ديمقراطية أميركا بمثابة سلاح دمارٍ شاملٍ

الخميس 16 كانون الأول

المصدر: الميادين نت

لقد بشَّر بايدن الأميركيين والعالم بأنَّ “أميركا عائدة” في فترته الرئاسية

عمرو علان

كاتب وباحث سياسي في العديد من المنافذ الإخبارية العربية ، ومنها جريدة الأخبار ، وقناة الميادين الإخبارية الفضائية ، وعربي 21 ، وراي اليوم

في ظلِّ انشغال الأوروبيين بقضاياهم الداخلية الضّاغطة، إضافةً إلى تزامن قمة بايدن “للديمقراطية” مع المؤتمر الشعبي المؤتمر عن مستقبل أوروبا، تراجَع بشكلٍ عام الاهتمام الأوروبي بالقمة.

في مقاله الشَّهير “لماذا يجب على أميركا أن تقود مجدداً؟”، الذي نُشِر في آذار/مارس 2020 قبيل خوضه السباق الرئاسي، والذي رسم فيه جو بايدن معالم سياسته الخارجية في حال انتخابه، كان بايدن قد ركّز على فكرة كون العالم يخوض معركة “الديمقراطية” ضد “الأوتوقراطية”، بحسب فهمه. وكان من أبرز ما طرحه في مقاله ذاك، عزمه على عقد مؤتمر دولي بقيادة أميركا لدعم “الديمقراطية” وتعزيزها حول العالم.

ولعلّ القمة من أجل “الديمقراطية” التي عقدها في 9 و10 كانون الأول/ديسمبر 2021 هي ذاك المؤتمر الذي بشَّر به في مقاله المذكور، فهل جاءت قمة “الديمقراطية” ونتائجها كما بشَّر بها العالم إبان انتخابه؟

دعت الإدارة الأميركية أكثر من 100 دولة إلى قمة بايدن، لكننا نجد غياباً كاملاً لأي معايير في توجيه الدعوات، فحتى لو سلَّمنا للأميركي بمعاييره المفترضة وشهادات حسن السلوك التي خوّل نفسه توزيعها في “الديمقراطية” والحُكْم الرشيد من خلال مؤسسة “فريدام هاوس”، فإننا نجد تناقضاً واضحاً في قائمة المدعوين، فقد تمت دعوة العراق وباكستان والهند وأكرانيا مثلاً، بينما لم تتم دعوة سنغافورة، ولا تركيا وهنغاريا الأطلسيتين، ناهيك بعدم دعوة روسيا وإيران، رغم تنظيمهما انتخابات دورية وحقيقية. 

ولهذا، كان واضحاً من قائمة المدعوّين أنَّ الأميركي يتغطّى مجدداً بقضية “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” من أجل أهدافٍ جيوسياسيةٍ تتعلق بمواجهة الصين. أكّد هذا الاستنتاج الذي ذهب إليه غالبية المتابعين، دعوة تايوان إلى القمة، رغم أنها ليست دولةً مستقلةً. 

على الأرجح، كان هذا الاستنتاج هو ما دفع باكستان إلى الاعتذار عن حضور قمة بايدن، إذ قال رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، في 9 كانون الأول/ديسمبر 2021، إنَّ باكستان غير راغبةٍ في الانضمام إلى أيّ تجمعٍ سياسيٍ ضد أحدٍ، وإنَّ العالم عانى الكثير من الحرب الباردة، وإن دولته لا ترغب في أن تجد نفسها جزءاً من حربٍ باردةٍ جديدةٍ. 

وجاء موقف روسيا والصين حازماً تجاه قمة بايدن، إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا: “تقوم الولايات المتحدة بتدمير نظام العلاقات الدولية المؤسسة على القانون الدولي والدور المركزي للأمم المتحدة، وذلك من أجل إنشاء منطقة راحة خاصة بها تنوي واشنطن أن تهيمن فيها بانفراد…”. ولهذا السبب بالذات، تنظّم الولايات المتحدة هذه الفعالية الجماعية في شكل “قمة الديمقراطية”، التي ستمنح المشاركين فيها شرف حق خدمة المصالح الأميركية.

أما الصين، فقال المتحدث باسم وزارة خارجيتها إن الديمقراطية أصبحت منذ فترةٍ طويلةٍ سلاح دمارٍ شاملٍ تستخدمه الولايات المتحدة للتدخل في الدول الأخرى، مشيراً إلى الثورات الملونة التي أثارتها أميركا في الخارج، وتابع كلامه بالقول: “إن القمّة نُظّمت لرسم خطوط تحاملٍ أيديولوجيةٍ، واستغلال الديمقراطية… والتحريض على الانقسام والمواجهة”.

إذاً، ما كان الهدف الحقيقي من قمة بايدن – كما بات واضحاً للقاصي والداني في دول العالم – إلا مواجهة صعود الصين في الدرجة الأولى، والتصدي لعودة روسيا إلى الساحة الدولية في الدرجة الثانية. 

عندها، لا حرج إذا قيل إنَّ القمة لم تحقق الكثير على هذا الصعيد، فاستبعاد دول مثل سنغافورة، التي تقع في المجال الحيوي للصين، والتي يمكن أن يكون لها دور كبير ضمن استراتيجية أميركا لمواجهة الصين، لا يبدو خطوةً أميركيةً في الاتجاه الصحيح.

ولعلَّ استبعاد سنغافورة كان في الأساس بسبب رفض رئيس الوزراء السنغافوري الدخول في تحالف من أجل “الديمقراطية”، يكون الهدف الحقيقي منه الدخول في حربٍ باردةٍ جديدةٍ ضد الصين، ولا يبدو كذلك استبعاد تركيا ومصر، الدولتين الإقليميتين المهمتين، خطوة أميركية محسوبة، فكما قال ستيفن وولت في مقاله بعنوان “قمة بايدن للديمقراطية يمكن أن تأتي بنتائج عكسية”: “إذا ما كانت الصين تعدّ التحدي المركزي للولايات المتحدة الأميركية في هذه المرحلة، فإن التركيز على الديمقراطية يمكن ألّا يكون الطريق الأمثل لمواجهة هذا التحدي”.

أما عن حضور أوروبا في هذه القمة، فرغم تصريحات ممثل السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوسيب بوريل، التي حثَّت الدول الأوروبية على المشاركة البنَّاءة في قمة بايدن، فإنَّ مصالح أوروبا لا تبدو متطابقة مع الولايات المتحدة الأميركية تجاه الصين في هذه المرحلة، ولا سيما في ظل جائحة “كوفيد-19” والتغيّر المناخي، إضافة إلى صعود الصين كقطب اقتصادي مهم لدول العالم، فكما أوضحت إيرين جونز وإليسا ليدو في مؤسسة كارنيغي للأبحاث: “تسود أوروبا تحفّظات على عودة أميركا لقيادة العالم، إذ يشير مصطلح “الاستقلال الاستراتيجي” الذي يُعد الأكثر رواجاً في أوروبا في هذه الحقبة إلى مَنحى أوروبيّ للخلاص من الخيار بين قيادة واشنطن أو بكين”.

وأضافت جونز وليدو أنَّ البعض في أوروبا يرى أنَّ تقسيم بايدن لدول العالم بين دول “ديمقراطية” يمكن التعامل معها، وأخرى “غير ديمقراطية” لا تصلح للتعامل معها، لا يأخذ بالحسبان تعقيدات العالم في هذه الحقبة.

وفي ظلِّ انشغال الأوروبيين بقضاياهم الداخلية الضّاغطة، إضافةً إلى تزامن قمة بايدن “للديمقراطية” مع المؤتمر الشعبي المؤتمر عن مستقبل أوروبا، تراجَع بشكلٍ عام الاهتمام الأوروبي بالقمة، في إشارةٍ إلى تراجع أهمية هذه القمة على المستوى العالمي.

لقد بشَّر بايدن الأميركيين والعالم بأنَّ “أميركا عائدة” في فترته الرئاسية، وكان العمل على تعزيز ما سمّاه “الديمقراطية” في العالم ومواجهة “الأوتوقراطية”، من خلال عقد قمّة عالمية لهذا الغرض، بحيث تكون فاتحةً لمسار جديد تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وكلنا يدرك أنَّ هذه العبارات تخفي وراءها هدف مواجهة صعود الصين كقطب عالميّ، واستعادة روسيا مكانتها كقطب دولي آخر، فإذا بنا نجد بايدن يعقد قمة عن بُعد، رأى فيها الكثيرون مجرد استعراض لقيادةٍ أميركيةٍ عالميةٍ لم تَعُدْ موجودةً بالفعل، وظهر أنها كانت موجهةً إلى الداخل الأميركي أكثر من الخارج، وذلك، كما يبدو، في محاولةٍ لطمأنة الداخل الأميركي إلى موقع أميركا العالمي.

ولكنَّ المفارقة كانت في عقد أميركا مؤتمراً من أجل “الديمقراطية” عقب شهورٍ قليلةٍ فقط على إعلانها فشل مشروعها المزعوم لترسيخ ديمقراطيتها في أفغانستان، وعقب تزايد الحديث عن تراجع “الديمقراطية” في الداخل الأميركي ذاته، وذلك في ظلِّ عدم اعتراف قطاعٍ واسعٍ من بين الجمهوريين بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة.

في ظلِّ تراجع الإمبراطوريات، يبدو أنَّنا سنبدأ بسماع الكثير من الجعجعة من دون رؤية الطحين. ولا أريد المبالغة كثيراً، لكنَّ قمة بايدن الأخيرة هذه تذكِّر بالقمم العربية التي لم يكن ينتج منها سوى البيانات، من دون أية نتائج عمليةٍ على أرض الواقع.إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً