقابل تصدير بعضهم الى حيث يلزم، تحت عباءة مشروع العثمانية الجديدة وحلم السلطنة الكامن والجاهز للظهور دائماً، ومقابله منافس يريد استعادة نموذج أتاتورك لدور إقليمي ينضبط بالأجندة الغربية، لكن دون خوض حروب وطموحات التوسع؛ ويمثل أردوغان مشروعاً استقلالياً يقف على مسافة المصالح المتحركة بين الشرق والغرب، من حرب أوكرانيا إلى حرب سورية، والبحث عن شراكات سياسية واقتصادية تأخذ بالاعتبار متغيرات العالم ومخاطر البقاء في المركب الغربي بقيادة أميركية متوحشة، يأنس اليها منافسه ويأخذ عليه التقرّب من روسيا، بينما في الاقتصاد قدّم أردوغان نموذج اقتصاد قوميّ عماد النهوض بالصناعة وإنتاج دور يستند الى عناصر القوة في الجغرافيا الاقتصادية، ويقابله منافس يتبنى الليبرالية الكاملة، حيث لا دور للدولة في الاقتصاد؛ وفيما يقدم أردوغان مثالاً قاسياً في التعامل مع الحريات الشخصية والاجتماعية والسياسية والاعلامية، يتباهى خصمه بالذهاب الى أبعد الحدود دفاعاً عنها وصولاً لتشريع المثلية.
يقول المشهد الانتخابي في الجولة الأولى إن الأتراك حائرون. وهذا معنى توزعهم بنسب متساوية تقريباً بين المتنافسين، في لحظة يطلق عليها علماء الاجتماع والفلاسفة، لحظة انعدام اليقين. ولعل تصويت ستة وخمسين مليون تركي من أصل ستين مليوناً يحق لهم الانتخاب، يدل على حجم الانخراط الذي تعيشه المجتمعات في محاولة البحث عن اليقين، وانقسام هؤلاء الى نصفين شبه متساويين، بين ثمانية وعشرين مليوناً في ضفة وخمسة وعشرين مليوناً في ضفة مقابلة، ومقابل الإثنين ثلاثة ملايين صوّتوا للمرشح القومي المتطرف، تعبير عن حال عدم اليقين، وعدم وضوح الخيارات بصورة حاسمة؛ وبالتدقيق في اتجاهات التصويت، سوف يتبين أن المدن الكبرى كانت صاحبة الصوت الحاسم لصالح خيارات كليجدار، مقابل تصويت الأرياف بنسب أعلى لصالح أردوغان. وهذا يعني أن الأرياف صوتت بدافع الميل لصالح الهوية القومية الإسلامية المتصالحة مع المنطقة، خصوصاً في ضوء مرارة التجربة مع محاولات الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، والإطار العنصري الذي قابلت به أوروبا طلب تركيا ذات الغالبية الإسلامية للانضمام إليها، بخلفية الخشية على التكوين الديمغرافي الأوروبي والحرص على ما وصفه الخبراء بالنقاء المسيحي، كما صوّتت لصالح دور الدولة الاقتصادي في السكن والتعليم والصحة ودعم الزراعة والسياحة والصناعة، بينما تأثرت المدن بالتطلع نحو الاندماج بالغرب خصوصاً مع الضائقة الاقتصادية وتراجع القيمة الشرائية لليرة التركية، وتغليب الدولة التي بلا هوية على نموذج الهوية التي قدّمها أردوغان، والتصويت للحريات بأبعادها الإعلامية والشخصية والاجتماعية بنسختها الليبرالية، بما فيها المثلية، والرغبة بالخروج من التوترات والنزاعات والحروب.
تكشف الانتخابات الدور المؤثر لشريحة وازنة وقضية بارزة. الشريحة هي الشباب الذين يتمركزون في المدن، ويبدو أن غالبية كبيرة منهم لم تصوّت لصالح أردوغان، ولو على خلفية طلب التغيير تحت شعار “عشرون عاماً تكفي”، أما القضية التي تعاني منها المدن وحضرت في خلفية التصويت بقوة فهي قضية اللاجئين السوريين، التي يتحمّل أردوغان مسؤولية تفاقمها، من موقعه ودوره في الحرب على سورية، مقابل التزام منافسه بإعادتهم خلال سنتين، ولو اقتضى الأمر ترحيلهم. والواضح أن ضغط قضية النزوح السوري على سكان المدن اقتصادياً واجتماعياً على خلفية الأزمة التي تعصف بالاقتصاد التركي وارتفاع نسب البطالة والتنافس على الأعمال بين العمال الأتراك والعمال السوريين، وتحميل البرجوازية السورية بين اللاجئين مسؤوليّة ارتفاع بدلات الإيجار والبيع في السوق العقاري، والسيطرة على بعض المهن، فيما يبدو أردوغان متردداً في اتخاذ القرار الذي يجعله أقرب لتقديم حل عملي لقضية النزوح، حيث يمكن التوصل مع الدولة السورية بدعم روسي إيراني خليجي، لروزنامة تتضمّن الانسحاب التركي من سورية وعودة النازحين وتفكيك الكانتونات التقسيمية والجماعات الإرهابية شمال شرق وشمال غرب سورية بالتوازي خلال سنتين.
يمكن القول إن الدورة الثانية قد تمنح فرصاً أفضل لمنافس أردوغان، إلا إذا أشهر أردوغان ورقته الرابحة بشجاعة، وأعلن استعداده للالتزام بروزنامة متوازية لعودة النازحين والانسحاب من سورية، عبر قمة سورية تركية بمشاركة روسية وايرانية تعقد في الرياض أو أبو ظبي تعلن هذا الالتزام وتضع له جداوله الزمنية.
بالرغم من أن عمر العلاقة الاستراتيجية بين سورية وايران يقترب من نصف قرن، في ظل استقرار النظام السياسي في البلدين، والثوابت الاستراتيجية لكل منهما تجاه الصراعات الدولية والإقليمية، خصوصاً في مرحلة ما بعد ما بعد سقوط جدار برلين وانهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، وتسيّد أميركا على العالم بقطبية أحادية شديدة القسوة، وبصورة أخصّ بعد تحرير المقاومة لجنوب لبنان عام 2000. وكان جوهر الجامع المشترك الدائم الذي شكل قاعدة هذه العلاقة لا ينبع من مصالح سلطوية أو اقتصادية صرفة، بل من الثوابت الاستراتيجية المتمثلة بخيار المواجهة مع مشروع الهيمنة الأميركية والكيان الغاصب لفلسطين وتبني خيار المقاومة. والدليل أنه وقفت خلالها سورية بكل ثقلها الى جانب إيران، كانت خلال ثماني سنوات الحرب العراقية المدعومة أميركياً والممولة خليجياً على إيران، وكانت سورية تعمل ضد مصالحها الاقتصادية والسلطوية، وتحمّلت مخاطر شن حملات استهدفتها هدّدت استقرارها وأمنها سواء عبر من كان يشغلهم ويموّلهم النظام العراقي السابق أو عبر ما قام به بتمويل خليجي تنظيم الإخوان المسلمين طيلة فترة الثمانينيات، أو من خلال حروب الاستنزاف التي شنّها كيان الاحتلال، سواء من خلال حرب زحلة وأزمة الصواريخ عامي 1980 و1981 وصولاً للاجتياح الإسرائيلي للبنان الذي كان من ضمن أهدافه إخراج سورية من لبنان وتهديد دمشق عبر حدودها، وبالمقابل فإن وقفة إيران مع سورية خلال أحد عشر عاماً كانت عكس المصالح الاقتصادية والسلطوية للنظام الحاكم، وكانت أكلافها تكاد لا تحتمل، ومعلوم أن الاتفاق النووي الذي عرض على إيران بنسخته الأولى في بغداد عام 2012، كان ملبياً لمصالحها، لكنه كان مشروطاً باستعداد طهران للتفاوض حول سورية مع واشنطن بما يضمن انسحابها من موقفها الداعم لسورية، وعندما رفضت طار الاتفاق. وفي المرة التي وقع فيها الاتفاق عام 2015 ولم ينتج عنه تبدل في موقف إيران الداعم لسورية كانت النتيجة المتوقعة الانسحاب الأميركي من الاتفاق والعودة الى العقوبات الأميركية على إيران.
مفهوم المصالح وعلاقته بنصاعة العلاقات بين الدول حاضر في العلاقة السورية الإيرانية، لكنه حاضر لدى الدولتين بصفته استشرافاً للمصالح الاستراتيجية البعيدة المدى، التي تتقاطع عندها مصلحة النظام الحاكم مع مصلحة الكيان السياسي الوطني وتتقاطعان مع الأهداف السامية للشعوب العربية والإسلامية، وجوهرها الوطني لكل منهما هو الاستقلال، وجوهرها القومي والإقليمي هو المقاومة. وهذا النموذج الجديد للعلاقات الدولية، كان الأساس الذي تقدم معه كمثال تبعته العلاقات السورية الروسية باعتماده أساساً للتحالف. وقد أظهرت الأحداث المتلاحقة صحة وصواب هذا الخيار وهذا المفهوم، على مستوى الثلاثي السوري الإيراني الروسي، حيث نجحت المواجهة المشتركة تحت عنوان المعركة مع الإرهاب، بحماية الأمن القومي لروسيا وإيران عن بُعد عبر المشاركة الكاملة في الحرب ضد الإرهاب التي خاضتها سورية، كما نجح هذا المثال بإثبات وجود فرص حقيقية للفوز بسباق المواجهة مع مشروع الهيمنة الأميركية، الذي فرضت عليه تراجعات كبرى بفعل الثبات السوري والايراني خلال الحربين الأميركيتين على أفغانستان والعراق والحروب الإسرائيلية على لبنان وغزة، والثبات السوري الإيراني الروسي خلال الحرب على سورية بكل مراحلها ووجوهها، ومن رحم هذا الثبات بدأت ملامح ولادة العالم الجديد، كما بدأت ملامح الشرق الجديد تولد من رحم الثبات السوري الإيراني في حماية خيار المقاومة ورعايته وقيادة محوره في مواجهة كيان الاحتلال، الذي بدأت علامات الشيخوخة تظهر عليه، ومعها المزيد من الوهن والمزيد من الانقسامات، وفي قلب هذه التغييرات الدوليّة والإقليمية نهضت قوى المقاومة في العراق وفي اليمن، وتغير بفضل ثباتها وجه المنطقة. وجاء الاتفاق السعودي الإيراني من بكين، تعبيراً عن كل هذه التحولات، باعتباره التجسيد الأهم لمفهوم الاستقلال الاستراتيجي للمنطقة كما وصفه المسؤولون الصينيون، وبصفته تعبيراً عن توجه سعودي للتلاقي مع إيران من خارج علبة الخيارات الأميركية، وبعيداً عن حسابات الرضا والغضب الأميركيين، ومثله الانفتاح المتسارع للسعودية على سورية.
تأتي زيارة الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي الى سورية هذه المرة، بعد سنوات من معادلة حكمت العلاقة السورية بكل من إيران والسعودية، كان عنوانها كل تحسّن سوري في ضفة يعني تأزماً في الضفة المقابلة، بحيث تعذر للوساطة الروسية عام 2017 النجاح بترميم العلاقة السعودية مع سورية دون أن تقبل سورية بشرط إضعاف علاقتها بإيران، وهو ما لم تقبل به سورية طبعاً، ولا طلبته روسيا بالتأكيد، لكن هذه هي المرة الأولى التي تبدو فيها العلاقة السورية بكل من إيران والسعودية موضوعاً للتساكن لا للعداء، رغم التنافس، بل ربما تمثل سورية الجسر العربي الذي تحتاجه السعودية للتحدّث مع حلفاء إيران من العرب وهم حلفاء سورية في الوقت نفسه، سواء في لبنان أو العراق او اليمن او فلسطين، ولهذا تبدو العلاقة السورية بكل من السعودية وإيران قابلة للتكامل مع بعد آخر قيد التشكل هو علاقتها بتركيا، ما يذكرنا بما سبق للرئيس السوري بشار الأسد أن نادى به من نظام إقليمي قائم على التشبيك الاقتصادي والأمني، تحت عنوان دول البحار الخمسة، ويبدو الشرق الجديد ترجمة لهذه الوصفة السورية، التي كلف رفضها من اللاعبين الرئيسيين في المنطقة شعوب المنطقة كلها أثماناً باهظة، وربما يوفر السير بها مزيداً من الأكلاف، وهنا يبدو مفهوم علاقات المصالح بين الدول القائم على الرؤى الاستراتيجية أكثر ثباتاً وأشد قوة من مفهوم المصالح التقليدي القائم على المصالح المباشرة والفورية سواء للاقتصاد او للمصالح السطلوية، والأهم أنه أكثر أخلاقية وأعلى مرتبة على الصعيدين الوطني والقومي، ومرتبطاً برفعة الشعوب وكرامتها.
تمثّل زيارة الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي أول زيارة لرئيس إيراني لسورية منذ الأزمة التي عصفت بسورية والحرب التي شنّت عليها قبل اثنتي عشرة سنة، وكانت آخر زيارة لرئيس إيراني الى دمشق قد قام بها الرئيس أحمدي نجاد، وخرجت منها الصورة الشهيرة التي تجمعه بالرئيس السوري بشار الأسد وقائد المقاومة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، والتي اعتبرها البعض أحد أسباب الحرب الأميركية الإسرائيلية على سورية، بصفتها أول إعلان عن تشكيل نواة لمحور المقاومة. ومع زيارة الرئيس رئيسي تنتشر تعليقات وتحليلات ومواقف تتحدّث عن فرضية ضغوط إيرانية على سورية للتنازل عن شروطها لعقد لقاء قمة يجمع الرئيس الأسد بالرئيس التركي رجب أردوغان.
ما لا ينتبه له الكثيرون أن الحديث يدور عن دولتين تلاقى نظام الحكم في كل منهما على بناء جسر استراتيجيّ لا يهتزّ منذ قرابة خمسة وأربعين عاماً، هي عمر انتصار الثورة الإسلامية في إيران وارتباط سورية معها بهذا التحالف الاستراتيجي، الذي وجدت فيه سورية تعويضاً عن خروج مصر مع اتفاقيات كامب ديفيد من الصراع مع كيان الاحتلال. وقد لا تكون في العام دولتان يحكمهما نظام مستقر بقيادة لون سياسي واحد يحافظ على إدارته للدولة خلال مثل هذه المدة الطويلة وترتبطان بعلاقة مشابهة، ونجحتا خلال هذه المدة الطويلة بتجاوز محطات شديدة الصعوبة واحتواء حروب وضغوط وحصار، فوقفتا معاً وراء المقاومة في لبنان حتى انتصارها عام 2000، وانتصرتا معها في حرب تموز 2006 ومثلها مع المقاومة في فلسطين حتى تحرير غزة عام 2005 وانتصرتا معها في حرب 2008، وتحملتا معاً أعباء دعم المقاومة في العراق لاستنزاف الاحتلال الأميركي وإجباره على الانسحاب عام 2011، وكانت التجربة الأهم والأعظم لهما في الانتصار على الحرب الكونية التي تعرّضت لها سورية، والنصر الأهم فيها كان على تنظيم داعش، في سورية والعراق، وصولاً الى إنتاج تحالف ثلاثي سوري إيراني روسي كان له الأثر الفاصل مع قوى المقاومة في فرض مسار من الانتصارات انطلاقاً من معارك حلب وصولاً الى الغوطة والجنوب والشمال في معارك دير الزور والبوكمال. وينطلق السوريون والإيرانيون من هذا الإرث العظيم لمناقشة كيفية مواصلة الطريق حتى تستعيد سورية عافيتها السياسية والاقتصادية، بصفتها، الركن الواقف على خط الأعاصير لهذا الحلف، فهي شرفة الحلف على المتوسط وهي جبهته على حدود فلسطين المحتلة، والتعافي السياسي هو بسط الدولة لكامل سيادتها على حدودها كما كانت عام 2011، والتعافي الاقتصادي هو استعادة الثورات النفطيّة التي تمكن الدولة من تشغيل اقتصادها انطلاقاً من إعادة الحياة لقطاع الكهرباء بكامل جهوزيته.
تدرك إيران بعمق أكثر من غيرها أن أي مطالبة لسورية بالتهاون في التوصيف والموقف من الاحتلال التركي، سوف يعني ثلاث نتائج مباشرة، الأولى هي توفير الغطاء لبقاء الاحتلال الأميركي، والثانية هي مزيد من التصلب لدى الجماعات الكردية المسلحة بخلفية الاستثمار على بقاء الاحتلال الأميركي، والثالثة هي فتح الطريق لإضعاف مشروع الدولة السورية، ما يعني فتح الطريق لاستعادة الجماعات الإرهابية التي يتقاسم الأميركيون والأتراك رعايتها بعض الروح التي فقدتها، وعودتها الى التوسّع خصوصاً في المناطق الرمادية كحال صحراء تدمر؛ بينما التمسك بدعم الموقف السوري بالمطالبة بموقف سياسي تركي واضح لجهة الالتزام بالانسحاب من الأراضي السورية، فسوف يعني إشعار الأميركيين بأن عليهم المسارعة بالانسحاب قبل أن يصبح احتلالهم مكشوفا بلا غطاء مع بدء جدولة الانسحاب التركي، وسوف يعني إشعار الجماعات الكردية ان الأميركي لن يبقى في سورية وأن لا ملاذ لها إلا العودة الى الدولة السورية والتفاوض معها على حلول سياسية. وهذا سوف يعني إشعار الجماعات الإرهابية بأنها باتت بلا غطاء وأن اي تحرك طائش سوف يُسرع بنهايتها، وهذا يعني تزعزع الكانتونات الانفصالية شمال شرق وشمال غرب سورية، وتلك هي وصفة التعافي التي تريدها إيران كما تريدها روسيا لسورية.
عشية زيارة الرئيس بشار الأسد الى موسكو قيل وكتب الكثير عن فرضية مشابهة لضغوط روسية على سورية للتخلي عن شروطها، لكن الحصيلة كانت أن اللقاء الذي جمع الرئيس الأسد بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يستهلك سوى دقائق معدودة لحسم هذا الأمر بتبني وجهة نظر الأسد، الذي أعاد تأكيدها عبر منابر الإعلام الروسي من موسكو.
– قمة رئيسي والأسد سوف تخرج سياسياً بما يعزّز موقع سورية واقتصادياً بما ينعش اقتصادها.
بمعزل عن لغة التخاطب السلبي بين التيار الوطني الحر وتيار المردة على خلفية الموقف من ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وما قاله كل من فرنجية ورئيس التيار النائب جبران باسيل في هذا الإطار، الأكيد أن التيار يعارض انتخاب فرنجية وقد عبر عن هذا الموقف بقوة، وصولاً الى وضع علاقته وتفاهمه مع حزب الله على المحك على خلفية هذا الموقف، وهو لا يزال عند موقفه المعارض والرافض، وهذا حقه الطبيعي الدستوري والسياسي والنيابي. وبالمقابل يعرف التيار أن حليفه السابق الأقرب الذي يمثله حزب الله ماضٍ بدعم ترشيح فرنجية، ومعه حليفه الثابت حركة أمل ورئيسها رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ومن حولهما نواب يزيدون عن العشرين نائباً، من مؤيدي ترشيح فرنجية أو من حلفاء ثنائي حزب الله وحركة أمل ومن طوائف مختلفة، والأكيد أن رفض التيار للسير بانتخاب فرنجية يمثل عقبة رئيسية في طريق وصوله أو قدرته على الحكم بالحد الأدنى، كما قال فرنجية نفسه، في إشارته الى ان تأمين الـ 65 صوتاً يبدو ممكناً لكن المسألة ليست في الانتخاب فقط بل بالقدرة على الحكم، خصوصاً أن أي تفكير بتفكيك الجبهة المسيحية المناوئة لانتخاب فرنجية يشير بوضوح الى أن التيار هو الجهة المطلوب أو المرغوب انضمامها لانتخاب فرنجية كي يستقيم الوضع مسيحياً.
البلد والتيار في منتصف الطريق نحو حقائق تتبلور بقوة أكثر يوماً بعد يوم، أولها وأهمها أن الاستقطاب الدولي والإقليمي الذي حكم المنطقة خلال عهد الرئيس ميشال عون وأدى الى تعطيل الكثير من فرص نجاحه وكان أحد الأسباب في فرض مسارات مالية لعبت دوراً في الانهيار، ومحوره الصراع المفتوح بين السعودية وإيران، لم يعد قائماً، وشيئاً فشيئاً وبسرعة يحل مكانه تقارب وتنسيق، ينطلق من أن المقاربة السعودية نحو إيران تأتي من خارج المظلة الأميركية التقليدية التي رافقت كل خطوات السياسة الخارجية السعودية تاريخياً، وأن وجود الصين كشريك ثالث في الاتفاق ليس شأناً بسيطاً. وها هي حرب اليمن توضع على سكة الحلحلة، والعلاقة السعودية السورية تسارع الخطى الإيجابية، والسعودية تبادر لإنهاء الأزمة مع حركة حماس، ما يجعل الخصومة السعودية مع حزب الله التي دفع التيار بعض أثمانها في طريق الزوال، وثاني هذه الحقائق أن المداخلة الدولية رئاسياً تبدو محصورة بفرنسا في ظل حذر أميركي من التصادم مع السعودية من جهة، ومن جهة مقابلة اهتمام فرنسي استثنائي لأسباب كثيرة بتحقيق إنجاز في السياسة الخارجية بحجم ما تتيحه الفرصة الرئاسية في لبنان، وضمان مصالح اقتصادية ليس أقلها قطاع النفط والغاز لشركة توتال، والمقاربة الفرنسية تبدو على خط تعزيز فرص انتخاب فرنجية بوضوح، كما لا يغيب عن التيار.
تبنّى التيار ورئيسه منذ إعلان رفضه لفرنجية وابتعاده عن الشراكة مع حزب الله في الملف الرئاسي، بالتزامن مع انسحاب الحزب التقدمي الاشتراكي من خيار ترشيح النائب ميشال معوض، إطلاق مسعى إنتاج معادلة لا فرنجية ولا معوض، نعم لمرشح ثالث، وفيما تبنى الاشتراكي ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون خياراً بديلاً أولاً رفضه التيار، لم يكن خافياً على التيار أن الاشتراكي كان يسعى مع القوات اللبنانية لصياغة مشتركة تحاكي ما قيل إنه تبنّ سعودي يدعم ترشيح قائد الجيش، وقد تكفل رئيس المجلس النيابي نبيه بري بتعطيل هذه الفرضية من موقع تبنيه لترشيح فرنجية وتحالفه مع حزب الله، مزيلاً عن كاهل التيار عبئاً ثقيلاً، عبر رفض ترشيح قائد الجيش دون تعديل الدستور الذي يبدو مستحيلاً. ومع نهاية هذه الفرضية انتقل الاشتراكي وسائر النواب المستقلين من حلفاء السعودية الى مرحلة جديدة عنوانها انتظار الموقف السعودي، الذي يبدو محسوماً أنه لن يصل الى دعم ترشيح فرنجية، على الأقل علناً، لكنه سيفتح الطريق لفرصة انتخابه عبر القول إن الأولوية هي لانتخاب الرئيس، وإن التوافق اللبناني هو الذي ينتج الرئيس الجديد، ولذلك لم ينجح مسعى البحث عن توافق كتلة وازنة على مرشح ثالث، يؤيده كل من التيار والاشتراكي والمستقلين، وكل يوم يبدو أن مثل هذه الفرضية تزداد ضعفاً وتراجعاً.
الخيارات تبدو بين فرضية اكتمال عقد الـ 65 صوتاً لصالح فرنجية وتوافر نصاب كاف لانتخابه، أو حدوث استعصاء في الغالبية اللازمة أو في النصاب المطلوب، فيستمر الفراغ إلى أجل طويل، وما يعلمه التيار ورئيسه هو أن التيار بعد التباعد الرئاسي مع حزب الله، لا يملك موازين القوى اللازمة التي تتيح له تحقيق ما لم يستطع تحقيقه في عهد الرئيس ميشال عون، أي تسمية الرئيس وضمان التوافق السياسيّ على خطة عمل يتبناها ائتلاف نيابي كافٍ لتسمية رئيس حكومة وتمثيل أغلبية حكومية ونيابية، لم تتحقق في عهد الرئيس عون، ويفترض أن التيار يدرك أن مفهوم الرئيس القوي المستند الى شخصية الرئيس عون وتاريخيته وحجم تمثيل التيار الأكبر نيابياً والتحالف مع حزب الله يومها، الأقوى من اليوم، بما له وما عليه، لم تكن عناصر كافية لضمان نجاح العهد بسبب غياب هذا الائتلاف الذي يشكل غالبية نيابية وحكومية، والملتزم بسلة متكاملة، كانت ما طلبه الرئيس بري للسير بانتخاب العماد ميشال عون ورفضها التيار يومها بداعي أن الرئيس هو السلة بذاته مرة، وأن طلب السلة غير دستوري مرة أخرى، وهو يعلم اليوم أن السلة، التي يسمّيها التيار بالمشروع هي المطلوب، لكن من الائتلاف النيابي الداعم للمرشح الرئاسي، وليس من المرشح الرئاسي.
جرّب التيار الرئيس بدون الائتلاف النيابي، وليس بمقدوره تأمين الرئيس والائتلاف معاً، فماذا سيختار الآن، الائتلاف النيابي الذي يلتزم السلة، أو ما يسمّيه رئيس التيار بالخيار الثاني القائم على أولوية التفاهم على المشروع بمعزل عن اسم الرئيس، الذي يشكل أولوية عند حزب الله من منطلق مفهوم الأمن القومي، فيقع تجديد التفاهم بينهما على هذه القاعدة، أم يختار التيار القفز الى خياره الثالث بترشيح رئيسه لتسجيل موقف يعرف أنه لن يغيّر المعادلة، أم يختار ترجيح كفة البقاء في الفراغ؟ السياسة ذكاء التوقيت، وامتلاك حكمة معرفة كيفية الاختيار بين خسارتين وربحين، وشجاعة الإقدام على الاختيار، ربح الرئيس والمشروع معاً ربحان غير متاحين، وخسارة الرئيس والمشروع خسارتان متاحتان، وربح الرئيس بلا المشروع افتراضي وغير متاح، وعندما تحقق بأفضل وجوهه مع الرئيس عون بدا أنه غير كافٍ، لكن ربح المشروع اليوم وقبول خسارة الرئيس فرضيّة واردة وأمر متاح، والسؤال دائماً أين يكمن ربح البلد ومدى أهمية أن يكون للتيار بصمة في صناعة هذا الربح. وفي السياسة عندما تجعلك الظروف والموازين موضع طلب، عليك أن تعرف أي العروض تطلب؟
لن نستطيع استيعاب حجم الانعكاسات المتسارعة لنهاية الهيمنة الأميركية على منطقتنا، ولا تفسير أشكال التموضع المتسارع في صفوف اللاعبين الفاعلين في المنطقة، إذا بقينا عند حدود ترسمها ضفاف السياسة والمصالح المباشرة والحروب، وقد كانت جميعها انعكاساً لتحولات أعمق جعلت ظهور هذه الانعكاسات حتمياً؛ فموقع السعودية في قطاع الطاقة وما يمليه من مصالح حيوية مع كل من روسيا والصين، والفشل الأميركي في أفغانستان وصولاً للاعتراف بالفشل وقرار الانسحاب، وحروب المقاومة وصمود قواها وحكوماتها في سورية وإيران، والصعود الروسي والنهوض الصيني، كلها عناصر حقيقيّة وصحيحة لعبت دوراً في التظهير السياسي للتحوّلات الجارية منذ انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي وتقدّم أميركا كقوة عالميّة وحيدة مهيمنة، تخوض الحرب دون خصم يواجهها، وتفرض العقوبات دون قانون دولي يمنعها، حتى بدأ الخط البياني الأميركي من تراجع الى تراجع، ومن أزمة الى أزمة، فما هي التحوّلات العميقة التي نتحدّث عنها؟
خاضت واشنطن معركة السيطرة على العالم تحت عنوان تحويل العولمة، بما هي تعبير عن ثورة تكنولوجية أضعفت أهميّة المسافات الفاصلة في الجغرافيا إلى مصدر لإلغاء الجغرافيا، بما تختزنه من خصوصيّات ومقدرات تميز الشعوب والأمم والدول، وكانت العالمية هي النسخة السياسية للعولمة، بمعنى الحكومة العالمية، التي لا تعترف بالجغرافيا، والفرد المعولم الذي يجري إلغاء خصوصياته الثقافية والدينية والتاريخية والقومية ليصير فرداً من أتباع الحكومة العالمية يشترك في السباق على الرفاه، بدلاً من التمسك بالجذور، لكن العولمة بما هي ثورة تكنولوجية منحت المنصات والقدرات والفرص للسباق بين مفهومي الفرد المنتمي لخصوصية ثقافية وجذور دينية وقومية، والحكومة العالمية، فكانت العولمة التكنولوجية التي اختصرت مسافات الجغرافيا سبباً رئيسياً للتحول الذي رد الاعتبار للجغرافيا بصفتها الحامل للخصوصيات الثقافية الدينية والقومية، ولم ينتبه الأميركيون إلى أن التحوّل الذي ركبوا على موجته في تفكيك الاتحاد السوفياتي، هو التمسك بالخصوصية الثقافية والقومية والدينية، التي كانت مقموعة في زمن عولمة من نوع آخر مثلها الاتحاد السوفياتي، وتجاهل الأميركيون القاعدة البسيطة التي تقول إن الباب الذي تدخل منه لا يمكنك منع الآخرين من الدخول عبره. وها هو الغرب كله في حرب أوكرانيا يخوض الحرب بوجه روسيا تحت عناوين سبق أن أعلن موتها، عندما قال إن زمن السيادة والوطنية قد انتهى في ظل العولمة وما نتج عن العالمية.
بمثل ما أصبح الفرد هو الوحدة التي تقوم عليها عولمة التكنولوجيا، حيث الاتصال بالتكنولوجيا فردي ولا يعبر من بوابة دولة أو قومية أو دين، عادت للفرد أهميته في مواجهة الآلة، حيث صار هو العمود الفقري للحروب، فعادت الجغرافيا تقاتل نهاية التاريخ، فالتاريخ من صناعة الجغرافيا المتعددة المتعاونة والمتحاربة، وظهر من رحم الخصوصية الثقافية والدينية والقومية، الفرد المقاتل بالروح مقابل الفرد المعولم المنتمي لظلال الحكومة العالمية المستند الى تفوق الآلة، وسقطت نظرية حرب أكلاف صفر، ومثلها نظرية لا حروب في البر بعد الآن والحرب تحسم من الجو، التي تحدث عنها دونالد رامسفيلد في حرب العراق، وجاءت حرب تموز 2006 تعبيراً عن أول مواجهة مكتملة بين النموذجين، وكان انتصار المقاومة في هذه الحرب إعلاناً كاملاً لفشل جيوش الأفراد المعولمين في مواجهة جيوش أفراد الخصوصية الثقافية والدينية والقومية، وتكرّر الأمر في غزة وكانت أفغانستان المحطة الفاصلة.
تغير مع عودة الجغرافيا والخصوصيات الثقافية والدينية والقومية، وعودة الفرد وعودة الروح، ما أكمل المشهد الجديد، حيث ظهرت الدولة الوطنية قادرة على الصمود والمقاومة بوجه حروب أميركية شديدة الضراوة وكانت ذروتها في الحرب على سورية، حيث وقفت الدولة الوطنية السورية بخلفيتها القومية، والدولة الوطنية الإيرانية بخلفيتها الإسلامية، تعبران عن الخصوصيتين الكبيرتين في المنطقة، العروبة والإسلام، وكان حزب الله كتعبير مزدوج عن هاتين الخصوصيتين القيمة المضافة في حسم وجهة الحرب التي أعادت تثبيت مكانة الدولة الوطنية في وجه الحكومة العالمية، وتلاقت مع هذه المعادلة والدولة الوطنية الروسية بخلفيتها القيصرية والأرثوذكسية، ثم تواصل التغيير في حرب اليمن حيث ظهرت التكنولوجيا الحربية الجديدة التي استثمرت على العولمة بصفتها ثورة تكنولوجية، قادرة على إسقاط قانون الحرب القديم، وتمكّنت الطائرات المسيّرة والصواريخ المجنحة الصغيرة والدقيقة، من هزيمة حاملات الطائرات العملاقة، وهذه التكنولوجيا الجديدة قابلة للإخفاء والتمويه وبلوغ الأهداف بسرعة ودقة ولا يمكن وقفها، وها هي حرب أوكرانيا تقول الكلمة الفصل لجهة تفوق هذه التكنولوجيا وتموضعها مكان تكنولوجيا حروب الدبابات والطائرات التي حكمت الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومن أبرز ما تغير أيضاً هو التغيير الذي أدخله الاقتصاد على مفهوم الدولة المهمة اقتصادياً، بعدما تمّ ربطه لعقود بحجم أرقام الناتج المحلي الذي لا يمكن منافسته لدى دول الاقتصاد الافتراضي، لتظهر العقوبات على روسيا أن الدول التي لا يمكن الاستغناء عنها ليست بالضرورة الدول التي تملك أعلى ناتج إجمالي، فمن يملك موقعاً لا يعوض في توفير موارد الطاقة لا يمكن الاستغناء عنه مهما كان حجم ناتجه الإجمالي، وهذا صحيح في حال روسيا وصحيح أيضاً في حال السعودية.
أظهرت الجغرافيا عودة التاريخ، ووضعت قوانين جديدة لمساره، وفي زمن العولمة بما هي ثورة تكنولوجية تم ردّ الاعتبار لقيمة عدد السكان، المستهلكين والمتصلين، وصار للدول مكانة اقتصادية وسياسية ترتبط بعناصر يقع عدد السكان في موقع هام منها، لا تمحوه العوامل الأخرى من القوة والغنى، وصار النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري للدول يرتبط طردياً بهذا العامل، وحيث على الدول التي تملك نفوذاً فائضاً أن تعيد التأقلم مع نفوذ يناسب حجمها السكاني ومحيطها الجغرافي، برزت فرص لنفوذ قابل للنمو للدول التي لا تملك ما يتناسب من نفوذ مع حجمها السكاني ومحيطها الجغرافي، عندما تمتلك قوة اقتصادية وعسكرية كافية لحماية هذا النفوذ. وهذا ما رسم نهاية حرب أفغانستان كنفوذ فائض يجب التخلي عنه، ويرسم مستقبل حرب أوكرانيا كنفوذ حيوي مشروع وممكن لروسيا، ويرسم مكانة الاتفاق السعودي الإيراني الصيني في معادلات النفوذ الإقليمي في المنطقة.
العلم يتغيّر بسرعة تحت تأثير قوانين غير قابلة للإلغاء والتطويع، حتى ينمو نفوذ الدول الصاعدة الى حدود الإشباع التي تحدّدها مصادر قوتها السكانية والاقتصادية والعسكرية، ويتراجع نفوذ الدول المهيمنة الى عتبة الإشباع التي تمّ تخطيها كثيراً، لأن العولمة متعددة والعالمية أحادية، وعلى العالمية أن تخضع لقوانين العولمة، بعد التمرّد الفاشل الذي أعلن نهاية التاريخ.
تدرك باريس ان لا بديل لفرنجية كمرشح تسوية، كما تدرك أنّ بديل التسوية هو الخراب، كما تدرك أنّ التسوية التي تتمّ مع فرنجية والضمانات المرافقة لها، هي تسوية مع حزب الله ومع سورية ومع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وان الضمانات التي يقدّمها هي ضماناتهم، وفرنجية معروف بشجاعته والتزامه وصدقه وفروسيته، لذلك يبدو مدعاة للسخرية الكلام عن دعوة فرنجية للاعتذار منه، ويبدو مبالغة القول إنّ دعوة فرنجية للمباركة له بالرئاسة، بل الدعوة هي خطوة مهمة في الطريق إلى الرئاسة التي ستتمّ صناعة خطواتها من الآن فصاعداً بعد الزيارة بالتشارك والتشاور بين باريس وفرنجية، والخطوات الباقية دقيقة وحساسة ولن يكون حكيماً وضعها تحت الأضواء قبل أن ينضج مشوار الرئاسة نحو النهايات السعيدة.
تشكّل متابعة ومراقبة مصادر القوة والضعف في السياسات الأميركية عنصر الثقل في استقراء المشهد الدولي، واستطراداً المشهد الإقليمي للمنطقة المرتبط عضوياً بما يجري من تغييرات متسارعة في موازين القوى على الساحة الدولية، حيث لا يبدو أن هناك فرصة للتشكيك بجدية وصدقية التحديات التي يمثلها الصعود الصيني الروسي المتسارع والمرتكز على عناصر لا تبدو قابلة للتغيير بعد استنفاد وسائل الضغط التقليدية، سواء عبر العقوبات المصرفية، التي تحوّلت الى مصدر استنزاف في مجال الطاقة لقدرة الدول الغربية على الصمود، وتهدّد بانفجار أوروبا، بينما أنتجت أساساً للتكامل الصيني الروسي اقتصادياً، وبالتوازي تحولت حرب الاستنزاف المفتوحة عبر أوكرانيا وسباق التسلح المفتوح في شرق آسيا، إلى مصادر استنزاف عكسيّة حيث تنفد المخزونات التسليحية في الغرب، وتحتفظ روسيا والصين بزمام المبادرة كل في مداه الحيويّ.
الأزمة المصرفية التي أطلت برأسها من مصرف سيليكون فالي وتحوّلت الى عدوى بدأت تعصف بمصارف كبرى أميركية وأوروبية، ليست مجرد أمر تقني عابر، ولا مكاناً للعلاجات التقنية في القدرة على أكثر من تأجيل الانفجار الآتي من خلال النتائج المترتبة على رفع أسعار الفوائد في كل دول الغرب، بالتوازي مع ارتفاع المديونية الحكومية وتجاوزها معدلات قياسية في ظل تراجع الواردات الحكومية بسبب الركود الاقتصادي، وما ينتج حكماً عن هذين العاملين من خلق بيئة مالية لها نتيجة وحيدة هي موت الاستثمار، بسبب العجز عن الحصول على التمويل ومتاعب سداد القروض، وتراجع الإنتاج، والذهاب الى تسييل الأسهم والأصول وسحب الودائع، وهذه مسارات مستمرّة ومتمادية وتفعل فعلها وتنتج المزيد من الاختناقات التي تبدأ بخروج الشركات الأضعف والمصارف الأضعف من الأسواق، ويليها مَن يقف وراءها في السلسلة وصولاً للحظة الحرجة التي تنتج معادلة الدومينو.
التراجع في حضور الدولار في الأسواق العالمية يشكل تحدياً موازياً للأزمة المصرفية، حيث تسببت العقوبات مع الاتساع والعمق الذي احتلته في الساحة المالية العالمية، سبباً لتراجع الثقة بالنظام المالي والإدارة الأميركية له وهي إدارة مستندة الى مكانة الدولار المهيمنة، والنتيجة الطبيعيّة للعقوبات من جهة، وتراجع الثقة بنظام الدولار المهيمن من جهة موازية، انسحاب أسواق وودائع من الدولرة، وهنا يبدو واضحاً أن الصين تتجه الى تعزيز مكانة عملتها اليوان كعملة موازية ورديفة للدولار في مبادلاتها التجارية. وهذا هو ما تقوله الاتفاقات الروسية الصينية، وما تبشر به الاتفاقيات الصينية السعودية، وبالتوازي الاستعدادات التي تجري على ساحة مجموعة بريكس وخصوصاً في أميركا اللاتينية بقيادة البرازيل الذي يزور رئيسها الصين، لإطلاق عملة رديفة تعتمدها دول بريكس في مبادلاتها التجارية والمالية وحفظ ثرواتها. وهذه البيئة المالية الجديدة الوافدة تزيد عناصر الضعف الأميركي بمثل ما تعزز وضعية المنافسين الصاعدين الى الساحة الدولية.
في قلب هذه العناصر المأزومة المتنامية تشهد واشنطن أزمات عاصفة في أربع ساحات حساسة في صناعة مصادر قوتها، تل أبيب تحت تأثير موجات انقسام حاد يهدّد وفق رئيس الكيان بحرب أهلية، وسط تراجع مشروع التطبيع، وتصاعد المقاومة الفلسطينية، ونمو حضور ومعادلات محور المقاومة، دون وجود أفق لتجاوز هذا المأزق الخانق، وفي باريس التي تشكل قلب الرهان الأميركي في أوروبا التقليدية أزمة تخرج عن السيطرة، وسط شارع ملتهب وحكم عاجز عن إنتاج الحلول الوسط، وسط اقتصاد نازف ودولة عاجزة عن تمويل نفقاتها مثقلة بالديون حتى أذنيها، وبالتوازي تموضع إقليمي لأكبر حليفين لواشنطن خارج السياق التقليدي، بعيداً عن الرؤى والسياسات الأميركية، تركيا تصغي لموسكو وطهران أكثر مما تصغي لواشنطن، خصوصاً في الملف الأهم في الإقليم المتصل بسورية، والسعودية اللاعب الأهم في سوق الطاقة والمصدر المتبقي لتأمين موارد الطاقة اللازمة لأوروبا مع توقف سلاسل التوريد الروسية، تذهب سريعاً لتقديم تفاهماتها مع موسكو وبكين على مطالب واشنطن، وتختار بكين راعياً لاتفاق مفاجئ لـ واشنطن مع طهران وانفتاح على دمشق بعكس النصائح والطلبات الأميركية.
من لا ينتبه الى أن القبضة الأميركية تفقد الكثير من عناصر القوة للقبض على المنطقة، وحصرية رسم السياسات فيها، ولا يلاحظ أن التراجع الأميركي استراتيجيّ وليس تكتيكياً، وأن معادلة المنطقة ومنها لبنان، تصبح سعودية إيرانية سورية تركية روسية صينية، آسيوية في جوهرها، أكثر مما هي أطلسية متوسطية، لديه مشكلة في النظر أو في الفهم، أو في كليهما.
إذا كانت روسيا تتمسك باستمرار بالنظرية الأوراسية تأكيداً على نصفها الأوروبي، ومثلها تفعل تركيا، بانتظار الظروف المناسبة لتظهير هذا النصف استراتيجياً وسياسياً واقتصادياً، فإن الصين ومن بعدها الهند، الواقعتين في الطرف الشرقي من آسيا تتراصفان كمعدة وكبد في الجسد الآسيوي تحتله الصين بامتياز، حيث تتمّ عمليات الإنتاج وامتصاص العائد الغذائي وإعادة تدويره في عمليات إنتاج جديدة، بينما ترتضي الهند مؤقتاً بدور الأمعاء حيث عملية التمثيل الغذائي الصعبة والمعقدة، تقع إيران في الوسط المحوري التناظري بين الجهات الأربع لآسيا، شمالها وجنوبها وشرقها وغربها، بحدود برية مع تركمانستان وأذربيجان وأرمينيا وأفغانستان وباكستان والعراق وتركيا، وحدود بحرية مع روسيا أذربيجان، تركمانستان وكازاخستان عبر بحر قزوين، ومع الكويت والعراق والإمارات والبحرين وقطر والسعودية وعمان عبر الخليج وبحر عمان، أي ما مجموعه ست عشرة دولة، تضعها على مسافة دولة واحدة من كل دول آسيا تقريباً، بما فيها الهند والصين وسورية والأردن.
إذا كانت فلسفة الجغرافيا السياسية لنهوض آسيا الذي تشكل روسيا الصاعدة عسكرياً وسياسياً والصين الناهضة اقتصادياً وسياسياً علامته الفارقة، هي الاستقلال، سواء بمفهوم الدولة الوطنية المستقلة الذي تباهي الصين وروسيا باعتباره نموذجها الجامع القابل لتقبل الآخر بخصوصيته على قاعدة التمسك بقبول الآخرين بالمثل بهذه الخصوصية، أو بمفهوم استقلال آسيا عن مشروع الهيمنة الغربية الذي شكلت حروب الإخضاع الأميركية أداة انتهاكها الفاضحة والواضحة، فإن إيران المنفتحة إيجاباً على الترحيب بعلامات الصعود الروسي والنهوض الصيني بصفتها علامات استقلال آسيا كمجموع واستقلال دولها الرئيسية بالمفرد، فإن إيران ولو لم تتباه بموقعها الريادي في صناعة هذا المفهوم للاستقلال وتحملها التبعات الأشدّ صعوبة للدفاع عن هذا المفهوم، تبقى الدولة التي تصدّرت بين دول آسيا المواجهة المفتوحة بأشدّ الشروط صعوبة وقسوة مع مشروع الهيمنة الغربية والحروب الأميركية، وهي منذ إعلان جمهوريتها الإسلامية على خط تماس هو الأصعب والأعقد مع الهيمنة وحروبها، وهي التي أخذت على عاتقها دعم ورعاية المواجهات التي خاضتها دول وشعوب آسيا في وجه الهيمنة وحروبها، من أفغانستان الى العراق الى سورية ولبنان وصولاً الى اليمن وفلسطين، وليس خافياً أنه لولا هذه المواجهات التي تشكلت خلالها ظروف تراجع المشروع الغربي بنسخته الأشد وحشية لبأس قادتها واشنطن، والتي شجعت روسيا والصين على التقدم الى صفوف المواجهة المباشرة، لكن قضية إيران بقيت خارج دائرة المعايرة الذاتية بأولوية موقعها، بل الاستثمار على كل تقدّم في موقف وموقع كل من روسيا والصين، للسير قدماً نحو آسيا مستقلة. وهذا هو مضمون موقف ايران التي ضحّت بالاتفاق النووي لتشجيع روسيا على الاستثمار في صناعة النصر في سورية.
بهذه العين تتعامل إيران مع الدور الصيني في رعاية التفاهم مع السعودية، وبمثله مع الانخراط السعودي في تفاهم ترعاه الصين، وفي كليهما سياق متقدّم لمفهوم آسيا المستقلة، لأن القضية التي حملها الاتفاق الثلاثي الصيني السعودي الإيراني الى الواجهة أبعد بكثير من اتفاق إيران والسعودية على إعادة العلاقات الدبلوماسية والتعاون في حل المشاكل الإقليمية، لأن القضية الأبرز في هذا الاتفاق هي استعداد الصين لتحمل تبعات الدخول في منافسة مباشرة مع الأميركي على رعاية الاستقرار الاستراتيجي في الخليج وضمان أمن ممرات ومنابع الطاقة، بما يعني تحمل تبعات موقع الدولة العظمى، وهو خطوة متقدّمة في سياق تغيير المعادلات الاستراتيجية الحاكمة للجغرافيا السياسية والاقتصادية في آسيا، وبالتوازي استعداد السعودية للتموضع تحت مظلة استراتيجية مستقلة عن الهيمنة الأميركية تفرضها حسابات المصلحة الوطنية، وهو ما يعني تقدّم مفهومي الدولة المستقلة وآسيا المستقلة معاً. وهذه الأهداف بالنسبة لإيران تستحق بذاتها ما يتجاوز التفاصيل البينية، فكيف إذا كانت هذه التفاصيل تحمل إيجابيات كافية للدفع بها إلى الأمام.
يبقى الأهم أن ما بنته إيران من مقدرات للمواجهة خلال أربعة عقود رسم قانون الحرب الحديثة، بصفتها حرب الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة، التي يقول الخبراء اليوم إنها حرب القرن الحادي والعشرين، وإنها الحرب التي تشكل إيران فيها دولة أولى في العالم. وهذا يمنح إيران فائض قوة في حساب الموازين المحدّدة لأي حرب، كما يبقى الأشد أهمية أن استقلال آسيا لا يستقيم مع بقاء كيان الاحتلال كقاعدة عسكرية متقدمة للغرب، وتبقى إيران أكثر دول آسيا وضوحاً وجذرية في خوض الصراع مع هذا الكيان. وهذا يمنح إيران قيمة مضافة لا يملكها سواها من دول العالم عموماً وآسيا خصوصاً، لجهة التموضع في خندق الاشتباك الأول مع الكيان.
إيران هي القلب الاستراتيجي لآسيا المستقلة.جمهورية وإنقاذ لبنان من الانهيار.
تدور معارك مدينة باخموت منذ شهور ببطء شديد وضراوة عالية، ولم يعُد مهماً النقاش حول أهمية المدينة الاستراتيجية، سواء بصفتها عقدة وصل الطرقات الكبرى بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، أو مفتاح السيطرة على منطقة دونباس، بعدما صار محسوماً أن القوات الروسية تضع نخبتها القتالية إلى جانب قوات فاغنر بهدف السيطرة على المدينة، وتقابلها القوات الأوكرانية بقتال مستميت لعشرات آلاف جنود القوات الخاصة، وتتمركز من حول معركة المدينة وصولاً الى الخطوط الخلفية في القوات الروسية والأوكرانية وما تحتويه من مئات المدافع وراجمات الصواريخ، وطلعات القوات الجوية القتالية والمسيّرة للفريقين في أجواء المدينة وما حولها، وصار واضحاً أن أحداً لن يتراجع للآخر ويصرف النظر عن معركة المدينة، بصورة تجعلها أم المعارك في أوكرانيا.
لم تنفع النصائح الغربية في إقناع القيادة الأوكرانية بالتخلي عن باخموت، ولا أدّى التقدم الروسي الى إقناع القيادة الأوكرانية بأن الثبات في المدينة ميؤوس منه، ووفق الخبراء تتشكل في المدينة أضخم التحصينات الأوكرانية، ما يجعل التقدم كل متر بمتر بكلفة عالية اختصاراً للمشهد من الزاوية الروسية، وهذا يعني عملياً أنه كما كانت معارك في أول الحرب علامة على وجهة المرحلة الأولى منها، وتأمين تدحرج انتصارات شواطئ بحر آزوف والبحر الأسود لصالح روسيا، قبل أن تستعيد القوات الأوكرانية زمام المبادرة في جبهتي خاركيف وخيرسون وتفرض على القوات الروسية الانسحاب، تبدو معركة باخموت بتراضي الطرفين هي المنازلة الحاسمة التي سيكون لمن يربحها فرصة التقدّم السريع بعدها نحو النصر، ونجاح القوات الأوكرانية في الصمود ومنع النصر الروسي في باخموت، سوف يكرّس موازين قوى متعادلة، لا يمكن للروس إنكارها. وهذا يعني فتح مسار تفاوضي على قاعدة ميزان قوى راجح لصالح أوكرانيا، رغم صعوبة الحديث عن شعار إخراج القوات الروسية من كل الأراضي الأوكرانية الى حدود عام 2014، لكن اندحار القوات الأوكرانية سوف يعني أن ما سقط بيد الروس ليس باخموت، بل أوكرانيا بكاملها، حتى لو لم تدخلها القوت الروسية.
المعركة الاستراتيجية الفاصلة محطّة معروفة في كل الحروب، حيث يتمسك الطرفان المتقابلان بنقطة مفصلية في الجغرافيا، سرعان ما تتحوّل إلى نقطة معنوية، تواكبها مواقف معلنة وقرارات عملية تدفع الحرب باتجاه يربط مصيرها بمصير هذه المعركة. وهكذا هي باخموت اليوم، كما كانت معركة العلمين في الحرب العالمية الثانية، والقصير أو حلب في الحرب السورية، ومعارك بنت جبيل وعيتا ومارون في حرب 2006، وواقعياً لا تكون ميزات النقطة التي تقع فيها المعركة الفاصلة هي التي قرّرت لها هذه الصفة، بقدر ما يكون الإصرار السياسي على المعنوي سبباً في العناد العسكري بقبول الزجّ بأهم المقدرات في معركتها، وكلما كبرت الخسائر في خوض المعركة زادت قيمتها الى حد يجعلها موازية لحجم التكلفة التي ترتبت عليها، وليس لأهميتها بذاتها بمعزل عن هذه التكلفة، ويصير العناد السياسي والعسكري تعبيراً عن عدم القدرة على التسليم بهدر هذه التكلفة العالية، والمضي قدماً، على طريقة المقامر الذي يخسر ماله وتصبح قيمة اشتراكه في اللعبة بحجم ديونه وخسائره، أملاً بتعويضها كلها بربح يجمع خبراء الغرب على أن النصر الروسي في باخموت حتميّ، ولذلك نصحوا الأوكرانيين بعدم تحويلها الى مقبرة للجيش الأوكراني، بحيث يصبح محسوماً مصير كل المعارك اللاحقة مع إعلان الجيش الروسي إكمال السيطرة على باخموت، ويصرخ القادة الأوكرانيون اليوم طلباً لمزيد من الذخائر الصاروخية والمدفعية الذكية، ويرد قادة الغرب أن مخزونهم نفد، ويصرخ القادة الأوكرانيون انهم يحتاجون فوراً إلى طائرات مقاتلة لتغيير الموازين، ويتردّد الغرب في تقديم طائراته وقوداً لمعركة محسومة الخسارة.
ايام أو أسابيع وتصبح باخموت في قبضة الجيش الروسي، وتكون حرب أوكرانيا ولو استمرّت في جبهات أخرى، قد حسمت، لأن من خسر باخموت لن يستطيع النصر في سواها.
تنتمي أغلب المواقف التي أعقبت الإعلان الصيني الإيراني السعودي إلى أحد اتجاهين، الأول هو التهوين من حجم الحدث وتخفيف أهميته الى حد القول إنه حدث عادي لا مترتبات تتجاوز حدود اعادة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية، والتذكير بأن الأزمات الكبرى في المنطقة وطبيعة التموضع حولها حقائق سابقة لقطع العلاقات الدبلوماسية، وقد تمّت في ظل هذه العلاقات، والعودة إلى العلاقات تعني العودة الى المربع الذي كانت فيه هذه الأزمات وكان فيه هذا التموضع؛ أما الإتجاه الثاني فهو اتجاه تعظيم ما جرى إلى حد اعتباره إعلان انتقال المنطقة إلى زمن الحلول السحرية لأزماتها بكبسة زر، من اليمن الى العراق وسورية ولبنان، على قاعدة اعتبار الدور المحوري للمواجهة السعودية الإيرانية في هذه الأزمات؛ ولأن المطلوب هو قراءة واقعية لا تنطلق من المخاوف أو التمنيات، تصبح العودة الى الوقائع بعيداً عن المشاعر السلبية والإيجابية هي الطريق، سواء من يخشى من خصوم السعودية أن يقع كلامه الإيجابي في منزلة مديح يريد أن يحسب عليه للموقف السعودي فيغلّب الشكوك على الوقائع، أو من كان ينتظر توافقاً إيرانياً سعودياً ورأى في الاتفاق ترجمة لهذه الرغبة فأسقط عليه كل تمنياته بنهاية أزمات المنطقة.
نقطة البداية الصحيحة في القراءة الواقعية هي في مكانة الصين المحورية فيه، لأن الاتفاق بذاته قابل لأن يكون عادياً لو كان توقيعه في بغداد أو مسقط، ويمتلك صفته الاستراتيجية من كونه وقع في بكين وبالشراكة معها، لأن دخول الصين إلى مرتبة الشريك وليس الراعي والمضيف فقط، ليس حدثاً عادياً، فنحن نتحدث عن الصين التي تشكل وفقاً للتعريف الأميركي العدو الاستراتيجي الأول في العالم، ونتحدث عن منطقة تتشاركها إيران والسعودية بصفتها مورد الطاقة الأول في العالم، ونتحدّث عن دولتين هما إيران الخصم الأول للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط، والسعودية الحليف الأول لواشنطن في استراتيجيات الطاقة وأمن الخليج، وعندما تحلّ الصين في موقع الشريك مع إيران والسعودية بعد اتفاقات استراتيجية صينية إيرانية وصينية سعودية، والصين هي المستهلك الأول للطاقة في العالم، فنحن نتحدث في كل ذلك عن قوة طرد عكسية للحضور الأميركي، وعن تموضع القدم الصينية في هذه المنطقة الشديدة الحساسية في الحسابات الأميركية، ضمن سياق اقتصادي وأمني واستراتيجي، وهذا تحوّل كبير وهائل في خرائط العالم الجيواستراتيجية، وفي مؤشرات اتجاه العالم الجديد، ولعل المواقف الأميركية الساخطة والغاضبة هي أكبر دليل على حجم الخطوة. النقطة الثانية في فهم ما يجري وانعكاساته على المنطقة لا تأتي من سياق توقع مبادرات سعودية أو إيرانية، أو سعودية إيرانية، بشراكة صينية أو بدونها، بل من النتائج الطبيعية التلقائية للاتفاق، الذي يقع على منطقة شهدت خلال عشر سنوات مضت متغيرين كبيرين: الأول هو استنهاض العصبيات الطائفية واستثمار جماعات الإرهاب والتكفير فيها، حيث شكلت كل من السعودية وإيران مرجعيتين واضحتين لهذا التصعيد في حرب مذهبية باردة وحارة شكلت حصان رهان أميركي اسرائيلي في تغيير موازين القوى في المنطقة في مواجهة قوى المقاومة. والثاني هو موجة التطبيع العربية الإسرائيلية التي كانت تستثمر على نظرية الخطر الشيعي المفترض على السنة وعلى الحاجة للتعاون مع كيان الاحتلال لتحقيق نوع من التوازن بوجه التفوق العسكري للمحور الذي تقوده إيران والذي تسميه السعودية وحلفاؤها بالهلال الشيعي. والاتفاق يعلن ان الخلاف بين السعودية وإيران هو خلاف قابل للاحتواء بالتفاوض والحوار والوساطات، ويُنهي الحاجة للتعبئة والشحن بلغة مذهبية تصعيدية، بما يسقط الأرضية التي تقف عليها دعوات التطبيع، وهذا هو الذي يفسّر التعليقات الإسرائيلية، التي عبرت عن يأسها من مستقبل التطبيع، ومستقبل الرهان على مواجهة بين السنة والشيعة.
النقطة الثالثة هي ما سيجري في سياق الاتفاق وفقاً لما هو معلن، وأوله التعاون في إنهاء حرب اليمن، وهو ما يبدو أنه متروك لمهلة الشهرين التي تسبق تنفيذ العودة للعلاقات الدبلوماسية وفقاً للطلب السعودي، بالإضافة لبعض الترتيبات الأمنية التي يبدو أنها تخصّ وقف الإمداد السعودي المالي والإعلامي والأمني للجماعات المعارضة داخل إيران، وفقاً للطلب الإيراني، والواضح أن مفاوضات الحل في اليمن بلغت مراحل متقدمة عطلتها التدخلات الأميركية، وفقاً لما قاله السيد عبد الملك الحوثي، ويفترض أن السعودية سوف تقوم بالسير بحاصل التفاوض بعيداً عن الشروط الأميركية، بعد ضمانات صينية وإيرانية، تفادياً للبديل المتمثل بالعودة الى الحرب وأضرارها غير المحسوبة والتي قد تخرج عن السيطرة في تداعياتها على الأمن الإقليمي وفي مقدّمته أمن الطاقة الذي يهم إيران والسعودية ويهم الصين خصوصاً، وبالتوازي يبدو أن الصين تواصل ما بدأته من وساطة لتزخيم وتسريع التعافي في العلاقة السعودية السورية، وقد لعبت في الماضي دوراً في هذا السياق وتواصل اهتمامها بهذا الملف، بينما سيقع لبنان على ضفة التلقي الإيجابي لتبريد العلاقة السعودية الإيرانية، وحرب اليمن والعلاقة السعودية السورية، حيث أزمة العلاقة السعودية مع حزب الله التي تغذّي مواقف لبنانية مناوئة للمقاومة ومعطلة للاستحقاق الرئاسي، ترتكز الى تباين مواقف السعودية وحزب الله تجاه ايران وسورية وحرب اليمن.
سيبقى التنافس الإيراني السعودي في كثير من الساحات وستبقى الخلافات في كثير من الملفات، لكن فتائل الانفجارات قد تمّ سحبها الى غرف التفاوض، وفي الساحات التي يتغذّى اللهيب فيها من التصعيد بين الدولتين سيجد المراهنون والمستفيدون أن الظروف تغيرت، والموازنات تختفي، ومنصات الإعلام يصيبها البرود.
لا يستطيع أحد أن يزعم أنه كان يتوقع حدوث ما حدث، حتى الذين كانوا يتوقعون التلاقي السعودي الإيراني، كانوا ينتظرون الخطوة من بغداد أو مسقط أو الدوحة، وهذا المستوى من التلاقي يبقى التفاهم ضمن إطار المعادلات الاستراتيجية التي حكمت المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث الحركة السعودية وما تمثل من وزن في العالمين العربي والإسلامي، مسقوفة بالمظلة الأميركية. وعندما نقول إن لا أحد يستطيع الادعاء بأنه كان يتوقع، نقصد بالتحديد، أن تتم التفاهمات السعودية الإيرانية تحت المظلة الصينية. ومن يتابع التصريحات الأميركية والإسرائيلية يشعر بحجم الارتباك الناجم عن البيان الصيني السعودي الإيراني، الذي يبدو من التعليقات ودرجة الارتباك فيها أن واشنطن وتل أبيب تبلغتا البيان من وسائل الإعلام، ولو أن واشنطن تقول إنها كانت في صورة التوجه السعودي، لكنها تفاجأت بالدور الصيني، وهي ترفق في بيان لمجلس الأمن القومي تعبيرها عن الامتعاض، باالقول «لم يكن لنا دور في الاتفاقية» و»نراقب عن كثب النفوذ الصيني في المنطقة»؛ بينما تقول «إسرائيل» بلسان مصدر أمني كبير»إن الاتفاق سيؤثر على فرص تطبيع العلاقات مع السعودية». ويواكبه كلام للرئيس الأميركي جو بايدن يتحدث عن «معيار التطبيع بين العرب وإسرائيل» للاستقرار في المنطقة، وهو يعلق على التفاهم السعودي الإيراني.
اللقاء الذي تمثلت فيه السعودية وإيران بالشخصيات الأولى المسؤولة عن الملف الأمني، تحت رعاية الرئيس الصيني، وبثلاثة تواقيع سعودي وإيراني وصيني، يأتي امتداداً لما أعلن من علاقات استراتيجية بين السعودية والصين، وتعاون اقتصادي بنصف تريليون دولار، وعلاقات استراتيجية صينية إيرانية واستثمارات بقيمة موازية، وهذا يجعل المثلث الصيني السعودي الإيراني مثلثاً معنياً بأمن الخليج، بصفته مورد الطاقة الأهم في العالم، يحاول منافسة الدور التقليدي الأميركي القائم على ادعاء ضمان أمن الطاقة من البوابة الخليجية، وإذا كان موقف إيران من الدور الأميركي في الخليج معلوماً ومفهوماً، فإن الجديد هو ما يظهره الموقف السعودي من سعي لبناء موقع مستقل بنكهة عالمية لدور السعودية في سوق الطاقة، ينظر بعين مرجعية دولياً لهذا الدور، حيث روسيا شريك الإنتاج الأول، والصين زبون أول، وإيران شريك إنتاج، لكنها شريك الأمن الأول، والخطوة ليست عادية بمنح الصين موقع ودور الراعي لأمن الطاقة، بصفتها المستهلك الأول؛ وهذا يعني وجود مشاريع مشتركة بين أضلاع المثلث الجديد، تشبه شراكة الثلاثي الروسي الإيراني التركي، ومهمة المثلث الجديد اقتصادية وليست فقط أمنية، حيث وصلت خطة الحزام والطريق الى ضفتي الخليج بصورة منفصلة وتقوم بربطهما معاً الآن، وربما تخطط لموانئ دوليّة عملاقة لتصدير النفط والغاز منهما.
اللاعب الإقليمي المقابل لإيران والمنافس لها على كسب التفاهمات في الخليج هو كيان الاحتلال، الذي يعيش أسوأ أيامه، والذي يفقد مع هذا الاتفاق أهم رهاناته في العقد الأخير، ببلوغ التطبيع الذي بدأ مع دول خليجية الجدار السعودي والنجاح في اختراقه رسمياً وعلناً، لأن الاختراقات القائمة والقديمة لا تحقق المطلوب، طالما أنها موضعية وتحت الطاولة، وخسارة كيان الاحتلال لرهان التطبيع ليست شأناً عادياً في المنازلة القائمة بين إيران وإسرائيل»، كيف إذا أضيف إليها سقوط رهان آخر لا يقلّ أهمية، هو الرهان على الفتنة السنية الشيعية، حيث تمثل إيران والسعودية الزعامتين الكبيرتين للمذهبين اللذين تراهن «إسرائيل» أن تعيد شراء أمنها بإشعال الحرب بينهما. وتكفي نظرة على العقد الماضي لنعرف أن كل حروب التآكل والفتن التي عصفت بدول المنطقة وفتت وحدة شعوبها وهدّدت أمنها وسلمها الأهلي، وصعدت خلالها التنظيمات التكفيرية الإرهابية التي استثمرت على أدوارها «إسرائيل» في صناعة جدران حماية أمنية لكيانها، قد ارتكزت على الاستثمار في الصراعات المذهبيّة بين السنة والشيعة، انطلاقاً من الخلاف الإيراني السعودي.
في المنطقة ملفات كثيرة تنتظر التبريد، ولا يعني ذلك بالضرورة حلولاً تصنعها مبادرات متفقٌ عليها بين إيران والسعودية، خصوصاً مع تمسك إيران بعدم الدخول في مفاوضات بدلاً من حلفائها، لكن عندما تزول من الحسابات السعودية معادلة المواجهة مع إيران في كثير من الملفات، مثل اليمن وسورية ولبنان والعراق، ويتم تبريد خطاب التوتر المذهبي وتداعياته السياسية، تزال عقبة كبرى من طريق صناعة التسويات على المستويات المحلية من جهة، ولا تعود هذه التسويات المنصفة للقوى المحلية الحليفة لإيران، تراجعاً أمام إيران، ويصبح ممكناً للسعودية الإقدام على بحث الأزمات المحيطة بعلاقاتها بالقوى الفاعلة في هذه الساحات بقياس مختلف، ولا تعود القوى المرتبطة بالسياسات السعوديّة على درجة التوتر الذي تعيشه اليوم لتظهير مواقف تحظى بالرضا السعوديّ، كلما رفعت سقوفها العدائية لمن تصفهم بحلفاء إيران، وهذه العناصر كافية لتمهيد الطريق لتسارع فرص التسويات بأكلاف أقلّ.
الاتفاق الذي سينفذ في شقه الدبلوماسي الخاص بعودة السفارات خلال شهرين، يعني أن ثمّة ما سيجري خلال هذين الشهرين، ويرجّح أن يكون المقصود هو ترجمة التعاون الأمني في تسريع الحل في اليمن. وهذا هو معنى قيادة الشخصيات الأمنية للاتفاق من الجانبين السعودي والإيراني، خصوصاً أن الشق المتصل بالسعودية وأنصار الله من الاتفاق حول اليمن قد بات شبه منجز، والمطلوب التجرؤ على المضي فيه رغم العرقلة الأميركية التي تحدّث عنها السيد عبد الملك الحوثي، وعندما تتحسّن العلاقات السعودية مع إيران، ويغلق باب الحرب في اليمن، تسحب الكثير من فتائل التأزم بين السعودية وحزب الله في لبنان، وتسقط الكثير من عناصر الافتراق مع سورية. الاتفاق الذي يفتح صفحة إقليمية جديدة بطي صفحة النزاع بين قوتين إقليميتين كبيرتين، ويفتح صفحة دولية خطيرة باستبدال رعاية واشنطن كقوة دولية شكلت رمز مشروع الهيمنة، برعاية بكين التي تدخل مياه الخليج وأمنها وأمن الطاقة من الباب الواسع، يؤكد أن الحركة السعودية نحو هذا التموضع ليست منسقة مع الحركة الأميركية نحو التفاهم النووي مع إيران، بل يضع الحركتين في موقع التنافس والتسابق على احتواء كل من الطرفين السعودي والأميركي لما سوف ينتج عن حركة الطرف الآخر نحو إيران.
بعد التسابق الأميركي السعودي على إيران وبالتوازي معه سوف نشهد التسابق السعودي التركي الأميركي على سورية. هل يؤمن بعض اللبنانيين الذين يتحدثون علناً عن سقف سعودي لمواجهتهم مع المقاومة، أن عليهم فعل ما تفعله السعودية بقياس مصالحها الوطنية، بما في ذلك في مخاطبة دولة عظمى هي حليف تقليديّ للسعودية، كما هو حال واشنطن بالنسبة للرياض، والرياض لم تنتظر إشارة أميركية، فهل ينتظرون الإشارة السعودية، أم يتعلمون الدرس السعودي؟
مهما حاول الأميركيون وجماعاتهم في المنطقة التخفيف من القيمة الاستراتيجية للتوقيع الصيني على الاتفاق السعودي الإيراني، فهي تشبه محاولات التخفيف من القيمة الاستراتيجية للتفاهم الروسي التركي الإيراني الذي بدأ حول سورية.
واقعياً تفقد واشنطن القدرة على تحريك دولتين حليفتين كبيرتين في الإقليم، هما السعودية وتركيا، وأن روسيا بقوة التحالف مع إيران نجحت في جذب تركيا للشراكة في مثلث للسياسات ورعاية المصالح الإقليمية بعيداً عن واشنطن تحول معه البحر المتوسط إلى منطقة نفوذ روسية، وزاده حضور قوى المقاومة في معادلات البحر تعقيداً بوجه الأميركيين.
واقعياً ينقل الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، أمن الخليج من التنافس الأميركي الإيراني، الى رعاية ثلاثية صينية سعودية إيرانية تفقد معه واشنطن الكثير من أوراق القوة، خصوصاً بعدما لعبت قوى المقاومة في الخليج في تعاملها مع ملف أمن الطاقة دوراً بارزاً في تظهير محدودية القدرة الأميركية.
من حيث ترغب واشنطن أو لا ترغب، فهي قد جعلت حرب الطاقة نتيجة طبيعية لحرب أوكرانيا، وإصرارها على قطع سلاسل الطاقة من روسيا، ما جعل مصدر الطاقة الوحيد القادر على منع انهيار أوروبا هو النفط والغاز الآتي من الشرق الأوسط، عبر الخليج والبحر المتوسط، ما يجعل أميركا رهينة الحفاظ على الاستقرار في المنطقتين، حتى لو كان ثمن الاستقرار التساكن مع تمرّد الحلفاء، ومع نفوذ منافس لروسيا والصين.
عمليا تتحوّل أميركا الى قوة إقليمية في الأطلسي تمسك بالربع الغربي من العالم، بينما تصعد روسيا الى مرتبة العالمية ممسكة بالربع الشمالي، وها هي الصين تتقدّم نحو الربع الجنوبي بقوة بمساندة إيران والسعودية، فيما تستعدّ للإمساك بالربع الغربي.
منذ مدة تمرّ العلاقات الأميركية السعودية بأزمة ثقة، وتأكيد الطرفين الأميركي والسعودي على الطابع الاستراتيجي لتحالفهما، لم ينف اعتراف الفريقين بأزمة في العلاقة التي كانت لها قواعد تقليدية تقوم على موقع مرجعي للسياسات السعودية الخارجية ترسمه سقوف السياسات الأميركية. وبدأت تتغيّر مع موقف سعودي يرسم هوامش مستقلة تتسع تدريجياً حتى طالت ما تعتبره واشنطن بداية مساس خطر بالثوابت، مثل الموقف من تدفقات الطاقة، ورفض السعودية الالتزام بالدعوات الأميركية لزيادة الإنتاج، والعقوبات على روسيا وتمسك السعودية بالتعاون معها كشريك كامل ضمن إطار أوبك بلاس من خارج نظام العقوبات، وصولاً الى العلاقات الصينية السعودية ووصفها أميركياً بالإنقلاب على العلاقة التاريخية الأميركية السعودية، وتوصيف الرياض لها ضمن إطار الشركات المتعددة، حتى خرجت مواقف أميركية رسمية من البيت الأبيض ووزارة الخارجية تتحدّث عن أن العلاقة مع الرياض قيد التقييم، وأن هذا التقييم سينتهي بإجراءات.
في هذا السياق يقرأ الخبراء التعقيدات المرافقة لظهور التوجه السعودي نحو السعي لتمديد الهدنة في اليمن وفق مقاربة تراعي مطالب حركة أنصار الله، والحديث السعودي عن الحاجة للانفتاح على الدولة السورية، والنقاش السعودي حول الوضع في لبنان، حيث ظهر استعداد سعودي لمشاريع تسويات في الملفين اليمني والسوري لا تنضبط بالسقوف السابقة التي اعتمدتها السعودية سابقاً، حملتها تصريحات سعودية واضحة تتحدث علناً عن استحالة الاستمرار بالسياسات السابقة، ككلام وزير الخارجية السعودية حول سورية، ويبدو للمتابعين أن هذا التراجع السعودي عن السقوف العالية تجاه اليمن وسورية، والإنفتاح على خيارات جديدة يمكن أن تنجح في صناعة التسويات، يرافقه موقف سعودي سلبي تجاه التسوية في لبنان، بل موقف سعودي بسقف أعلى من الموقف الأميركي في السلبية تجاه فرص تسوية تخرج لبنان من الاستعصاء الخانق في مقاربة الاستحقاق الرئاسي، وهو ما يعتقد الخبراء أنه نتاج كون السعودية في اليمن تقاتل بجيشها، وفي العلاقات العربية والدولية حيث القضية السورية حاضرة تستنزف بسمعتها ومكانتها، بينما لا تتكبد أي أكلاف في لبنان، حيث تستثمر حراك أطراف لبنانية مستعدة لضبط إيقاعها على التوقيت السعودي، وهي تحاول أن تعوض عبر المكاسب الممكن تحقيقها عبر التصعيد والتشدد في لبنان، ما سوف يكون عليها تقديمه من تنازلات أو تكبده من أكلاف في تسويات ممكنة في ملفي اليمن وسورية. ويعتبر الخبراء ان هذه الصلة هي التي تفسر البطء في مساري التسوية في اليمن وسورية، بانتظار أن يؤتي التشدد والتصعيد في لبنان بعض الثمار، أو يسلك طريق التقدم.
مقابل هذه المقاربة ثمة مقاربة مخالفة في تفسير وتوصيف مسار الموقف السعودي تجاه اليمن وسورية ولبنان، واستطراداً ما تسميه بتعقيدات العلاقة الأميركية السعودية، وتقول هذه المقاربة إن الحاجة الماسة لتحقيق تقدم سعودي في اليمن وسورية ولبنان، سواء في سلوك خط التسويات أو التصعيد ترتبط بالحاجة لتسهيل أميركي، حيث لواشنطن مقاربة لا تتقاطع في النظرة مع الحسابات السعودية، والحساب الأميركي نحو سورية عبرت عنه زيارة قائد القوات الاميركية الى شرق الفرات لإعلان التمسك بتعطيل أي انفتاح على الدولة السورية وإعلان التمسك بالكانتون الكردي. وقد ترجمت هذا الموقف تصريحات أميركية متكررة تحذر من الانفتاح على الدولة السورية، وفي اليمن لا تزال واشنطن تأمل أن تنتزع من أي تسوية لوقف الحرب في اليمن، ترتيبات تتصل بأمن الملاحة في الممرات المائية التي يسيطر عليها أنصار الله وخصوصاً مضيق باب المندب، وضمانات لأمن كيان الاحتلال، وصلة ذلك بمستقبل السلاح الصاروخي للأنصار، وشرعنة قواعد أميركية في الأرض اليمنية وتسهيلات لحركة الطائرات الأميركية المسيرة في الأجواء اليمنية، بينما لا تمانع واشنطن بتسوية في لبنان تستوحي الطريقة التي تم عبرها ترسيم الحدود البحرية للبنان تفادياً لقيام حزب الله بوضع فائض قوته على الطاولة وتهديد أمن «إسرائيل»، وهي بذلك ترسم سقفاً للمقاربة اللبنانية أدنى من السقف السعودي وأكثر انفتاحاً على خيارات التسوية. – تملك واشنطن مفاتيح التعطيل والتسهيل، وهي تستخدمها عبر رسائل مشفرة نحو الرياض، فتعرض عليها منحها تفويضاً مشروطاً في لبنان لقيادة الاستحقاق الرئاسي بشروطها، مقابل انضباط الرياض بالسقوف الأميركية لملفات اليمن وسورية، وهذا ما يربك الحسابات السعوية ويفسر التباطؤ في رسم الخيارات وتظهير المواقف، لكن الوقت يضيق، ففي سورية تسارع تركي نحو دمشق وموعد يقترب لعقد القمة العربية في الرياض التي يريدها السعوديون مناسبة لا ينالها سواهم لعودة سورية الى الجامعة العربية، وفي اليمن حدود لاستعداد أنصار الله للانتظار ومنح المهل، وفي لبنان تغلق الأبواب على الرهانات الرئاسية التي قيل للسعودية إنها رهانات رابحة ويتقدم الخيار المقابل بثقة، بينما تضع المقاومة الأميركي أمام معادلة تحميله مسؤولية إدامة الفراغ ومنع التسويات وصولاً إلى الفوضى وتضع مقابلها استعدادها للحرب على الكيان، فتنشأ دينامية الجنرال وقت التي لا تدع مجالاً لمواءمة قسمة الحقل على قسمة البيدر، ويصير على العشاق أن يتفرقوا لأن الدف قد تمزق، فلا تبقى السعودية قادرة على ضبط ايقاعها في اليمن وسورية على التوقيت الأميركي ولا تبقى اميركا قادرة على ضبط إيقاعها في لبنان على التوقيت السعودي. هي شهور فاصلة ستقول الكثير.
بعدما تبدّدت الأحلام بفرض خريطة طريق تحكم الاستحقاق الرئاسي عنوانها السعي لتجميع الغالبية اللازمة لانتخاب المرشح ميشال معوض، أي 65 صوتاً، وبدأت جبهته الداعمة تتفكك ومجموع ناخبيه يتقلص، منذ قرّر الحزب التقدمي الاشتراكي الخروج من هذه الجبهة نحو ترشيح قائد الجيش وآخرين كخيارات متفق عليها مع شركاء ترشيح معوّض وفي مقدمتهم القوات اللبنانية بالانتقال إلى الخطة باء، وبدعم الخارج الراعي والمساند، صارت الخطة باء في الواجهة وانتهى الرهان على ترشيح معوض وتحول الى حصان أعرج عاجز عن المضي في السباق، وقد انفض الثلث المعطل المفترض من حوله، فكيف بالسعي لتجميع الغالبية.
في الخطة باء سعي لتمرير إمكانية انتخاب قائد الجيش دون تعديل دستوري وطرحه مرشحاً توافقياً لا يمثل ما يمثله معوض من استفزاز بخطاب عدائي للمقاومة، وهو المرشح الجدّي للحلف الداخلي والخارجي المناوئ للمقاومة، ليس بالضرورة لاعتباره مناوئاً، بقدر اعتباره مؤهلاً لخلط الأوراق وإرباك الحسابات، لكن الخطة باء أصيبت بالمقتل وسقطت بالضربة القاضية مع إعلان رئيس مجلس النواب استحالة انتخابه دون تعديل دستوري، باعتبار غياب الإجماع الذي تحقق في التسوية السياسية التي تمت في الدوحة ومن ضمنها وصول العماد ميشال سليمان الى رئاسة الجمهورية، يجعل أي انتخاب دون تعديل الدستور عرضة لطعن مؤكد ينتهي بإبطال الانتخاب.
صار الفريق المناوئ للمقاومة خالي اليدين من أي مرشح، ولا خطة ج، وليس من السهل إنتاج مرشح ثالث وتجميع الثلث المعطل من حوله لتحقيق التوازن التفاوضي في مواجهة الإعلان المتتابع لدعم ترشيح فرنجية وحشد تأييد يتجاوز الثلث المعطل ويقترب من الأغلبية وراءه، وبالتالي لم يعد هذا الفريق المناوئ هو الفريق المفاوض المقابل لمؤيدي فرنجية، بل هو واحد من مجموعة أطراف مدعوة للحوار طلباً للتوافق حول الاستحقاق الرئاسي، وهي أطراف تتراوح في أحجامها وتتفاوت في مقاربتها، وليس بينها أي خيار قادر على تجميع الثلث المعطل منفرداً.
العودة للحوار اليوم تحظى بموافقة كتل نيابية تمثل أكثر من ثلثي مجلس النواب، وهو النصاب اللازم لانتخاب الرئيس، وعلى مناوئي المقاومة الاختيار بين مقاطعة الحوار وتظهير حجمهم الفعلي العاجز عن تعطيل النصاب، وهذا أمر جيد، أو المشاركة في الحوار منعاً لانكشاف تراجع حجمهم، وهذا جيد ايضاً.
عنقود العنب يؤكل حبة حبة، والحبة الناضجة اليوم هي إلى الحوار در.
كنت أتوق لزيارة فخامة الرئيس العماد ميشال عون منذ مغادرته قصر بعبدا لأكثر من سبب عاطفي ووجداني وسياسي ووطني، لكنني كنت أرغب أن تأتي الزيارة بعد انتهائي من كتابي «ثورة… مخاض أم متاهة؟»، عن تجربة ثورة 17 تشرين وحكومة الرئيس حسان دياب، وهو يختزن مقاربتي لكل القضايا الشائكة العالقة والمطروحة للنقاش، حول عهد الرئيس ميشال عون ومشروع بناء الدولة والإشكاليات التي يلقي بثقلها على التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله، خصوصاً أنني كنت أرى بخروج الرئيس عون من قصر بعبدا فرصة لاستعادة تلك اللقاءات الشيّقة المليئة بالفكر والنقاشات في الاستراتيجيات والتي تمتدّ بما يتجاوز حدود المواعيد البروتوكولية التي كان يفرضها موقع الرئاسة وهمومها واهتماماتها، حتى أن زياراتي للرئيس وهو رئيس، كانت ثلاث أو أربع مرات بمعدل دون الزيارة الواحدة سنوياً، واقتصرت على بحث قضايا بعينها في كل زيارة. أما هذه المرة وقد تم تحديد موعد الزيارة الإثنين صباحاً، وقد تأبطت نسخة من كتابي أهديها لفخامة الرئيس المقاوم الذي أحبّ وأحترم، فقد استعدت معها الروح التي كانت تبثها في لقاءاتنا مرحلة ما قبل الرئاسة.
قبل أي شيء فرحت بالصحة الممتازة للرئيس وبشاشة ملقاة وعفويّة ترحيبه وذاكرة الصديق التي بادلتني كتاباً بكتاب، مع نسختين من كتاب عن عهده الرئاسي واحدة لي وأخرى للشقيق الحبيب غالب، قارئاً الإهداء بتمعّن طالباً إليّ أن أقرأ إهداءه وأن اقدر معنى اختياره للكلمات التي طرّز بها الإهداء، من المصادفات التي لم تكن في البال، لا في بالي ولا في بال الرئيس الجنرال، أن تكون كلمة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في مساء اليوم ذاته تدور حول الموضوع المحوري الذي استحوذ على لقائنا، وأقصد التفاهم بين التيار والحزب، وليس الرئاسة التي لم نقترب منها ولو بكلمة واحدة، ربما بسبب قناعتنا معاً بأن الأهم هو التفاهم، وأن مقاربة التفاهم بمنهجية معينة سيحمل ضمناً أجوبة حول كيفية مقاربة الرئاسة خلافاً أو اتفاقاً، بل إنه عندما يكون التفاهم بخير، ربما لا تعود شديدة الأهمية أن تأتي مقاربة الرئاسة اتفاقاً او اختلافاً.
حرصاً على التزامي بقواعد أدب اللقاءات، لن أنقل عن لسان الرئيس ما يتجاوز حدود الانطباعات والتعليقات غير القابلة للتأويل، والتي لا يمكن توظيفها مباشرة في السياسة، وتركيزي على ما قلته شخصياً في هذا اللقاء بخلاف عادتي، وأنا أمقت الذين يفعلون ذلك واتهمهم بالاستعراض، ليس قطعاً بنية الاستعراض التي قد يقع في حبائلها كل من يُعيد نشر ما قال، بل لأنني أتحمّل المسؤوليته الأدبية لما قلت فهو كلامي، ولأنه مع تجنبي نقل وقائع الحوار مع الرئيس، يتيح للقارئ تكوين انطباعات عن سياق الحوار، ونبضه، واتجاهات الحركة فيه، والتموضع على أطرافه، هذا مع التأكيد أنني لم انتدب نفسي لمهمة وساطة بين الحزب والتيار ولا انتدبني أحد، بل إنني، كما يعرف مَن التقيتهم من قيادتي الطرفين بمناسبة إهدائهم نسخة من الكتاب ودار بيننا حوار شبيه بالحوار مع الرئيس، يعلمون أنني كنت افتتح كلامي أنني لا أقول كلامي من موقع الوسيط الذي لا أرغب بلعب دوره، ولا أراني ناجحاً بلعب هذا الدور، ولا أرى الفريقين بحاجة الى مَن يقوم به، بل إن ما أقوله نابع من مسؤوليتي كمناضل وطني يحمل تاريخه بفخر على ظهره، وينظر للتفاهم بعين التاريخ ويخشى تهاويه كمنجز وطني تاريخي بسبب العبث السياسي والطائفي، أو الكبرياء الحزبية والعناد الشخصيّ، والكتاب حجة مناسبة لعرض أفكاري التي تضجّ بين صفحاته، ويشكل ما أقوله شفهياً في هذه اللقاءات بعضاً من وحيه، ولعل عنوان الكتاب الذي يعتبر حكومة الرئيس حسان دياب فرصة ضائعة في مشروع بناء الدولة، يقدم جواباً مختلفاً حول توزع المسؤوليات في ضعف فرص مشروع بناء الدولة في عهد الرئيس عون، وسبب ضياعها وأين كانت تختبئ، وكيف تمّ وأدها؟
جاء اللقاء بالرئيس عون وقد سبقته لقاءات إهداء نسخ من الكتاب لقيادات الحزب والتيار بالإضافة لقيادات وطنية في مقدمتها رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري. وفي هذه اللقاءات دارت نماذج مشابهة من الحوار، أو قمت فيها بتلاوة نص مشابه من التحذير لقيادات الحزب والتيار، وقد شملت رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله الحاج حسين خليل، ورئيس كتلة الوفاء للمقاومة الحاج محمد رعد، وتوّجت بلقاء الرئيس ميشال عون، والنص المشترك هو أن قراءتي لتجربة لبنان السياسية منذ ولادته ككيان سياسي معاصر وفق صيغة لبنان الكبير قبل قرن، أوصلتني الى قناعة قوية بأن الطوائف هي الجماعات السياسية الأشد رسوخاً وقدرة على احتواء الحياة السياسية، وأن حضورها في تنظيم شؤون الدولة ليس مجرد مؤامرة لتفتيت وحدة النسيج الاجتماعي، ما يجعل التخلص من هذا التنظيم بشطحة قلم مهمة وطنية، بل إن كل خروج من الصيغة الطائفية يجب أن يكون متدرجاً ومحسوباً بدقة كي لا يكون استبدالاً لطائفية ظاهرة بطائفية كامنة، وأن التسويات الطائفية معبر إلزامي لكل خروج سلمي وسلس من طائفية ثقيلة اليد غليظة الحضور إلى طائفية أشد رشاقة وأقل ثقلاً في تكبيل الحياة الوطنية والمدنية، وأن كلفة التباطؤ الذي يفرضه على مشروع بناء الدولة وتسيير مؤسساتها كنتيجة طبيعية للتمسك بالتسويات الطائفية ممراً، أقل بكثير من كلفة اهتزاز الاستقرار وتعريضه للخطر تحت وطأة مطالبة طموحة بالسير سريعاً نحو بناء الدولة، وأن ما جرى في اتفاق الطائف ليس إلا تكراراً لما حملته ثنائية الصيغة والميثاق ونجح بتوصيفه المفكر جورج نقاش بثنائية النفي، بقوله إن النفيين لا يصنعان وطناً، فبدلاً من لا للانتداب مقابل لا للوحدة مع سورية، جاءت ثنائية لا للتوطين مقابل لا للتقسيم، ولا للاحتلال الإسرائيلي مقابل لا لبقاء القوات السورية، ولا للوحدة العربية تحت عنوان لبنان وطن نهائي، مقابل لا للانعزال تحت عنوان لبنان عربي الهوية والانتماء، ولذلك لم ينجح مشروع الوطن بالتقدّم خطوة إضافية بعد اتفاق الطائف وأكمل مسيرة الأزمات التي كان يعيش في فقاعتها قلة.
أضيف، أنني من موقع هذه القراءة، أنظر للتفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر بصفته أول محاولة جدية عميقة وصادقة لتلاقي شريحتين صاعدتين في البيئتين الإسلامية والمسيحية، حيث صعد حزب الله من رحم الحركة القومية والوطنية العربية التي حملت لواء المقاومة وفلسطين والعلاقة المميزة مع سورية، التي تناوبت على حمل رايتها شرائح لبنانية إسلامية عديدة منذ ولادة لبنان الكبير، لكنها بلغت مرحلة النضوج والإنجاز مع حزب الله. وبالمقابل صعد التيار الوطني الحر من رحم الحركة الكيانية اللبنانية المناهضة لصيغ ملتبسة في العلاقة بسورية تحت عنوان تلازم المصير والمسار، والمتوجسة من السلاح الفلسطيني في لبنان، والتي تناوبت على قيادتها شرائح مسيحية عديدة، لكنها بلغت مع قيادة العماد ميشال عون وعبره مع التيار الوطني الحر مراحلها الأكثر نضجاً وحكمة، فميزت بين عودة القوات السورية الى بلادها والشراكة بعدها مع سورية، وتفادت بشجاعة الوقوع في فخ مد اليد للشيطان، تحت شعار حماية الوجود المسيحي، الذي نظرت اليه كجزء متجذّر من هذا الشرق في مقاربة أكثر التصاقاً بالنظرة الفاتيكانية من نظرة الكنيسة اللبنانية، وميّزت بقوة بين السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها، وبينه في الحالتين وبين سلاح المقاومة اللبنانية التي حررت الأرض وحمت الوطن من العدوانية الإسرائيلية المفتوحة الشهية على الأطماع دائماً، ومثلما يعبر حجم الالتفاف الشعبي حول كل من القوتين عن كونها التعبير الأشد قوة عن نبض اجتماعي قابل للحياة، يعبر تلاقيهما عن فرصة تاريخية نموذجية استثنائية لحل إشكالية تحوّلنا من طوائف الى وطن لم يولد بعد، كي نتقاتل لاحقاً على كيف نبني له دولة، فهل يجوز وقد أنتج لنا التفاهم فرصة التقدم في حلم ولادة الوطن المفقود، أن نقتله بداعي التقاتل على بناء الدولة المنشودة، وهل تسبق الدولة الوطن؟ وصولاً للقول إن هذا التفاهم لم يعد ملكا لصاحبيه التيار والحزب، بل هو ملك أجيال قادمة تكمل ما بدآه إذا تعذر عليهما المواصلة، وأن مجرد إنهاء التفاهم نكسة تاريخية غير قابلة للترميم، حيث الخلاصة التي يقولها لنا صاحباه بإعلان وفاته أن فكرة الوطن قد ماتت، لأن أحداً لن يجرؤ بعد العماد عون والسيد نصرالله على المغامرة والمخاطرة بتكرار ما حاولا فعله وأعلنا الفشل في إنجازه، ومَن سوف يدّعي القدرة على ما لم يقدرا عليه، وأي أكتاف أعرض من أكتافهما لتحمل مثل هذا العبء وهذه المسؤولية وتدّعي الإقدام إذا قررا التراجع؟
– بعد هذا العرض خلصت إلى الدعوة لقراءة التفاهم مجدداً ومحاسبته على ما أنجز وما لم يُنجز، مستعرضاً ما أعجبني جداً في توصيف التفاهم لمفهوم الديمقراطية التوافقية كقاعدة حاكمة لإدارة الدولة والحياة الوطنية، بما ينسجم مع ما أدعو إليه من ربط أي نقلة نوعية في مفهوم بناء الدولة بتوافر نصاب عابر للطوائف يحميها، كي لا تأتي الانتكاسة عودة الى الوراء بدل التقدم إلى الأمام، وكيف نجح التفاهم بتحقيق إنجازات تعادل ثمانية بنود من أصل بنوده العشرة، في مفهوم الحوار والديمقراطية التوافقية كما ترجمتها مقاربة الحكومات المتلاحقة منذ ولادته، ثم في بند قانون الانتخاب وافتتاح التفاهم بالتعاون مع حركة أمل عهداً جديداً لقوانين الانتخاب معاكساً لما ساد منذ اتفاق الطائف، سواء اعتماد قانون القضاء تلبية لرغبة التيار، وتجنيد قوة حزب الله وحركة أمل للفوز به في اتفاق الدوحة، علماً أن الفريقين رفضا القانون نفسه عندما تبناه حليفان آخران هما الرئيس اميل لحود والوزير سليمان فرنجية مع قدر من التمني السوري، وكذلك في قانون النسبية لاحقاً وإدخال نكهة القانون الأرثوذكسي عليه بما يلبي طلب التيار في الحالتين لجعل انتخاب النواب المسيحيين بأكبر نسبة ممكنة من تأثير التصويت المسيحي، وفي بند العلاقات اللبنانية السورية والنجاح بإقامة العلاقات الدبلوماسية التي ما كانت لتبصر النور لولا مكانة المقاومة في سورية ومكانة التيار لدى المقاومة وسورية بفعل موقفه من حرب تموز، وفي بند العلاقة اللبنانية الفلسطينية نجح التفاهم دون سواه بإنهاء السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، بقوة مكانة المقاومة في وجدان المجموع الفلسطيني ومكانة التيار في وجدان المقاومة والفلسطينيين معاً بقوة موقفه مع المقاومة وفلسطين، مروراً ببند «اللبنانيين في «إسرائيل»، وهنا يكفي أن نصاً تصالحياً في مقاربة المسألة ما كان ممكن القبول في بيئة المقاومة لولا قبول سيدها به، وصولاً الى بند السيادة والدفاع عن لبنان وقد ترجم أعظم ترجمة من جانب التيار بوقفته في حرب تموز والتزامه بعدها بالدفاع عن المقاومة خياراً وسلاحاً، وصولاً الى حرب الجرود مع التكفيريين وإنجاز الترسيم على الحدود البحرية كثمرة لهذه الشراكة الاستراتيجية، أما بناء الدولة والملف الأمني كبندين يرتبط الإنجاز فيهما بتوافر الشرط الحاكم للتفاهم في بنده الثالث وهو الديمقراطية التوافقية، فكل تقدّم مشروط بنجاح الفريقين بتوفير نصاب عابر للطوائف لجعله ممكناً، وهذا ما يجعل التفاهم مع الرئيس سعد الحريري والقوات اللبنانية قبل انتخاب العماد عون رئيساً تعبيراً عن هذا المفهوم وليس مجرد تسويات رئاسية، ولذلك فإن على الطرفين بدلاً من خسارة أحدهما للآخر البحث عن كيفية كسب المزيد من الحلفاء.
بعد كل هذا العرض طبيعي أن يكون سؤال القارئ، وماذا قال الجنرال الرئيس، وماذا قال الآخرون من قيادتي الحزب والتيار، ولماذا لم تعُد قلقاً على التفاهم بعد زيارة الجنرال وسماع السيد، والجواب بحدود الممكن، أقول، عندما كنت أعرض سياق إشكالية البناء الوطني في تاريخ لبنان وتجذر الطوائف كجماعة سياسية مؤسسة، استطرد الجنرال مؤيداً باقتباس كلام للرئيس اميل اده، بحثت عن أصله بعد عودتي من اللقاء ووجدت أن الرئيس عون قد نقله بدقة، حيث يقول الرئيس ادة «نحن لسنا شعباً واحداً، نحن مجموعة طوائف، وكل دولة لها الدولة المرشدة… منا من يرى لبنان موطن أرز الرب، ومنا من يراه قباباً ومآذن، ويضيف من موقعه الداعم للانتداب الفرنسي، لنترك الفرنسيين عندنا، يعلموننا كيف نكون شعباً يستطيع بناء دولة، والا نحن ذاهبون للاقتتال كل عشرين سنة، فنصنع من لبنان ميدان حروب الغير على أرضه». وينهي ادة كلامه بالقول «أنا قد قلت كلمتي وأتمنى أن أكون مخطئاً»، وعندما استعرضت إنجازات التفاهم وعدم الإنصاف في توصيفه بالفشل، كان يشاركني الرأي ويختم بالسؤال، ولكن ماذا عن بناء الدولة ومكافحة الفساد، وعندما أجبت بأن التسويات الطائفية معبر إلزامي، قال: لكنني أنا الرئيس الماروني رفعت الغطاء عن الموظف الماروني حاكم مصرف لبنان، فقلت لكن مرجعيته لم تكن مسيحية، فوضع الرئيس الحريري الفيتو لحمايته ولحقته بكركي. فقال هذا حرام لأن هذا سيعني صعوبة تبلغ حد الاستحالة. وعندما قلت إن هذا يستوجب البحث عن مزيد من الحلفاء بدلاً من محاكمة التفاهم والمخاطرة بخسارة تحالف طرفيه، وأشرت إلى أن الخلل كان بعدم بذل جهد لبحث قواعد تحالف طرفي التفاهم مع آخرين، قال أصلاً كان هذا منطلقنا، فقلت كان يجب بذل جهد جدّي لبلوغ اتفاق الحد الأدنى مع حركة أمل، قال لقد صارحت حزب الله مرتين طالباً المساعدة لوضع قواعد تعاون وتحديد الخلافات مع الرئيس بري. وعندما تحدثت عن إنجازات التفاهم في العلاقات اللبنانية السورية والعلاقات اللبنانية الفلسطينية، قال للأسف ينكر الآخرون على التفاهم إنجازاته ويتجاهلونها. وعند بند السيادة والدفاع عن لبنان أضاف أن التيار ورئيسه تحملا العقوبات بلا تردد دفاعاً عن هذه الخيارات. وسألني هل تعلم اننا لم نوقع نسخة من التفاهم، لأن مثلي ومثل السيد حسن تُلزمه كلماته لا توقيعه، ويكتفي عندما يكون هذا هو شريكه بكلمة، وبرقت عيناه توهجاً، والمتعت فيهما لحظة شوق ووفاء وحب، ولا أعلم إن كان فيها أيضاً بعض العتب، لكنه ان وجد فهو يختلف كثيراً نوعاً وكماً عن بحة الصوت الحزين ونبرة العتب الواضحة عند الحديث عن التجربة مع الرئيس سعد الحريري وحرارة العاطفة التي تصرّف بها الرئيس والوزير جبران باسيل أثناء احتجاز الحريري، ولم يجدا مقابلها ما يعادلها بعد للأسف؟
سألني الجنرال عندما قلت إنني لا أقوم بوساطة بل أبلغ رسالتي لقيادتي الحزب والتيار بأنهما لا تملكان شرعية ومشروعية إنهاء التفاهم، وإعلان نعي الوطن، ذاكراً من التقيت بمن فيهم الوزير باسيل، قال وماذا قالوا لك جميعاً. قلت كلهم شكروا الحرص وابدى مثله وطمأن أن لا أحد يستسهل إعلان سقوط التفاهم، واكتفي بأن أنقل عن الجنرال تعليقاً أنه ابتسم بفرح مرحباً خصوصا لدى ذكر انطباعي عن موقف الوزير باسيل، ولذلك أقول إنني عندما سمعت سماحة السيد حسن نصرالله مساء، بعد ساعات من لقائي بالجنرال، زدت ثقة بأن لا قلق على التفاهم سواء لجهة قدرة فريقيه على التلاقي في خيار رئاسي واحد، أو بحسن إدارة الخلاف بين الحليفين، وقد أودعت بين يدي الجنرال معادلتي التي أردّدها وردّدتها على مسامع من التقيت، وقوامها «ان السياسة ليست إدارة تحالف تكتيكي بين حليفين استراتيجيين ولا إدارة خلاف تكتيكي بين خصمين استراتيجيين، بل هي إدارة خلاف تكتيكي بين حليفين استراتيجيين، وإدارة تفاهم تكتيكي بين خصمين استراتيجيين»، مستذكراً أنني لجأت الى هذه المعادلة في مخاطبة القيادتين في سورية وإيران عندما اختلفتا على دعم ترشيح اياد علاوي أو نور المالكي لرئاسة الحكومة العراقية، وكيف ابتكرا معادلة حل قوامها، السير معاً بدعم المرشح الذي يستطيع داعمه من الحليفين أن يقول لحليفه الآخر، أنه يضمن له ما يريده من الرئيس، وهكذا تمّ التفاهم على المالكي لأن القيادة الإيرانية قالت إنها تضمن لسورية ما تريده من العراق، بينما قالت سورية بإنصاف إنها لا تستطيع أن تضمن لإيران عبر علاوي ما تريده من العراق، وربما تكون هذه آلية صالحة في توقيت مناسب في مناقشة الخلاف الرئاسي بين ركني التفاهم!
سمعت سماحة السيد في المساء وزدت ثقة بأن التفاهم ليس في خطر، وقد خصص السيد لتأكيد الحرص عليه والتمسك به والسعي لإدارة أي خلاف تحت سقفه، أكثر مما خصّص لأصل الموضوع وهو الرئاسة.
بالرغم من كثرة التحليلات والتأويلات، حول علاقة الكلام الرئاسي الصادر عن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بحسابات دولية وإقليمية أو تفاهمات تطمينية تمّت خلف الكواليس، فالأكيد لمن يعرف كيفية اشتغال عقل المقاومة وحساباتها، ترتكز منطلقات كلام السيد نصرالله على معادلات خاصة في قراءة المشهد الرئاسي، فتضع خطاً فاصلاً مع مرحلة وتفتح الباب لمرحلة ثانية. والمرحلة التي تنتهي هي مرحلة منح الفرصة للربط بين إعلان تبني ودعم ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وهو المرشح المحسوم عند حزب الله وحركة أمل منذ بدأ التفكير الجدي بمقاربة الاستحقاق الرئاسي، وبين التوافق مع التيار الوطني الحر على التحرك معاً في مقاربة هذا الاستحقاق ترشيحاً، وقد مر ما يكفي من الوقت والجهد للتوصل إلى قناعة باستحالة انضمام التيار الوطني الحر إلى تبني دعم هذا الترشيح ابتداء، أي افتتاح مقاربة الاستحقاق بإعلان الترشيح في بداية المعركة، مع التمييز الدائم والدقيق بين ثلاثة مستويات في المقاربة أتعب السيد نصرالله متابعيه في شرحها دون أن يتعب، مستوى الفصل بين الانتخابات الرئاسية اتفاقاً واختلافاً وبين التفاهم السياسي المبدئي مع التيار أو مع سواه، والمستوى الثاني هو مستوى الفصل بين التشارك في الترشيح والتشارك في الانتخاب، والمستوى الثالث هو مستوى الفصل بين التشارك في الترشيح والانتخاب والتشارك في تأمين النصاب. وقد قام السيد نصرالله بحياكة الكنزة الرئاسية على هذه المستويات الثلاثة، مفتتحاً مرحلة جديدة في الاستحقاق محورها الذهاب الى التنافس الانتخابي، كما دعا رئيس مجلس النيابي نبيه بري، أو العودة الى تلبية دعوة الرئيس بري للحوار طلباً للتوافق، لكن في الحالتين النظر للمرحلة الراهنة بصفتها نصف الطريق في المشوار الرئاسي، وليست نقطة الوصول النهائية. في المستوى الأول يبدو واضحاً حرص السيد على التفاهم مع التيار الوطني الحر، ليس فقط عبر تأكيداته المباشرة المكررة على هذا الحرص، بل بمضمون سرده
لمحطات تاريخية ذات صفة سجالية لإثبات الحرص، عبر صناعة معادلة، التفاهم لا يلزم بالتشارك في الخيارات الرئاسية ذاتها، والخلاف في الخيارات الرئاسية لا يعني خروجاً من التفاهم أو عليه. وهنا سوابق متكررة للسير منفردين في مقاربة انتخابات رئاسة مجلس النواب التي تهمّ الطائفة الشيعية بمثل ما تهم رئاسة الجمهورية المسيحيين، وفي مقاربة رئاسة الحكومة مراراً التي تهم طرفي التفاهم كما تهم جميع اللبنانيين بصفتها رئاسة السلطة التنفيذية، دون أن يؤدي ذلك في أي مرة إلى تعريض التفاهم للاهتزاز، لكن الحرص على التفاهم كان يستدعي منح الفرصة للتوافق على خيار موحّد قبل الاستعداد للسير منفردين، وتحت سقف التمسك بالتفاهم، ومن دون أن يكون محسوماً بعد معرفة أي من الخيارات الرئاسية يملك فرصة الفوز، ولا السياق الذي ستسلكه مسيرة التنافس والتوافق نحو إنجاز الاستحقاق الرئاسي، والانفتاح سلفاً على ما قد يتخللها مجدداً من فرص التلاقي، وهنا يضيف السيد نصرالله جملة مفصلية تتصل بالدعوة الى الفصل بين مقاربة رئاسة الجمهورية والحديث عن بناء الدولة ومكافحة الفساد، لأن الأمرين من اختصاصات لا يملك رئيس الجمهورية صلاحيات تتيح ربط الأمرين به، وتقول تجربة الرئيس ميشال عون إن الجدية في مقاربة هاتين المسألتين تستدعي البحث في كيفية تشكيل غالبية نيابية وغالبية حكومية منسجمة في النظر اليهما، وما لم يستطع فعله الرئيس ميشال عون لا يمكن أن يطلب من سواه، خصوصاً بالنسبة للتيار.
في المستوى الثاني الذي يبدأ للتوّ بعد إعلان دعم الترشيح، والكشف عن الاسم علناً بصورة رسمية، وهو مستوى الانتخاب، فنحن أمام خيارات أن يذهب التيار الوطني الحر إلى تبني ترشيح منافس، أسوة بما يفعله الآخرون، ويترك للمعادلة النيابية أن تحسم الخيار الفائز. وهذه معادلة نظرية غير قابلة للتطبيق عملياً، لأن التوازنات النيابية الراهنة تقول إن تأمين الـ 65 صوتا الذي لم يعد متاحاً لصالح مرشح خصوم المقاومة باعترافهم، ولا هي متاحة لمرشح يتبناه التيار، لن تصبح متاحة للمرشح سليمان فرنجية دون انضمام أحد طرفي فاعلين، التيار الوطني الحر أو الحزب التقدمي الاشتراكي وعدد من النواب المستقلين، على الأقل. وهذا يعني أن الباب مفتوح عبر الحوار الذي يفتتحه اعلان الترشيح للتوافق مجدداً على الانتخاب، إن لم يكن بانضمام التيار إلى التصويت لفرنجية من باب التفاهمات الانتخابية. فالباب مفتوح لفرضية انضمام الحزب التقدمي الاشتراكي والمستقلين، وما سيرتبه من فرصة حوار مع التيار لفتح النقاش حول ما وصفه رئيس التيار النائب جبران باسيل بالخيار الرئاسي الثاني، أي غض النظر عن اسم المرشح مقابل التفاهم مع الكتلة الناخبة لهذا المرشح على المشروع السياسي، الذي ستلتزمه الكتل في مواقعها النيابية الراهنة ومواقعها الحكومية اللاحقة؛ هذا مع بقاء فرضية حدوث توافق خارجي وداخلي كبير لا يمكن للتيار أن يبقى خارجه، بينما أمامه فرصة طرح شروطه للانضمام اليه، مستفيداً من أن حليفه في التفاهم هو الركن الحاسم في هذه الفرضية داخلياً وخارجياً.
– المستوى الثالث الذي أظهر السيد نصرالله حبكته السحرية فيه، وقطبته المخفية، هو مستوى تأمين النصاب، فهو سدّد ضربة جزاء قاتلة لخصومه عندما أظهر سخافة منطقهم في التعامل مع النصاب والتعطيل، فهم يدينون التعطيل قبل الظهر ويهدّدون به بعد الظهر، ويؤيدون نصاب الثلثين في العطل والأعياد، ويؤيدون نصاب الأغلبية في أيام الدوام الرسمي، والدستور عندهم كأصنام التمر عند أهل الجاهلية يعبدونها، وإذا جاعوا يأكلونها، بينما عند السيد وضوح وثبات وانسجام ومصداقية. نعم نحن عطلنا ولكم الحق أن تعطلوا، والنصاب هو الثلثان ثابت لا يتغير، سواء أسهم هذا بدعم مرشحنا أم أضعف فرص وصوله، وفي هذا المستوى يفيد تدقيق بسيط في المعادلات الانتخابية، أن خصوم المقاومة دون نواب الحزب التقدمي الاشتراكي ونواب التيار الوطني الحر لا يملكون قدرة التعطيل، لأن هناك قرابة 66 نائباً مستعدون للحضور في أي جلسة انتخابية، منهم أكثر من 43 ينتخبون سليمان فرنجية، ومقابلهم 35 نائباً مستعدون لتعطيل النصاب، وبدون التيار الوطني الحر لا يتحقق النصاب، إلا إذا تغيرت الظروف الخارجية وجاءت بالمقاطعين إلى المشاركة بتأمين النصاب، وفي هذه الحالة، بل وفي سواها لا يبدو أن خيار تعطيل النصاب هو أولوية التيار الوطني الحر، بل ربما تكون مشاركته في تأمين النصاب في حال وجود تسوية كبرى أو في غيابها، شكل الحد الأدنى من التشارك تحت سقف التفاهم بين الحزب والتيار.
دياب: الطعنات آلمتنا ولم تخفّف عزيمتنا… وخطتنا للتعافي قاعدة كلّ نهوض وإصلاح المرتضى: قنديل أصَّلْ جذورَ الصراع ووجَّهْ البُوصلةَ في اتّجاه فلسطين ونطالبه بالمزيد
بقرادوني: ميزة حكومة دياب أنها تجرّأت على قول الحقيقة ووضعت الحلول والمخارج قنديل: تجربة الرئيس دياب استثنائية لو قيّضت الإرادة السياسية لتحويلها إلى خطة عمل للدولة
أقام رئيس تحرير “البناء” النائب السابق ناصر قنديل، في قاعة المكتبة الوطنية ـ الصنائع ـ كلية الحقوق سابقاً، ندوة عن كتابه “ثورة… مخاض أم متاهة؟ حسان دياب: حكومة فاشلة أم فرصة ضائعة؟”، حضرها الرئيس البروفيسور حسان دياب، وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال القاضي محمد وسام المرتضى، الوزير السابق كريم بقرادوني، وفد من الحزب السوري القومي الاجتماعي ضمّ رئيس المجلس الأعلى سمير رفعت ونائب رئيس الحزب وائل الحسنية وناموس المجلس الأعلى سماح مهدي والعمُد: غسان غصن ومعن حمية وريشار رياشي وإيهاب المقداد وفادي داغر وعضو المجلس الأعلى د. جورج جريج وناموس عمدة المالية أسامة الشيباني ومنفذ عام بيروت وليد الشيخ. وفد من جريدة “البناء” ضمّ مدير التحرير المسؤول رمزي عبد الخالق والزملاء: اعتدال صادق وإنعام خرّوبي ومحمد حمية وعبير حمدان. وحشد من الوزراء والنواب الحاليين والسابقين والشخصيات الديبلوماسية والفاعليات السياسية والثقافية والإعلامية. دياب
بداية تحدث الرئيس دياب فقال: “يجمعنا اليوم الصديق الأستاذ ناصر قنديل، الذي بذل جهداً مضنياً لتأريخ مرحلة استثنائية من تاريخ لبنان، وجاءت النتيجة في هذا الكتاب اليوم لتسجّل بأمانة وقائع من تلك المرحلة. ويقيناً، أني خلال هذه المرحلة، اكتشفت في الأستاذ ناصر صديقاً محبّاً، وحريصاً، وناصحاً، ومنتقداً، لا يُجامل، ولا يخفي في الحقّ كلمة الحقّ. ولذلك، فإنه نجح في استدراجي إلى الاقتناع بماهية الكتاب، ومساره، ولم أنجح في تدوير الزوايا معه. إلى الصديق الأستاذ ناصر تحية تقدير، وهو في كلّ الأحوال هو غني عن الشهادات والأوسمة”.
أضاف: “منذ لحظة تكليفي بتشكيل الحكومة، في 19 كانون الأول 2019، أعلنت أنّ معياري الأساسي في عملي هو أني لا أريد شيئاً لنفسي. قيل لي آنذاك، هذه معادلة تشبه كثيراً معادلة الرئيس سليم الحص التي يعبّر عنها بالقول: يبقى المسؤول قوياً إلى أن يطلب أمراً لنفسه. كان جوابي أني أتشرّف بالانتماء إلى هذه المدرسة الوطنية الصافية، لأنّ الرئيس الحص، حفظه الله، يبقى أمثولة في القيم الوطنية والسياسية والنزاهة والشفافية”. وتابع: “كنت أعلم أنّ الممارسة السياسية في لبنان هي فنّ التشاطر، وقد شهدتها من موقعي كوزير للتربية والتعليم العالي، ولكني لم أدرك أنّ الانهيار في لبنان طال جميع النواحي المادية والنفسية، وأنّ الفساد تمدّد في كلّ الاتجاهات حتى وصل إلى القيَم الأخلاقية عند بعض السياسيين. جاءت حكومتنا في لحظة منعطف خطير في لبنان. الانهيار يتدحرج بسرعة من دون ضوابط، وكلّ معطياته وأرقامه مكتومة، والشارع متفجّر وحركته مفتوحة على احتمالات مخيفة. كنا مجموعة مغامرين، لكننا اعتبرنا أننا في الخدمة الإلزامية. جئنا من خارج الصف السياسي، وربما كانت حكومة التكنوقراط الأولى في لبنان. وكان هدفنا تحقيق إصلاحات ضرورية يحتاجها البلد، وهي مطلب الناس المؤمنين بهذا البلد. لم يكن لديّ طموح سياسي، ولا أسعى إلى زعامة. كان الهاجس كيف نخفّف اندفاعة الانهيار حتى لا يكون السقوط مدوياً ومؤلماً، قمنا بواجبنا الوطني، وأنا فخور بما حققناه. كنا نعمل من دون مسايرة لأحد ولا نكاية بأحد”.
وأردف: “تجرّأنا على قول الحقيقة، وكشفنا ما كان مستوراً بين الأرقام، وقرأنا ما بين سطور الممارسات التي أدّت إلى هذا الانهيار. الطعنات التي تعرّضنا لها، آلمتنا، لكنها لم تخفّف عزيمتنا. بعض الخناجر بلغت القلب، وآثارها عالقة فيه، لكن ضميري مرتاح. وما أصابني، شخصياً، ترك في نفسي جرحاً عميقاً. بعضهم أراد حسّان دياب كبش محرقة والتضحية به. بعضهم أراد الحكومة جسر عبور، بعضهم أرادنا حفرة تُرمى فيها كلّ الموبقات التي أوصلت إلى الانهيار، بعضهم فوجئ بأننا وضعنا خطة إنقاذ يتعافى عبرها البلد من تبعات فساد مزمن، فانقضّ عليها لإسقاطها وإسقاط البلد، لأنّ التعافي هو نقيض تلك السلوكيات التي أوْدت بالدولة. تمسّكت بمنطق الدولة، لكن هناك من كان يصرّ على رفض منطق الدولة ومواجهته، لأنّ مفهوم الدولة هو نقيض المزارع التي تقاسمت الدولة ومقوماتها وثرواتها ومقدراتها. كانت التحدّيات كبيرة جداً أمام تلك الحكومة، منذ لحظة تكليفي، وتعاظمت بعد تأليفها، حتى أنّ بعضهم حكم عليها بالإعدام قبل أن تتلو بيانها الوزاري، حتى خطة التعافي التي وضعناها، والتي لا تزال اليوم قاعدة أيّ إصلاح مالي في البلد، أسقطوها لأنهم يرفضون منطق الدولة، ويقاومون فكرة الدولة،
لكن الأخطر، أنّ إسقاطها عمّق الأزمة المالية، بينما كانت الخطة قد وضعت الإصبع على الجرح المالي، للمباشرة بالعلاج، لكن ما تبيّن لنا لاحقاً أنّ هناك من يريد البلد مريضاً، ويمنع عنه الدواء، لأنه مستفيد من هذا المرض لتغطية الإرتكابات الكارثية بحق لبنان واللبنانيين ومستقبل الأجيال”.
وقال: “أسقطوا خطة التعافي، ومشوا في جنازة الانهيار، وذرفوا الدموع، وهم اليوم يسمعون ما يقوله لهم صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، بأنّ خطة التعافي التي وضعتها حكومتنا هي الأرضية التي يمكن الانطلاق منها نحو إصلاح حقيقي. زوّروا الأرقام، كما فعلوا على مدى عقود من الزمن، وحاولوا تسويق أوهام عن الدعم والاحتياط الإلزامي، وهدّدوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنهم اليوم بلعوا ألسنتهم، وغيّروا أقوالهم، بلا حياء أو خجل، ويعتقدون أنّ الكذب يستطيع محو سلوكهم الأسود الذي كان يغطّي الارتكابات السوداء. للأسف، كانت خطة التعافي المالي التي وضعتها حكومتنا، فرصة للإنقاذ، لكنهم، وعن سابق الإصرار والترصّد، قتلوها وأضاعوا على البلد فرصة الإنقاذ، ونظّموا حرباً على الحكومة، لكننا مع ذلك، صمدنا، قدر ما نستطيع، وتحدينا الصعوبات، وقمنا بما يمليه علينا ضميرنا الوطني”. أضاف: “أما الحكم على تلك الحكومة، فنتركه للناس والتاريخ، فكتاب الأستاذ ناصر اليوم، يقرأ التاريخ، وينصفنا، حتى لو انتقدنا. مجدّداً أشكر الأستاذ ناصر الذي بذل جهداً مضنياً لتأريخ هذه المرحلة المفصلية من تاريخ لبنان، والتي كنّا جزءاً منها، وكان أميناً على عدم غرقها في ظلام المتغيّرات”. المرتضى
ثمّ ألقى الوزير المرتضى كلمة قال فيها: “أهلاً وسهلاً بكم في المكتبة الوطنية روّاد وعيٍّ وسياسيةٍ وثقافة نجتمع وإيّاكم لنحتفل بمولودٍ جديدٍ قيّم لشخصيةٍ استثنائيةٍ بكلّ المقاييس خاضت كلّ معتركات النضال من أجل التغيير، من أجل الحقّ والحريّة والقضايا الوطنية والقومية، فأبدعت وقدّمت الكثير الكثير وما برحت، ولن تبدل تبديلاً. أضاف: “عزيزي الأستاذ ناصر، لا يذهبَنَّ بك اليقينُ إلى أنني قرأتُ كتابَك كاملاً من الغلاف إلى الغلاف، وجئتُ اليومَ لأبديَ فيه رأياً، أو أناقشَ في مضامينه وخُلاصاتِه. فهو من الغنى بمكانٍ يعسُرُ أن يُحيطَ به الوقتُ القليلُ الذي كان لي منذ أهدَيْتَنيهِ إلى اليوم. ثمَّ إنني إلى الرويَّةِ أميَلُ في مقاربةِ الكتبِ التي تتناولُ التاريخَ السياسيَّ على وجه التحديد، اقتناعاً مني بقول المؤرخ أسد رستم: الأصلُ في التاريخ اتِّهامُ الأخبارِ لا براءةُ ذمّتِها”.
وتابع: “لا يأخُذَنَّكَ الشكُّ في أنني لم أقرأِ الكتاب البتّةَ، فقد مررتُ به مروراً متأنّياً، أشدَّ عمقاً من التصفُّح اليسير، ووقفتُ على خطوطِه العريضةِ وموضوعاتِ فصولِه وتناولِ أحداثِه الصعبةِ والهيِّنة. وأولُ ما لفتَني فيه أنك أنتَ أيضاً تتَّهمُ أخبارَ التاريخ ولا تُسلِّمُ بمروياتِها السطحية المعروفة، بل تغوصُ في سياقاتِها وأسبابِها غوصاً تحليلياً، على وَفْقِ ما أوتِيتَ من خبرةٍ وطولِ باعٍ في التحليل السياسي الذي احترفْتَه صَنْعةً ودَوْراً وطنياً. ورأيْتُ، بأمِّ العينِ، كيف تُسلسُ لك اللغةُ قيادَها، فتنزلقُ الأفكارُ والكلماتُ على أوراقِكَ، كما تنسابُ على لسانِكَ، في وضوحٍ وتماسكٍ، كأنَّكَ تقرأُ حين ترتجلُ، وترتجلُ حين تكتبُ، من غير أن يعتري خطابَك في الحالتين أيُّ تشوّشٍ أو تلجلجٍ في هويته المقاوِمة وانتمائه الحرّ”.
وأردف: “لعلَّكَ، حين اخترت الكتابةَ عن مرحلةِ دولة الرئيس حسان دياب وحكومته، خالفتَ قاعدةَ أن التاريخَ لا يُكْتَبُ إلا بحبرٍ باردٍ بعد مدةٍ غير قصيرة من انقضاءِ أحداثِه وانكشافِ أسرارِها. لكنك في ذلك مارسْتَ تحدِّيَ السّبْقِ الرصين، من غيرِ تسرُّعٍ طبعاً، وخُضْتَ في وقائع التحدّيات المفصلية التي واجهَتْها تلك الحكومة، منذ تسمية رئيسها “الذي مرَّ اسمه من الغربال” كما جاء في الكتاب، حتى استقالتِه إثر الكارثة التي فجَّرت الوطن في الرابع من آب، وما تخلّل هذين الحدثين من حراكٍ شعبي عفويٍّ أو موجَّه، أو مثلما عبَّرْت أنتَ، من ثورةٍ ظاهرةٍ وأخرى عميقة، اختلفت أجَندةُ كلٍّ منهما وإن قادتِ الثانيةُ الأولى… ومن انهيار اقتصادي واشتباكٍ سياسي على النقطةِ والفاصلة في كلِّ شيء. ورَصَدْتَ الدورَ العميق “للدولةِ العميقةِ” الذي جعل الرئيس حسان دياب وحكومتَه في موقعٍ لم يضعْه في حسابه أصلاً كما نقلْتَ عنه، بات فيه على “صدامٍ يومي مع حاكم مصرف لبنان وقادةِ النظام المصرفي” في حينِ أنَّ الصدام الحقَّ كان بين الحاكم والأرقام، التي بطبيعتها لا تحتملُ الخلاف والصدام”.
وقال: “الأهمَّ في كلِّ هذه السردياتِ المهمة، أنَّكَ أصَّلْتَ جذورَ الصراع في ترابِهِ الفكريِّ البَحْت، ووجَّهْتَ في ذلك البُوصلةَ باتّجاه الجنوبِ حيثُ فلسطين، لتصلَ إلى أنّ لبنان الكبيرَ الصغير، القائم على فالقٍ سياسي يهتزُّ كلَّ ثانيةٍ بفعلِ الكيان المغتصِبِ المزروع هناك، فيزلزلُ كلَّ استقرارٍ ويبلبلُ كلَّ أملٍ بالنهوض، ليست أزمتُه “مجرَّدَ أزمةِ حكمٍ أو نظامٍ، بل هي أكبرُ من أزمة ِكيانٍ وهوية، تجمَّعَتْ فوقَها أزماتٌ تتَّصِلُ بحالِ عدم اليقين الذي يعيشه العالم…”، مثَبِّتاً/ أن ما يجبُ النقاشُ فيه/ هو المنهجُ لا جدولُ الأعمال، وأنّ هذا المنهجَ فلسفيٌّ بطبيعتِه لأنه يسعى إلى “بناء دولةٍ تساوي بين مواطنيها بعيداً عن تمايزاتِ الأعراق والأديان، دون الوقوع في استبدال طائفيةٍ صريحة بطائفية تختفي خلف قناع الديموقراطية”. فأنت بهذا القول تعيدُ الاعتبارَ إلى دور الفكرِ في قيامِ الأوطان وفي قيامتِها من أزماتِها، دورٌ صرنا نفتقدُه في لبنان بعد أن تفشّت فيه العصبيّاتُ القاتلة تفشّياً سريعاً مريعاً، بعيداً عن العقل والمنطق، لا بل حتى بعيداً عن مصلحة الوطن والمواطنين”.
أضاف: “من هنا، يأتي كتابُكَ محاولةً ناجحةً لإنصافِ دولة الرئيس حسان دياب القادمِ إلى السياسة من الأكاديميا، والقابضِ على الألغام بأصابعَ لم تألفْ سوى الأقلام. ومن هنا، أيضاً يخرجُ كتابُك من حقل التأريخِ السياسي إلى بيدرِ الفكرِ السياسي. أتُراكَ كنتَ فيه مماشياً لسيرةِ الرئيس دياب أم واصفاً لواقعٍ ومُرتَجى؟ سؤالٌ قد يصحُّ فيه أيُّ جوابٍ، وقد يبقى سؤالاً بلا جواب، ذلك أنك حين جعلتَ لكتابك عنواناً ومضموناً مفعَمَيْن بعلاماتِ الاستفهام، ذكّرتَني بجريدةٍ عرضها عليّ مرّةً أحد الأصدقاء هي جريدة “علامة الاستفهام” التي أصدرها الراحلان زهير عسيران ونعيم مغبغب، لمدة وجيزة عام 1943، والتي رافقَت استقلالَ لبنانَ من الانتداب الفرنسي، أي قبل ثمانين سنةً من اليوم. ودفعَني هذا كلُّه إلى التفكُّرِ في أنَّ حياتَنا الوطنيةَ منذ نشوئِها غُصَّتْ بعلاماتِ الاستفهام المزروعةِ حولَنا في كلِّ صوبٍ، والتي عجِزَت أجيالُنا وقادتُها، أو تخاذَلَتْ، عن إيجادِ أجوبةٍ لها. لماذا يا ترى؟ هذه أيضاً علامةُ استفهام/ أكتفي بها/ وهي برسمك/ عساك تتوفّق الى تقديم جوابٍ عليها في مولودٍ جديدٍ يبصر النور قريباً”. وختم: “وإذ أهنّئك على مؤلّفك الراهن، نُحذّرك باسمي وباسم الحاضرين والغائبين ممن يؤمن بنهجك ومقارباتك وفكرك ويرتوي من منهل بيانك بأننا وعدنا النفس بمزيد، سلم بيانك ودامت همّتك ووفقنا وإياك لما فيه رضاه وخير وطننا وأمتنا”.
بقرادوني
بدوره، قال بقرادوني: “أول ما لفتني في كتاب ناصر قنديل أنه اختار لغلافه خمسة عناوين، هي ثورة ومخاض ومتاهة وحكومة فاشلة وفرصة ضائعة، وقد اخترت منها الفرصة الضائعة عنوان مداخلتي في قراءة مرحلة حكومة الرئيس حسان دياب، وهو بالمناسبة قد يكون رئيس الحكومة الوحيد خلال أربعين سنة الذي لم ألتق به قبل أن يصبح رئيسا للحكومة ولم ألتق به وهو رئيس للحكومة إلا مرة واحدة”.
أضاف: “بالنسبة لمؤلف الكتاب الصديق ناصر قنديل، عرفته منذ حرب لبنان 1975 لتاريخه، وأستطيع أن أختصره بكلمتين، متعب ومخلص، متعب باتصالاته وكتاباته الصعبة، ومخلص لصداقاته وخياراته الثابتة”.
وأشار إلى أنّ “أوّل ما لفته في تجربة الرئيس دياب تجرّؤه على تولي مهمة رئاسة الحكومة في ظروف في غاية الصعوبة، حيث كان الحراك الشعبي غير مسبوق في تاريخ لبنان، وتجرّؤه على قبول المهمة، فيما الرئيس سعد الحريري ومفتي الجمهورية على الضفة المقابلة لقبوله بالمهمة، معارضان لكلّ من يقبل بها”. واستعرض “الظروف الصعبة التي لاقت حكومة الرئيس دياب تباعاً، بدءاً بجائحة كورونا وانتهاء بانفجار مرفأ بيروت، وبينهما انهيار مالي استثنائي. ومرة أخرى، تحضر شجاعة دياب في المواجهة، وقال ما لم يجرؤ على قوله سواه عن سقوط النموذج الاقتصادي اللبناني وتحميل حاكم مصرف لبنان مسؤولية هذا الانهيار”. وقال بقرادوني: إنّ دياب لم يكتف بقول الحقائق، بل حاول وضع الحلول والمخارج، وكانت حكومته أوّل من أطلق مصطلح التعافي على خطة مواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وهو يقول إن لا بدّ من اللجوء إلى دعم المجتمع الدولي ومؤسساته المالية، وهو ما كرّره بعد استقالة حكومته وخلال تصريفها للأعمال، في لقائه بالسلك الديبلوماسي، داعياً إلى حكومة جديدة تنفتح على فرص نيل دعم المجتمع الدولي”.
أضاف: “أقول اليوم ما قاله الرئيس دياب، وأضيف إن المطلوب انتخاب رئيس للجمهورية يستطيع فتح الطريق لنيل دعم المجتمع الدولي على نطاق واسع”. وشكر لقنديل على كتابه، متمنياً “أن يقرأ له كتاباً قريباً عن كيفية إنتاج فرصة لا تضيع”. وتوجه إلى الشعب السوري، بالقول: “كما لم تهزمكم الكوارث الأصعب، فلن تهزمكم هذه الكارثة”. قنديل
من جهته، استهل قنديل كلمته بتوجيه “الشكر إلى وزير الثقافة والطاقم العامل في الوزارة على استضافتنا في هذا المقر الرائع الذي يستحقّ التحوّل الى مقصد لكلّ المهتمّين بالشؤون الفكرية والثقافية، وأشكر للرئيس دياب كلّ ما قدّمه بتحمّله المسؤولية وتلقي السهام والاتهام، وهو يقدّم واحدة من أنظف تجارب الحكم وأكثرها ريادة وأكثرها ابتعاداً عن الطائفية والزبائنية والمحسوبية، وأكثرها اقتراباً من معايير الحكم الرشيد ومفهوم الإدارة العلمية للأزمات وابتكار الحلول، وإتاحته الوقت والفرصة لولادة هذا الكتاب”.
أضاف: “أنوّه بالعاطفة الصادقة التي أبادلها للوزير المفكر والمثقف الكبير الأستاذ كريم بقرادوني وتلبيته الدعوة لتقديم هذه المناقشة الغنية للكتاب الذي نحتفل بتوقيعه اليوم، وأشكر المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين خليل لمساهمته في تقديم شهادته عن مرحلة ما قبل وخلال تشكيل حكومة الرئيس الدياب، التي قال البعض إنها حكومة حزب الله، ومشاركته الخلاصة التي وصل إليها الكتاب بأنّ هذه الحكومة كانت فرصة ضائعة لأنّ الغالبية النيابية التي كان يلعب فيها حزب الله دوراً محورياً، وهي الغالبية التي لعبت دوراً محورياً في تشكيل الحكومة فشلت في التصرّف بصفتها أغلبية حاكمة، رغم ما توافر لها من قيمة مضافة بوجود الرئيس دياب ومعاونيه ومستشاريه، وكانت النتيجة أنها بدّدت ما لديها من فائض قوة معنوي وسياسي لأنّ “الجمل كان بنية والجمّال بنية والحمل بنية”، فذهب ريحها”.
وتابع: “أشكر كلّ الأصدقاء الذين لبّوا الدعوة أو اعتذروا عن عدم التلبية، وآمل أن يجدوا في هذا الكتاب بعض الأجوبة على الأسئلة الصعبة التي تطرحها حال لبنان الكيان والوطن والدولة منذ ولادة لبنان الكبير قبل قرن، حيث لا يتناسب عدد وحجم المحاولات الجادة للتقدّم نحو الوحدة الوطنية مع مستوى التفكك الذي ينحدر إليه البلد مرة بعد مرة ومحاولة بعد محاولة، وصولاً الى القعر الطائفي الذي نعيشه اليوم، ولا يتناسب حجم السعي لبناء الدولة مع بلوغنا كلّ مرة مرحلة اللادولة بصورة تزداد خطورة عن التي سبقتها، ولا يتناسب حجم ونوع الجهد الهادف لمكافحة الفساد مع حجم ومدى تفشي الفساد كمرض عضال يفتك بالدولة والمجتمع حتى صار ثقافة، اسمها الشطارة، وصارت النزاهة والآدمية مرضا اسمه الهبل”.
وأردف: “هذا الكتاب دعوة للاعتراف بأنّ لبنان أمام ما هو أكبر من أزمة حكم ودولة، وأنه مأزق كيان ووطن، والاعتراف بأن الطائفية كشكل لتنظيم الحياة السياسية نجحت بالبقاء والتجذر لأنها الأكثر قرباً من حقيقة أنّ الطائفة هي الجماعة السياسية والاجتماعية الأكثر تمثيلاً وقوة وتنظيماً، والاعتراف بأنّ ما نسمّيه بالتدخلات الخارجية، وصولاً إلى حروب الآخرين، ليس إلا الوجه الآخر للانقسام حول الهوية، الذي رافقنا منذ ولادة الكيان اللبناني، والاعتراف بأننا ما زلنا نبني الوطن على نفيين منذ الاستقلال، لا للوحدة مع سورية، مقابل لا للانتداب الفرنسي، تبعهما نفيان آخران في اتفاق الطائف، هما: لا للاحتلال الإسرائيلي مقابل برمجة الانسحاب السوري، ونفيان مماثلان، لا للتقسيم مقابل لا للتوطين، ونفيان ثالثان لبنان وطن نهائي مقابل لبنان عربي الهوية والانتماء، والاعتراف بأنّ غياب الذاكرة الجماعية للطوائف اللبنانية يجعل الهوية مشروعاً متاحاً حول المستقبل لا عن الماضي، والاعتراف بأنّ كلفة التسويات الطائفية التي تحفظ الاستقرار بما لها وعليها، بما في ذلك نظام المحاصصة وبطء عمل آلة الدولة بفعل حق التعطيل الذي يقوم عليه نظام الطوائف، تبقى أقلّ كلفة من محاولات التغيير الفاقدة للنصاب العابر للطوائف، ومخاطر تحوّلها إلى مشروع حرب أهلية، بما في ذلك الشكل الأكثر حضوراً للحرب الأهلية الباردة وهو الفراغ الرئاسي والحكومي”.
وقال: “هذا الكتاب دعوة إلى الإنصاف أنّ ما قدّمته تجربة الرئيس دياب كانت استثنائية لو قيّضت الإرادة السياسية لتحويله إلى خطة عمل للدولة، وإنّ التناقضات والحسابات المنطلقة من التكوين الطائفي الذي يزداد حضوره حدة وتضاداً في أزمان الأزمات أطاحت بما مثله من فرصة لانطلاق مشروع النهوض بلبنان”. وأشار إلى أنّ “تفكك الغالبية النيابية من حول مشروعه، فتح الباب لتحالف وتناغم الدولة العميقة التي مثل اللوبي المالي نواتها الصلبة، والثورة العميقة التي مثلت جمعيات الـ “أن جي أوز” نواتها الصلبة، للتشارك في إعداد مضبطة اتهام بحق الرئيس دياب وتحويله من صاحب مشروع إنقاذ الى مسؤول عن الانهيار، وربما عن الانفجار أيضاً”.
وأشار قنديل الى انّ “هذا الكتاب دعوة إلى الأمل والعمل، فما مرّ أمام عيوننا من فرصة ضائعة، فولادة الفرص المماثلة ممكنة، إنْ كنا جاهزين لمنع إجهاضها. ويقول إنّ رجال الدولة قامات حاضرة وجاهزة لتحمّل المسؤولية والتضحيات، ويقول إنّ الموج الشعبي العابر للطوائف قابل للولادة، وإنّ الأزمة أولاً وأخيراً هي أزمة قيادة، أزمة تيار عابر للطوائف لا يكلّ ولا يملّ عن زراعة الأمل والعمل، لأنه بمثل ما يجب ردّ الاعتبار لرمزية مفهوم رجال الدولة ورجال السياسة كعاملين في الشأن العام، يجب ردّ الاعتبار لمصطلح ثورة وثوار في ظلّ هذا الانحدار. هذا الكتاب يقول إنّ هذه الفرصة ليست حلماً رومانسياً، فثمة بقعة ضوء وسط هذا الظلام تتمثل بما أنجزته المقاومة التي طوَت صفحة النوع الأشدّ خطراً من التدخلات الخارجية الذي يمثله الوجود العسكري على الأرض اللبنانية كسمة رافقت القرن الماضي، فالأعداء، وفي طليعتهم، كيان الاحتلال، يتهيّبون التفكير بالحروب وإرسال جيوشهم، وقد بات التهديد بالحرب في ضفة المقاومة بعدما كان بيد كيان الاحتلال، والأصدقاء وفي طليعتهم سورية بعدما كانوا يعتبرون ضعف الدولة اللبنانية خطراً على أمنهم الاستراتيجي يستدعي نشر جيوشهم على بعض أرضه، يجدون في المقاومة ضمانة كافية لعدم استخدام لبنان ممراً او مقراً لاستهداف أمنهم القومي”.
أضاف: “أما قضية العلاقات اللبنانية بأكثر من خارج فهي جزء من إشكالية على مساحة مختلفة تطال المقاومة بمثل ما تطال غيرها، لكنها إشكالية اللبنانيين في ما بينهم، وإشكالية خياراتهم الحرة، حتى لمن قرّر التبعية، فهي ليست تبعية ناتجة مما يمليه خارج عليهم بقوة جيوشه وسيطرتها على الجغرافيا، والمقاومة نفسها بما بنته من قوة ردع إقليمية مترفعة عن صرف فائض قوّتها في تغيير المعادلات الطائفية، عصمت لبنان عن مخاطر المضيّ في الحلقة المفرغة للتنقل بين المخاض والمتاهة. كما عصمته عن خطر الحرب الأهلية، وهي بذلك فرصة يجب ألا تضيع لوضع الإشكالية اللبنانية التاريخية حول الطريق إلى الوطن وخارطة الطريق لبناء الدولة”.
وتابع: “لذلك، هذا الكتاب نداء للغالبية النيابية التي كانت محور تشكيل حكومة الرئيس دياب للاعتراف بأنها أضاعت الفرصة، ودعوة لها لتصحيح المسار، بدلاً من المزيد من الفرقة، وصولاً إلى الانتحار. ما زال الباب مفتوحاً للحوار بين مكوناتها لتوحيد الخيارات الرئاسية، التي لا يحرجني القول إنّ الوزير السابق سليمان فرنجية خير من يجسّد رمزية الفرصة لتحالف أوسع مفتوح أمام الآخرين، ودائماً تحت سقف مفهوم التسويات، كمدخل لحكومة جامعة أرشح الرئيس دياب لرئاستها طلباً لمفهوم بناء الدولة. حلمان دفعة واحدة؟ نعم، وما عساها تكون السياسة غير الحلم وزراعة الأمل. لعلّ ما يجري في العالم من تغييرات، وما تحمله فلسطين من وعود، وما يقوله تعافي سورية القريب، ما يحفز المزيد من النخب التي أتعبها السعي للتغيير إلى حدّ اليأس لاستعادة بعض الأمل والعودة إلى العمل. أول الرهان هو أنتم، وأول أنتم، هو الرئيس دياب الذي أدعوه باسمكم إلى إطلاق منصة للعمل الوطني تتسع لهذا الحلم”.
درع الوزارة
وقدم المرتضى إلى قنديل درع الوزارة، وقال: “أيها الأخ العزيز، أيها السيد الموسوي، كما يحلو للدكتور ابراهيم الموسوي أن يخاطبه، أنت رأس حربة بكلّ ما للكلمة من معنى في جبهة الصراع مع الإرهاب الإعلامي، وهذا المصطلح يعود إلى معالي وزير الثقافة الإيراني الدكتور محمد مهدي اسماعيلي، خلصنا إليه في معرض تداولي معه منذ يومين في ما يواجه منطقتنا وشعوبنا من مساع إلى طمس المعرفة وتقويض القيم ونسف الوحدة وشرذمة المجتمعات. ولأنّ وزارة الثقافة معنية من جملة ما هي معنية، وقبل كلّ شيء وفوق كلّ شيء، معنية ببث الوعي لما يُحاك ضدنا من مكائد ومؤامرات واستشراف السبل المثلى للمواجهة والصمود والانتصار. ولأنك أبدعت في هذا المضمار قولاً وفعلاً، خطابة وكتابة، وفنا تشكيلياً، فإنّ وزارة الثقافة في الجمهورية اللبنانية يشرّفها ويسعدها أن تقبل منها هذا الدرع”.
توقيع الكتاب
بعد وقع قنديل كتابه، الذي يعود ريعه إلى متضرّري الزلزال في سورية، في قاعة زيّنتها لوحات فنية بريشته.
أما وقد حل الثاني من آذار وغادر المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم مكتبه في المديرية التي تولى المركز الأول فيها اثنتي عشرة سنة، فمن الأفضل أن نفعل مثله ونطوي صفحة الجدل التي رافقت الحديث عن مخارج تتيح بقاءه على رأس عمله، خصوصاً أن كثيرين يحلو لهم اتخاذ القضية مجرد متراس لإطلاق النار على هوى خصوماتهم، وفق قاعدة، لا حباً بزيد بل كره بعمرو، وبخلفية السعي لدق الأسافين في علاقة اللواء إبراهيم بالقوى والقيادات التي أظهر في كلامه حرصاً على تاريخ طويل من رفقة الدرب والخدمة العامة معها، قطعاً للطريق على الاصطياد في مياه عكرة، أو مياه يُراد تعكيرها، لا فرق.
الذين كانوا يتملقون اللواء إبراهيم وهو على رأس عمله سيغيبون عن المشهد، وقد كان معبراً إلزامياً لائقاً بلا كلفة للكثير من المواقع والأدوار، والذين يريدون الاستثمار في إظهار الحب للواء إبراهيم بهدف تحويله الى متراس لإطلاق النار على الجبهة التي يبقى اللواء ابراهيم احد اركانها، مهما تفاوتت الاجتهادات، سيكتشفون عقم رهانهم ومتانة موقع عباس إبراهيم في خياراته، وثبات مكانته عند الفاعلين في صناعة قرارها، ولو أن بعض العتب لا يُفسد في الودّ قضية.
الأكيد أن اللواء إبراهيم لم يحقق ما حقق من المكانة، ولم يقم بما قام من أدوار، ولم ينجز ما أنجز من مهمات، لمجرد كونه المدير العام للأمن العام، والأكيد أن الموقع وفّر للواء إبراهيم صفة ومنصة وأدوات عمل، بما يتسع لحدود هامش كبير من المهام، خاطر وغامر اللواء إبراهيم باقتحامه، وتضيق لحدود تسيير الأعمال الإجرائية المعلومة والمهام الأمنية التقليدية. وقد رفض اللواء إبراهيم أن يرى فرصة الخدمة أمامه ويحجم عنها، أو فرصة المبادرة والتلكؤ في تحديها، أو فرصة حقن دماء والتقاعس عن مد اليد الى النيران الملتهبة خشية احتراقها، وقد تسنى لي أن أرافق مسيرته قبل هذا المنصب وبعد توليه، بما يتيح لي القول بثقة إنه هكذا كان قبل وهكذا بقي بعد، فارس مقدام، ذكاء وقاد، ذاكرة لا تخذل صاحبها، لياقة واحترام وتهذيب ودماثة، وتواضع ونظافة كف ونزاهة لا تقبل المساومة.
هذا كله كان كافياً ليصنع من عباس إبراهيم مديراً ناجحاً في الأمن العام، لكنه لا يفسر الخصوصية التي استطاع إنتاجها، وجوهرها أنه معروف الهوية والهوى لدى القاصي والداني كمدافع شرس عن خيار المقاومة وعن مكانة سورية، لكنه نجح بنيل ثقة واحترام خصومهما في أشد اللحظات حرجاً. وهنا كفاءة استثنائية في العقل الاستخباري الذي تمتع به هذا الجنرال، فهو يستطيع أن يقنع خصم المقاومة وخصوم سورية بأنه يحتاج عباس إبراهيم الصديق للمقاومة وسورية، وإن لم يكن اليوم فغداً، وهو يضع في عقله خريطة طريق ليجعل لبنان على ضفة الربح في حصيلة المعادلة، وعندما تأتي اللحظة التي تظهر فيها عند هؤلاء فرصة التفكير والتحرك، كان يثبت لهم بنزاهة صحة رهانهم، فلا يعِد إلا بما يقدر، ولا يبني الأوهام والأحلام ولا يوحي بامتلاكه كل مفاتيح القضايا، لكنه يبذل كل جهده، وإذا وجد القضية فرصة لبناء الجسور لا يتردّد في منحها كل فرص النجاح، وعندما تتصل بأرواح بشر كان يعتبر النجاح في حمايتها وكشف مصائرها سبباً كافياً للمخاطرة، حتى ولو كان العائد السياسيّ شبه معدوم، لكن هذا بالضبط هو الذي تحوّل إلى رصيد سياسيّ أكبر من أي رصيد آخر، وقد شاهده العالم يتحرّك لإنقاذ رعايا دول لا تنتمي الى عالم الكبار، وقد لا يجمعه الزمان بقادتها مرة ثانية، وبدأت سيرة عباس إبراهيم تسابقه كلما ظهرت ملفات معقدة داخل لبنان وبين لبنان والخارج وبين دول قد لا تربطها بلبنان مشاكل ومصالح، ودول صديقة أو حليفة أو محبة للبنان، او لسورية أو للمقاومة، فيحمل رسالته الى حيث يجب، ويتقن فن عرضها وانتظار الرأي والتحفيز على القرار، ويملك الصبر للانتظار حتى يحين وقت القطاف، ويكتشف لاحقاً أنها صارت رصيداً لدى دول وجهات وصلت اليها الأصداء، فيستطيع تجييره للمساعدة بما يخص لبنان واللبنانيين.
رغم الهوى والهوية نجح عباس إبراهيم بإبعاد كل التسييس عن معاملات المديرية العامة للأمن العام، فكل اللبنانيين سواء كما ينصّ دستور البلاد، كما نجح بإبعاد كأس الفساد المرّة عن معاملاتها، ونجح بأن يكون مصدر اطمئنان الفرقاء اللبنانيين في ذروة اختلافاتهم فيجيء إليه المختلفون طلباً للبحث عن حلول وتسويات، وعندما يفعلونها مرة لا يلبثون أن يعيدوا الكرة، وحافظ وهو يفعل ذلك على تراتبية مؤسسية، فلا شيء من خلف ظهر رؤسائه، ولا شيء من خلف ظهر الجمهورية، فقدم لنا الفرصة للقول إن فكرة الدولة حيّة وقابلة للحياة.
– أمثال عباس إبراهيم لا يتقاعدون ولا يتقاعسون، ولا يقال لهم وداعاً، بل دائماً الى اللقاء، والمهام تطلب الرجال الرجال، وهي ليست مناصب ولا صفات، ومهام كثيرة سوف تجد طريقها لتنادي الجنرال الجاهز دائماً للتحرك.
يدرك الأميركيون خطورة انفجار الوضع الفلسطيني، ويعلمون أن هذا الانفجار يأتي بعد اليأس من جدوى خيار التفاوض والرهان على التسويات. وقد أمضى الفلسطينيون سنوات وعقوداً وهم يمنحون الفرصة تلو الأخرى لخيار التفاوض بلا جدوى. فالأرض الفلسطينية في الضفة الغربية تتقلص كل سنة بنسبة بين 5 و10%، والاستيطان ينمو في الضفة الغربية والقدس بصورة سرطانيّة، وعمليات طرد الفلسطينيين خصوصاً في القدس تسير على قدم وساق، لدرجة لم يعد فيها مكان لمشروع دولة فلسطينية عاصمتها القدس واقعياً في الجغرافيا، حتى لو بقي الطرح متداولاً في الحديث السياسي.
يدرك الأميركيون أيضاً أن هذا اليأس الفلسطيني ليس ناجماً عن عامل فلسطيني مقاوم، بل إن نهوض التيار المقاوم فلسطينياً هو نتيجة لهذا اليأس وليس نتيجة له، لأن قضم الجغرافيا الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين يتمان بإرادة إسرائيلية ومشيئة إسرائيلية، بتغطية أميركية. وقد تراجعت مكانة السلطة الفلسطينية تدريجياً في عيون الفلسطينيين، بسبب تنفيذها لما يطلبه منها الأميركيون، بما في ذلك التنسيق الأمني مع الإسرائيليين، وتسليم المقاومين وكشف خططهم وعملياتهم، ولذلك يدرك الأميركيون أن مشكلتهم في القلق من الانفجار ليست ناتجة عن راديكالية فلسطينية في السلطة ولا حتى خارجها، بل هي نتاج مباشر لطبيعة الحكومات الصهيونية وسياساتها الاستيطانية، وإعلانها دولة يهودية وترجمة هذه الهوية في مفهوم العاصمة الأبدية التي تمثلها القدس بمباركة أميركية، ومعنى تفريغها من العرب.
الذي يعرفه الأميركيون أيضاً هو أن هذا المأزق ينمو ويكبر منذ ثلاثة عقود، وأن تبدل حكومات الكيان لم يغيّر في الاتجاه التصاعدي لهذا المأزق، رغم تناوب تشكيلات سياسية إسرائيلية في اليمين واليسار والوسط، لكنهم يدركون أن ما لم يكن ممكناً مع حكومات إسرائيلية مختلفة التوجهات، هو مستحيل مع الحكومة الإسرائيلية الحالية، لأنها أقل الحكومات الإسرائيلية استجابة، واستعداداً للاستجابة في كل ما يتصل بتجميد الاستيطان وعدم المساس بهوية القدس العربية، لأن القوة الرئيسية في هذه الحكومة التي يمثلها المستوطنون والمتطرفون دينياً، تحمل برنامجاً صريحاً فازت على أساسه في الانتخابات يقوم على توسيع الاستيطان وفق قواعد جديدة، وتهجير الفلسطينيين من القدس بوتيرة مختلفة.
قمة العقبة التي عقدت بطلب أميركي ومشاركة مصرية أردنية إسرائيلية فلسطينية، أملاً بصناعة تهدئة تمنع خطر الانفجار، لا تملك زمام المبادرة، طالما أنها عاجزة عن ضبط الأداء الاستيطاني للحكومة الإسرائيلية، وعاجزة عن توفير الحد الأدنى من الحماية للسكان الفلسطينيين في القدس، وزمام المبادرة الموجود أصلاً لدى الفريق الجديد في الحكومة، موجود أيضاً لدى الفريق الفلسطيني الصاعد الذي يمثله عرين الأسود وكمية جنين، وشباب مثل إبراهيم النابلسي، وعلقم خيري، ولذلك لن يجدي الحديث عن تدريب آلاف الشباب الفلسطيني على أيدي خبراء أميركيين وتمويل نشوء ميليشيا فلسطينية تشارك الإسرائيليين حربهم ضد المقاومة، تحت عنوان منع الانفجار، لأنه عاجلاً أو آجلاً سيتفكك هذا الجهاز الجديد، وتبدأ خلايا المقاومة تتشكل داخله، كما حدث مع أمن السلطة الفلسطينية الذي يتولى التنسيق الأمني مع الإسرائيلي. فهؤلاء الفلسطينيون الذين يطلب إليهم خدمة الاحتلال هم أبناء العائلات التي تنزع أرضها وتنسف بيوتها ويجري إذلالهم على حواجز التفتيش.
مشكلة الأميركيين أنهم يريدون الحفاظ على الاحتلال بأبشع أشكال توحشه، ويريدون فلسطينياً قادراً على تخديم مشروعه واعتبار جهاز الخدمة هذا، سلطة وطنية فلسطينية، والفلسطينيون يطلقون على هذا الجهاز تسمية واحدة هي العمالة.
عندما يحتفل الغرب بمرور سنة على حرب أوكرانيا تحت عنوان أن أوكرانيا صمدت وأن روسيا تعاني العزلة، وأن السنة الثانية للحرب هي سنة التراجعات الروسية العسكرية والسياسية والاقتصادية، فهل علينا أن نصدّق؟
عندما بدأت روسيا ما وصفته العملية العسكرية الخاصة، وضعت حربها بين سقفين، الأول أن يقابل الأوروبيون الموقف الروسيّ بعقلانية، فلا ينضمّون إلى منطق العقوبات العدائية التي تنادي بها أميركا وتستدرجهم إلى ساحتها لتجعلهم رهائن للسياسات الأميركية في مجال الطاقة، وبالتالي تحولهم الى دول هشة ضعيفة عاجزة عن الاستقلال. وفي هذه الحالة تكتفي روسيا بالسقف الأوكراني للحرب، أي ترتيب مريح لذوي الأصول الروسية في أوكرانيا الجديدة، ضمن صيغة اتحادية لعدة دول مستقلة، يجمعها الحياد. وسقف آخر يرتبط باستجابة أوروبا لنداء العداء لروسيا الذي تقوده واشنطن. وفي هذه الحالة تتحوّل الحرب الى سقف عنوانه إعادة صياغة العلاقات الدولية على المسرح الأوروبيّ بصورة خاصة.
في الحالة الأولى كانت حلقة الهيمنة الأميركية ستضعف في أوروبا وتتحوّل أوروبا الى شريك أمني اقتصادي لروسيا في بناء نظام عالمي متعدّد الأقطاب تحفظ فيه أوروبا مقعدها المستقل، أما في الحالة الثانية فتسقط العناوين الأوكرانية المباشرة للحرب وتحلّ مكانها العناوين الدولية، وتتحول أوكرانيا الى ساحة منازلة مع حلف الناتو، كما هو الحال، وفي حرب استنزاف تتقن روسيا أصولها تزيد أهمية القدرة على تلبية الميدان بالقدرات البشرية والعتاد والسلاح والذخائر على أهمية الجغرافيا، وعندما سلكت الأمور هذا الاتجاه أظهرت روسيا براعة فائقة في تحمّل التخلي المؤقت عن الجغرافيا لتحقيق أهداف حرب الاستنزاف، وأوصلت الناتو إلى استنزاف مخزونات ذخائره، وأوكرانيا إلى استنزاف مقدراتها البشرية، واحتوت بنجاح العقوبات الغربية المالية ونجحت بحماية الروبل من الضغوط المفترضة بذكاء رغم مصادرة مئات مليارات الدولارات من أصولها.
الآن تدخل الحرب مرحلة جديدة لا ينفع فيها التغني الغربي بتصويت الأمم المتحدة على مبدأ الانسحاب الروسي من أوكرانيا، وهو مبدأ يبدو طبيعياً أن تؤيده غالبية دولية، هي ليست متوافرة للعقوبات المفروضة على روسيا وهي الأهم، حيث يتمرد أقرب حلفاء أميركا عليها في الاستجابة لنداء العقوبات، كحال تركيا التي تمسك بمداخل البحر الأسود، والسعودية التي تمسك بعصب سوق الطاقة. والواضح أن المرحلة الجديدة التي يدخلها العالم ليست مرحلة عزلة روسيا، بل مرحلة فقدان اميركا لسطوة قبضتها على أقرب الحلفاء.
في الميدان سيكشف الربيع ومن بعده الصيف حجم التحولات التي تتراكم لصالح روسيا في الجغرافيا، ومحدودية القدرة الغربية على مجاراة الروس في تأمين المزيد من السلاح الفعال وسلاسل توريد الذخائر، ويبدأ الاقتصاد الروسي بدورته الجديدة التي أسست لها إجراءات احتواء العقوبات، والتي يتوقع الخبراء أن تتيح نمواً في ظل الحرب يتجاوز الـ 5% سنوياً.
بالتأكيد ليس لدى الصين وهم بأن هناك فرصاً حقيقية لتسوية الصراع الدائر في أوكرانيا بين روسيا وحلف الناتو بالطرق السياسية، وأن الأمر يتوقف على مبادرة للحل السياسي ولو كان وراءها ثقل الصين، ولا أن ما مرّ من الحرب كان كافياً لإنضاج مواقف الطرفين لمنطقة وسط تتيح التوصل إلى تسوية، وبالتأكيد ليست الصين برومانسية التوهّم بأنها طرف محايد في جوهر النزاع الذي يدور من الجانب الروسي تحت شعار إسقاط القطبية الأحادية، وإنهاء مشروع الهيمنة الأميركية على العالم. فالصين تعلم تشخيص الناتو لها كمصدر خطر أول، وتصنيفه لروسيا تحدياً عسكرياً وأمنياً، وأن روسيا تخوض الحرب بالنيابة عن كل الدول المستقلة التي تسعى لتقليص مدى التسلّط الغربي على السياسة الدولية، والصين في طليعة هؤلاء، فماذا تريد الصين من مبادرتها والترويج الواسع تمهيداً لإطلاقها.
خلال الشهور الماضية ظهرت حقائق واضحة في مسار الحرب، أهمها أن التنافس العسكري بين روسيا وحلف الناتو يدور حول سلاحين رئيسيين حاسمين في الحرب، هما الطائرات المسيّرة، والصواريخ البالستية الدقيقة، وأن روسيا في هذين المجالين تملك تفوقاً حاسماً على ثلاثة مستويات، الأول هو امتلاك فائض من المخزون في هذين السلاحين، رغم كل الدعاية الغربية عن شح لدى روسيا دفعها للاستعانة بإيران والصين وكوريا الشمالية، والثاني هو امتلاك روسيا لخطوط إنتاج وتوريد وإمداد سلسة من المصانع إلى خطوط القتال مقابل اعتراف الغرب بمشاكل عديدة تعترض طريق قدرته على سد الفجوات التي تطرحها الفوارق بين قدرات الإنتاج وحاجات الميدان، ومشاكل النقل والإمداد على خطوط طويلة مهدّدة بالاستهداف، ما استدعى البحث عن بدائل من نوع الاستعاضة عن السلاحين الصاروخي والمدفعي بمدافع الدبابات، والثالث هو الارتياح الروسيّ لما لديه على مستوى الكادر البشريّ القادر على تشغيل المعدات التقنية الدقيقة التي ترتبط بها هذه الأسلحة وخصوصاً الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة، وقدرته على مزاوجة التدريب القريب من الجبهة والزجّ بالمقدرات الجديدة إلى خطوط العمل الميداني، بينما عمليات التدريب التي يجريها حلف الناتو لحساب أوكرانيا على الأسلحة الجديدة تستهلك وقتاً طويلاً وتجري بعيداً عن الجبهة وفي ظروف متفاوتة بين البلدان التي تستضيف هذه التدريبات.
تدرك الصين أنّها تتعرّض مع إيران لحملة مركزة من الغرب تحت عنوان اتهامهما بتقديم الدعم العسكري لروسيا، وذلك لجعل ملف دعم روسيا من ملفات التفاوض على قضايا خلافية أخرى مع كل من الصين وإيران، والملفات الخلافيّة واضحة وجدية وموضوعة على الطاولة، وعبر الترغيب والترهيب تريد واشنطن انتزاع توقيع بكين وطهران على وثيقة تنص على الامتناع عن تقديم أي دعم لروسيا في الحرب، يعني مجرد توقيعها من بكين وطهران إذلالاً لهما وتثبيتاً للهيمنة الأميركية، ولذلك رد الصينيون على الاتهامات الأميركية بالقول إن أميركا التي توجه الاتهامات للصين بدعم روسيا عسكرياً، وهي اتهامات باطلة، هي أميركا نفسها، أكبر مورد للسلاح إلى حرب اوكرانيا، وهي بالتالي فاقدة للأهلية الأخلاقية لتقييم شكل تعامل الصين مع الحرب، وتبنيها لموقف يدعو لوقف الحرب واعتماد الحل السياسي لقضايا النزاع.
طوّر الصينيون ردهم الى مستوى تحويل مضمونه الى مبادرة تؤكد موقفهم وموقعهم من الحرب، لجهة الدعوة لحل سياسي يقوم على إيجاد إطار دولي للبت بقضايا النزاع الحدودي بين أوكرانيا وروسيا من جهة، ويقدم الضمانات التي تطمئن روسيا في أمنها القومي والاستراتيجي من جهة موازية، لكنها مبادرة تبدأ بالدعوة لتخفيض مستوى النزاع، من خلال التزام الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي لا تشكل طرفاً مباشراً في الحرب الى الامتناع عن تقديم أي مبيعات سلاح أو هبات عسكرية إلى أي من طرفي النزاع الروسي والأوكراني. وهذا يعني وضع التزام الصين القائم فعلاً مقابل التزام مطلوب من كل من أميركا وبريطانيا وفرنسا، وهو ما تعلم الصين أنه لن يحصل، ما يعني انتقال زمام المبادرة السياسي في توجيه الاتهام بالتورّط في الحرب الى ضفة الصين بحق أميركا وفرنسا وبريطانيا، وامتلاك الصين الحق بفعل المثل طالما أن مبادرتها قد رفضت.