معركة “ثأر الأحرار” في المنظور الاستراتيجي الأميركي

الاخد 14-05-2023

معركة “ثأر الأحرار” في المنظور الاستراتيجي الأميركي

عمرو علان

ربما تكون أزمة نتنياهو الداخلية أحد دوافع عدوان الاحتلال الأخير على غزَّة، وربما يكون سعي الكيان لاسترداد قدرته الردعية بدافعٍ ذاتي أحد الأسباب أيضاً.

يقال إن الاحتلال لطالما أتمّ انتخاباته عبر الخوض في الدم الفلسطيني والدم العربي، وإنه دأب على حلّ أزماته الداخلية من خلال تصديرها إلى الخارج بواسطة اعتداءاتٍ طالت كل دول الطوق تقريباً، وهذا كان صحيحاً لفتراتٍ طويلةٍ، كانت فيها يده هي العليا، وكان يمكن الاعتماد على تلك الأسباب وحدها لتفسير التوقيت والأهدافل اعتداءاته في كثير من الحالات.

أمّا اليوم، وبعد أن قَوِيَت شوكة فصائل المقاومة الفلسطينية، واشتد ساعد قوى “محور المقاومة” بصورة عامة، وصار للدخول في حروبٍ أو جولات تصعيدٍ مع أيّ منها تكلفةٌ يدفعها الاحتلال وجبهته الداخلية، فلم تَعُدْ تلك الأسباب وحدها كافيةً لتفسير أهداف اعتداءاته وتوقيتها. ففي نهاية المطاف، ما زال يوجد في الكيان الموقت “مؤسسة جيشٍ” وهيئة أمنٍ قومي وشُعْبة استخبارات عسكريةٍ قوية، وتلك المؤسسات يكون لها ثقلٌ وازنٌ حين اتخاذ قرار الذهاب إلى الحرب. فحال الكيان في ذلك كسائر الدول والكيانات، ويصعب على السياسيين بصورةٍ عامةٍ إقناع مؤسسات الأمن القومي بالذهاب إلى الحرب في حال عدم وجود مسوغٍّ حقيقي لها، أو أنها فقط لمجرد رغبة السياسيين في تصدير أزماتهم الداخلية إلى الخارج، ولا سيما عندما يكون لتلك الحرب تكلفةٌ يمكن أن تضرّ أمن الدولة، كما باتت اليوم حال الكيان في مواجهة قوى المقاومة. 

إذاً، ربما تكون أزمة نتنياهو الداخلية أحد دوافع عدوان الاحتلال الأخير على غزَّة، وربما يكون سعي الكيان لاسترداد قدرته الردعية بدافعٍ ذاتي أحد الأسباب أيضاً، لكن في ظل المخاطر المستجدة، والتي يمكن أن تواجه العدو في أي عدوانٍ على قوى المقاومة، يصير من الأقرب إلى الصواب البحث عن أهداف استراتيجيةٍ أو تكتيكيةٍ للعدو أكثر عمقاً من وراء عدوانه. فالتقدير الصحيح لأهداف العدوان يساعد على صياغة الطريقة الأكثر ملاءمةً لإفشاله، فماذا يريد الكيان، إذاً، من وراء هذا العدوان الأخير على غزَّة؟ والذي بدأه بضربةٍ قاسيةٍ في الشكل والمضمون؟ وهل كان قراره بشأن التصعيد فردياً؟

يمرّ العالم برمته حالياً في حالة إعادة رسمٍ للتوازنات بين أقطابه، أمّا منطقتنا فجاريةٌ إعادةُ رسم التوازنات فيها منذ حينٍ. وأثبتت جولات الحرب في العقدين الأخيرين بين كيان الاحتلال وقوى المقاومة الإقليمية والفلسطينية، بدءاً بحرب عام 2006 في لبنان، وليس انتهاءً بمعركة “سيف القدس” عام 2021، تراجعَ قدرة جيش الاحتلال على تحقيق أهدافه من تلك الحروب، الأمر الذي حدا بالأميركي إلى محاولة تجنيب الاحتلال الدخول في معارك جديدةٍ، وذلك حمايةً له إلى حين تعديل موازين القوى، التي باتت مختلَّةً في غير مصلحة الكيان الموقت، إذ كانت حرب عام 2006 آخر معركةٍ خاضها كيان الاحتلال بدفعٍ مباشرٍ من الأميركي، ونيابةً عنه، كما اقر بذلك إيهود أولمرت، رئيس وزراء كيان الاحتلال في ذاك الوقت. 

لكن، في معركة “ثأر الأحرار”، تظهر اليد الأميركية بوضوحٍ، فلقد جاءت عقب زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، الأخيرة لكيان الاحتلال، كما أن نتنياهو صرَّح بشأن وضع الإدارة الأميركية في صورة الاعتداء الأخير على غزَّة مسبّقاً، بالإضافة إلى ما قاله إيلي كوهن، وزير خارجية الاحتلال، بشأن حصول الكيان على غطاءٍ سياسي مطلقٍ من الولايات المتحدة الأميركية، هذا ناهيك بالاتصالات التشاورية التي أجراها يوآف غالانت، وزير الحرب في حكومة الاحتلال، مع نظيره الأميركي، على نحو لا يدع مجالاً للشك في الانخراط الأميركي المباشر في هذه الجولة.

من هنا، يمكن رصد تبدُّلٍ في الموقف الأميركي تجاه إشعال كيان الاحتلال لتوتِّرٍ جديدٍ في المنطقة، إذ كان الأميركي سعى، خلال الفترة القريبة الماضية، لمنع انزلاق الأوضاع في الإقليم إلى حربٍ أخرى، بسبب انشغاله بحربه ضد روسيا في أوكرانيا.

لكن، يبدو أن تعثُّر الأميركي في تحقيق أهدافه الاستراتيجية في الحرب الأوكرانية حتى اللحظة، والذي أدى بصورةٍ أو بأخرى إلى إضعاف قبضته على حلفائه الإقليميين، والذي بدا في بعض الخطوات التي اتخذتها السعودية – على سبيل المثال لا الحصر – حينما أعادت العلاقات بإيران برعايةٍ صينيةٍ، جعل الأميركي يعيد النظر في توجهاته، ويغامر بدفع كيان الاحتلال إلى خوض معركةٍ جديدةٍ، مع من يظنه الحلقة الأضعف في “محور المقاومة”، أملاً في أن يرمِّم الكيان الغاصب جزءاً من ردعه الذي تهشَّم، ويستعيد وظيفته التي أنشئ من أجلها، كعصاً وضابط إيقاعٍ لدول المنطقة، عسى أن يَحدّ ذلك زيادةَ اختلال التوازن في الإقليم لغير مصلحة الأميركي. 

من خلال رصد الطريقة الجديدة في إدارة معركة “ثأر الأحرار” من جانب فصائل المقاومة الفلسطينية، بدايةً بعدم الرد الفوري على جريمة اغتيال القادة الشهداء لحركة “الجهاد الإسلامي”، والصمت المُعبِّر والذي اتبعته قبيل بدء المعركة، ودخول الفصائل موحدةً في القتال ضمن “غرفة العمليات المشتركة”، ومن خلال تقديرات المقاومة في الأشهر القليلة الماضية، بأن العدو متَّجهٌ إلى شنِّ عدوانٍ جديدٍ على غزَّة، يَظهر أن فصائل المقاومة الفلسطينية تدرك مغزى هذه المعركة، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه.

بالنتيجة، بناءً على الفهم الذي طرحه هذا المقال لأبعاد معركة “ثأر الأحرار”، يَعتقِد الكيان الموقت أن نجاحه في تحقيق أهدافه سيؤدي إلى تعديل التوازنات الإقليمية على نحو يصبّ في مصلحته، ليس فقط في مواجهة المقاومة الفلسطينية، بل في مواجهة “محور المقاومة” عموماً، بالإضافة إلى ضرب المواجهة الاستراتيجية الدائرة في الضفَّة الغربية حالياً، إذ تستمد تلك المواجهة زخمها من وجود ظهيرٍ قوي لها في غزَّة، وفي دول المحور كذلك، كما يأمل الأميركي استعادة جزءٍ من هيمنته المتراجعة في الإقليم. 

وفي حال نجاح فصائل غزَّة في إفشال أهداف هذا العدوان، فإنَّها ستحقِّق قفزةً إلى الأمام في مستوى تأثيرها الإقليمي، على غرار ما حقَّقته في معركة “سيف القدس”.

لكن، في النهاية، غاب عن ذهنَي الأميركي والكيان الموقت معاً، أن وقف مسار القوس الصاعد لقوى المقاومة في المنطقة، يلزمه انتصارٌ استراتيجي للكيان في عدَّة جبهاتٍ معاً، ولعل هذا ما يجعل حظوظه في تحقيق أهدافه من عدوانه الأخير محدودةً.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

استشهاد خضر عدنان وملف تبادل الأسرى

السبت 6 أيار 2023

عمرو علان 

رحم الله أسير فلسطين الشيخ الشهيد خضر عدنان، ويظل السؤال عما إذا كانت شهادته ستكون دافعاً إلى فك أسر رفاقه من الأسرى؟

سيسجِّل التاريخ اسم الشيخ الشهيد خضر عدنان رمزاً لقوة الإرادة والتحمُّل، وأيقونةً للتمرُّد على سلاسل الأَسْر. فحقاً صدق فيه قول الشاعر عبد الرحيم محمود “فإمَّا حياةٌ تسر الصديق وإمَّا مماتٌ يغيظ العدا”، فهذا الرجل، الذي أُسِر عدّة مراتٍ، وخاض خلالها نحو ستّة إضراباتٍ متفرقةٍ عن الطعام، استمر آخرها قرابة ثلاثة أشهرٍ عصيبةٍ انتهت باستشهاده، استحّق أن يصير رمزاً لنضالات الأسرى الفلسطينيين وعذاباتهم، فلا استطاع تكرار الأَسْر كسر عزيمته، ولا فتَّتت 295 يوماً من الإضرابات المتقطعة عضضه، ولا أشغلته الحياة والعائلة عن واجبه الوطني والتزامه، دينياً وأخلاقياً، إذ كان الشيخ الشهيد يعود إلى مقارعة المغتصب في ميادين الجهاد بعد كل مرةٍ، فور خروجه من زنازين الاحتلال.

استشهاد خضر عدنان وملف تبادل الأسرى

لكن رفض الاحتلال إطلاق سراح الشيخ الشهيد، على رغم 86 يوماً من الإضراب عن الطعام أفضت إلى وفاته، يحتِّم على المعنيين التوقف أمام هذه السابقة الخطيرة، ويفرض عليهم النظر في دلالاتها واستحقاقاتها، إذ تعيد هذه الحادثة التذكير بإضراب الأسرى الفلسطينيين الجماعي، والذي كان مقرراً قبيل شهر رمضان الفائت، كون قصة الشيخ الشهيد تُعَد جزءاً من قضية الأسرى الأشمل. وتعيد هذه الحادثة التذكير أيضاً بوصية الأسرى الجماعية، والتي نشروها قبيل البدء بالإضراب، وبما جاء فيها على نحوٍ غير مسبوقٍ؛ ذلك المحتوى الذي ربما لم يأخذ حقه في النقاش، وفي النظر في دلالاته، بسبب انتهاء الإضراب سريعاً في ذلك الوقت.

كانت الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال اتَّخذت بالإجماع قراراً يقضي بالدخول في إضرابٍ جماعيّ مفتوحٍ عن الطعام، تزامناً مع بداية شهر رمضان الماضي، وكان القرار، الذي اتخذه الأسرى حينها، يقضي بعدم فك الإضراب حتى تحقيق مطالبهم، وإن أدى ذلك إلى استشهادهم أجمعين.

وكتب الأسرى وصيةً جماعيةً تم نشرها، بالإضافة إلى كتابة وصاياً فرديةٍ كما يفعل الاستشهاديون تماماً. فما الأسباب التي دفعت الحركة الأسيرة إلى اتخاذ قرارٍ قاسٍ كهذا؟ ربما لكان سيؤدي إلى استشهاد بعضهم، كما حدث فعلاً مع الشيخ الشهيد خضر عدنان؟

لعل السطور الأولى من وصية الأسرى الجماعية كانت لتدلنا على إجابة عن هذا التساؤل، إذ جاء فيها أنه “بعد أن وجدنا أنفسنا وحيدين في مواجهة الموت والنسيان، نصارع المستحيل، ونحن أسرى نحارب حتى النهاية بين فكَّي كماشة الإهمال وأنياب بن غفير الاستعمارية”. وتتابع الوصية بالقول: “قررنا، بناءً على الإرادات المؤمنة والمنبثقة من وهم وعينا، تحررياً وإنسانياً، بعد التوكل على الله وعلى شعبنا، أن ننطلق سهاماً من على أوتار أرواحنا المتمردة، فإما حريةٌ حمراء مخضبةٌ بالجوع والكرامة، وإمّا انتصارٌ أكيدٌ على الذات والدنيا معاً”.

أشارت تلك العبارات إلى إحساسٍ لدى الأسرى بأنَّهم تُرِكوا وحيدين ومنسيين في مواجهة الموت البطيء خلف القضبان. فبعد مُضِيّ نحو عقدٍ ونيف على “صفقة الأحرار”، التي تمكنت فيها “كتائب القسام” من تحرير نحو ألف أسيرٍ، ما زال سائر الأسرى ينتظرون فك قيدهم. ولعلّ تلك الكلمات توحي بأن اليأس بدأ يتسلل إلى نفوسهم مع مرور كل عام، وهم يكابدون الزنازين. فإذا كانت “كتائب عز الدين القسام” وفصائل المقاومة الفلسطينية تمكَّنت من إتمام صفقة تبادلٍ ناجحةٍ قبل 12 عاماً، في وقتٍ كانت أضعف بمراحل مما هي عليه راهناً، فهل يصح القول إنها اليوم عاجزةٌ عن تكرار تلك التجربة بعد أن ازدادت قوتها؟ وكيف إذا ما أضيف إلى ذلك تراجع قدرة العدو؟ وتعاظم قدرات قوى المقاومة من الناحية المقابلة في الإقليم بصورة عامة؟ 

لعلّ الأسرى كانوا محقين حينما وجهوا العتب ضمناً إلى إخوانهم في فصائل المقاومة الفلسطينية، فلقد طال أمَدُ انتظارهم للوفاء بالوعد الذي كانت قطعته الفصائل على أنفسها بتحريرهم، ومعالجة هذا الملف الذي يحظى بإجماعٍ وطنيّ فلسطينيّ.

لا يصح هنا القول إن الحركة الأسيرة لا تدرك حقائق الواقع، سياسياً وميدانياً، حينما تطالب بالحرية، أو أنَّها تطلب أمراً لا يمكن تحقيقه. فعلى رغم وجود الحركة الأسيرة خلف أسوار المعتقل، فإنها ما زالت على تواصلٍ مع الخارج عبر وسائل متعدّدة، والراجح أن الحركة الأسيرة كانت لتصبر على العذابات، وما كانت لتطالب الفصائل بأمرٍ غير قابلٍ للتنفيذ، فهذه الحركة تضم رجالاً صمدوا عقوداً خلف القضبان، ولا يعوزهم الصبر حيث يلزم الصبر. 

لذلك، إذا كان عدد جنود الاحتلال، الذين تم أسرهم في معركة غزة عام 2014، لا يكفي لإنجاز صفقة تبادلٍ جديدةٍ، فربما يكون آن الأوان لتقوم المقاومة بما يلزم فعله من أجل تحريك ملف تبادل الأسرى، وإجبار العدو على الرضوخ وإنهاء هذا الملف، الذي يُعَدّ جرحاً نازفاً في الجسد الفلسطيني.

أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن حكومة المستوطنين المتغطرسين الحالية هذه، والتي ذهبت بعيداً في الاستقواء على الأسرى، إلى حدّ الحديث عن تعديل القوانين، على نحو يتيح للاحتلال تنفيذ عقوبة الإعدام بحقهم، كما طبَّقته فعلياً بحق الشيخ الشهيد حينما رفضت إنهاء حبسه الإداري حتى توفي، هذه الحكومة ذاتها، أو هذا الكيان الموقت بصورة عامة، تم اختبار جاهزيته للذهاب إلى الحرب أكثر من مرة مؤخراً، وكان يثبت، في كل مرة، تفاديه أي مواجهةٍ تتخطى بضع غاراتٍ جويةٍ شكليةٍ على البساتين والمناطق المفتوحة، سواءٌ أكان في غزة، أم في جنوبي لبنان، كما ظهر خلال شهر رمضان الماضي. لذلك، فالأرجح ألّا يجد العدو بدّاً من التفاوض غير المباشر لإتمام صفقة تبادل أسرى جديدةٍ من أجل استعادة جنوده الموجودين حالياً في قبضة فصائل غزة، أو أي جنودٍ آخرين يُحتمَل وقوعهم في الأسر.

رحم الله أسير فلسطين الشيخ الشهيد خضر عدنان، ويظل السؤال عما إذا كانت شهادته ستكون دافعاً إلى فك أسر رفاقه من الأسرى؟ وذلك قبل أن يسقط منهم شهداء آخرون؟ فهذا وحده الثمن المقبول لمعركة الشيخ الشهيد التي دفع حياته ثمناً لها.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

هل من تشابه بين معادلات اقتحام الأقصى وترسيم الحدود البحرية؟

كانون الثاني 6 2023

هل من تشابه بين معادلات اقتحام الأقصى وترسيم الحدود البحرية؟

عمرو علان 

اقتحام بن غفير باحات الأقصى يأتي ضمن مساعٍ جدية يبذلها المستوطنون والاحتلال من أجل تغيير الوضع القائم في المسجد، تمهيداً لهدمه لاحقاً، ولا سيما أن أعضاء حكومة الاحتلال الحالية من الأشد تطرفاً.

لم يكن اقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير باحات المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صباح يوم الثلاثاء 3 كانون الثاني/يناير من هذا العام أمراً عابراً، أو لا يجوز أن يكون كذلك، فإضافة إلى كون بن غفير يشغل منصباً من الدرجة الأولى في حكومة الاحتلال، فإنَّه من زعامات المستوطنين الأكثر تطرفاً، بحسب اعتراف الاحتلال ذاته، وهو ممن يدعون صراحةً إلى إقامة الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى، وتهويد القدس، وضم أراضي الضفَّة وترحيل سكانها.

لذلك، يصعب وضع هذا الاقتحام في خانة الأعمال الاستعراضية والاستفزازية فحسب، بل لعل الأقرب إلى المنطق هو أن يوضع ضمن مساع جدية يبذلها المستوطنون والاحتلال من أجل تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، تمهيداً لهدمه لاحقاً، ولا سيما أن جل أعضاء حكومة الاحتلال الحالية يُعَدون من المستوطنين الأشد تطرفاً والأكثر رعونةً في المجتمع الصهيوني، على شاكلة بن غفير.

ويبدو من تصريحات قوى المقاومة الفلسطينية والإقليمية، التي صدرت إثر الاقتحام الأخير، أنها تسعى إلى التهديد بانفجار المنطقة برمتها في حال استمر الاحتلال بانتهاك حرمة المسجد الأقصى، أملاً في أن يلجم الأميركي حكومة الكيان المؤقت.

وكان أبرز ما أُعلن في هذا السياق تصريح الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، إذ حذر من أن التعرض للمسجد الأقصى “قد يفجِّر المنطقة بكاملها”، وأضاف: “نقول لكل الدول في العالم، ولرعاة هذا الكيان الغاصب، إذا كنتم لا تريدون حرباً ثانيةً في المنطقة أمام ما يجري في الحرب الروسية الأوكرانية، فعليكم أن تكبحوا جماح هؤلاء المجانين المتطرفين”.

ولعل فصائل المقاومة بنت رؤيتها هذه على أمرين:

الأمر الأول قراءة تقول بوجود مصلحة أميركية بالحفاظ على الهدوء في المنطقة في الوقت الراهن، نظراً إلى انشغالها بملفات دولية أخرى كبرى، أهمها الحرب على روسيا في أوكرانيا. 

تعد هذه القراءة دقيقةً إلى حد بعيد، أقله حتى اللحظة. مثلاً، يُستشَف من تعقيب البيت الأبيض على الأحداث عدم حماسة الأميركي لرؤية تصعيد جديد في المنطقة، فقد قال البيت الأبيض: “أي إجراء أحاديِّ الجانب يقوض الوضع القائم في الأماكن المقدسة في القدس غير مقبول”.

ويظهر ذلك أيضاً في تصريح وزارة الخارجية الأميركية التي عبَّرت عن قلقها من التداعيات المحتملة لما حدث، إذ يُستبعَد أن تكون هذه المواقف الأميركية الرافضة نابعةً من الخشية على الحقوق الإسلامية والعربية في الأماكن المقدسة في فلسطين!

أما الأمر الثاني، فهو قياس فصائل المقاومة الوضع في القدس انطلاقاً من قضية ترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع الكيان المؤقت، إذ مارس الأميركي في تلك القضية ضغوطاً على الأخير ليقبل بمطالب الدولة اللبنانية، تفادياً لاشتعال جبهة جنوب لبنان، للأسباب عينها التي تدفعه اليوم إلى محاولة الحفاظ على الهدوء في المنطقة. 

لكنَّ التهديد بانفجار الجبهات في قضية ترسيم الحدود البحرية كان مصحوباً بإشارات ميدانية تدل عليه، وهذا ما لا يبدو أنَّه متوفرٌ – حتى اللحظة – في مسألة الاعتداءات على المسجد الأقصى.

وحتى إن توفرت هذه الإشارات الميدانية، يجب ملاحظة أمور عدة، منها أن قضية القدس والهيكل المزعوم تعد أكثر مركزيةً في العقل الصهيوني من قضايا ترسيم الحدود، إضافة إلى كون المعادلات التي تحكم تعامل العدو مع الداخل الفلسطيني عموماً تختلف عن تلك التي تحكم تعامله مع ساحات أخرى.

لذلك، على الأغلب أن تستمر في الأشهر القادمة مساعي المستوطنين والاحتلال لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، لا سيما مع وجود حكومة “مجانين” تقود الكيان المؤقت، والأرجح ألَّا يكبح بنيامين نتنياهو تلك المساعي، رغم إدراكه موازين القوى الحاكمة؛ ذاك الإدراك الذي دفعه إلى التراجع عن تنفيذ وعوده بالانسحاب من اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان.

لهذا، يمكن القول إنَّ احتمالات التصعيد خلال المرحلة القادمة تعد مرتفعةً في فلسطين، وربما في المنطقة عموماً، فاستفزازات المستوطنين ستستدعي بالضرورة ردود أفعال من الفلسطينيين وفصائلهم المقاوِمة، سواء في الضفة أو ربما في غزة، ما ينذر بانزلاق الأوضاع إلى حرب جديدة، بصرف النظر عن رغبة قوى المقاومة أو الكيان المؤقت في حدوثها.

وبناء عليه، يبرز تساؤل عما إذا ما كانت قوى المقاومة قد أعدت إستراتيجية موحدة ومحددة للتعامل مع المرحلة المقبلة، يكون هدفها حماية المسجد الأقصى من خطر التقسيم الزماني والمكاني، وعمادها مفهوم “وحدة الجبهات” التي دعا إليها قائد أركان كتائب القسام، أبو خالد محمد الضيف، أو بعبارة أخرى “محور القدس” الذي كان قد نادى به أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله.

وتعد صياغة إستراتيجية كهذه أمراً ممكناً، في ظل وجود أوراق قوة عديدة لدى قوى المقاومة يمكن البناء عليها، ومنها: 

– موازين القوى الحاكمة مع العدو التي باتت تسمح بتحقيق الأهداف المرسومة، أو بالحد الأدنى تشكيل ردع فاعل في وجه الاحتلال إذا ما وظِّفت تلك التوازنات بصورة حاسمة.

– توفر ذريعة قانونية قوية ضد تغيير الوضع القائم في القدس يمكن تسويقها دولياً، إذ وجدنا استنكاراً دولياً وإقليمياً واسعاً لاقتحام بن غفير الأخير المسجد الأقصى، حتى من الدول الداعمة للكيان المؤقت دولياً، وأيضاً الدول العربية التي أسرفت في التطبيع حديثاً معه، والتي لم تستطع غض البصر عن اقتحام الأقصى، ووجدت نفسها مضطرةً إلى استنكار ذاك الفعل على أقل تقدير، لما يحمله من حساسية كبيرة لدى شعوب العالم العربي والإسلامي قاطبةً.

لعلّ الوقت بات مناسباً كي تضع قوى المقاومة تصوراً محدداً لاقتحامات المسجد الأقصى يرفع مرتبة هذا العدوان من كونه عملاً أمنياً إلى كونه عملاً عسكرياً يقتضي التعامل معه آنياً على غرار الأعمال العسكرية.

في العموم، لا يدعو الأمر إلى الإفراط في التشاؤم، كما جرى مع بعض أوساط بيئة المقاومة بعد الاقتحامات الأخيرة للمسجد الأقصى، فتعاظم قدرات قوى المقاومة، وفي المقابل تراجع الكيان المؤقت على الصعيدين العملاني والداخلي، كفيلٌ بتحويل هذا التحدي الجديد لقوى المقاومة إلى فرصة، سواء مع وجود إستراتيجية محددة أو مع عدم وجودها. 

كل ما في الأمر أن بناء تصور واضح للمرحلة المقبلة يقصِّر المسافات نحو تحقيق الأهداف، ويقلل الكلفة التي لا مناص من دفعها، ليس في الماديات فحسب، بل أيضاً في المعنويات التي تعد عنصراً رئيساً من رأسمال قوى المقاومة، ففي نهاية المطاف “الروح هي التي تقاتل”.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

إقرأ للكاتب

البحر الأبيض المتوسط وفرص إضعاف الحصار على لبنان وغزَّة

22:09  الجمعة 14 تشرين الأول 2022

البحر الأبيض المتوسط وفرص إضعاف الحصار على لبنان وغزَّة

عمرو علان 

من المعلوم أن عمليات الإعداد وتطوير القدرات التسليحية للقوى العسكرية لا تكون بطريقة اعتباطية.

رغم دخول الحروب العصرية مرحلة “حروب الجيل الخامس”، بحسب تقديرات البعض، والحديث المتزايد عن دور الذكاء الاصطناعي في حروب المستقبل، بما يوحي أحياناً بأنَّ الحرب باتت مختلفة في الجوهر عن حروب الحقب الماضية، فإنَّ واقع الحال يشير إلى عدم تبدُّل الأهداف الإستراتيجية للنزاعات الدولية كثيراً، فتأمين مصادر الطاقة والسيطرة على ممرات النقل، لا سيما البحرية منها، ما زال يؤدي دوراً حاسماً في صعود القوى الدولية وهبوطها.

لذلك، خلال المرحلة الدولية الراهنة التي يتم فيها رسم معالم نظام عالمي جديد، ويترتب على نتيجة مسار الأحداث فيها صعود حضارات وهبوط أخرى، نجد أنَّ القوى الدولية الكبرى، وتلك الإقليمية الفاعلة، تولي عملية التحكّم في المضائق والممرات المائية الحيوية اهتماماً خاصاً، كمضيقي هرمز وباب المندب، وبحري آزوف والأبيض المتوسط، ولا يبدو أنَّ تبدُّلاً حقيقياً سيطرأ على هذه الأهداف الإستراتيجية للنزاعات الدوليَّة قبل أن تصل الحضارة الإنسانية إلى مستوى “النوع الأول” من الحضارات على “مقياس كارداشيف لتصنيف الحضارات”، وقبل أن تقطع شوطاً معتبراً فيه على أقل تقدير، وذلك لن يتحقق إلا لقرون قادمة.

من هنا، نلحظ أن خيار تطوير القدرات الهجومية العسكرية البحرية التي أولتها دول “محور المقاومة” وحركاته اهتماماً ملموساً في السنوات الأخيرة ضمن تكتيكاتها القتالية بات يعطي مفاعيله في عمليات رسم معادلات الحرب وتحقيق المكاسب الميدانية. 

وقد تجلى ذلك في عدَّة محطات مهمة خلال الأعوام الماضية. مثلاً، كانت قدرات إيران العسكرية البحرية قد شكَّلت إحدى وسائل الردع الفعَّالة التي اعتمدتها في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، لثنيها عن الإقدام على عدوان عسكري عليها، إذ كان باستطاعة إيران في تلك الحالة تعطيل حركة الملاحة عبر مضيق هرمز؛ ذلك الممر المائي الحيوي الذي يمر عبره ما يزيد على 20% من صادرات موارد الطاقة الأحفورية في العالم.

وفي محطة مهمة أخرى، نجد أنَّ التنافس على السيطرة على مضيق “باب المندب” يعد واحداً من الخلفيات الرئيسة للحرب التي تشنها السعودية على اليمن. لذلك، كان من ضمن إستراتيجية صنعاء العسكرية تطوير قدرات بحرية هجومية مؤثرة يمكن الاعتماد عليها في التأثير في حركة الملاحة البحرية في باب المندب والبحر الأحمر.

أما في لبنان، وفي محطة ترسيم الحدود البحرية مع العدو، وسعي الدولة اللبنانية لفرض حقّها في استخراج الغاز الطبيعي من حقول شرقي المتوسط واستثماره، نجد أنَّ قدرات حزب الله البحرية الهجومية كان لها الدور الحاسم في حصول الدولة اللبنانية على مسودة تفاهم حول ترسيم الحدود البحرية مع العدو، وحول حقّه في استخراج موارده الغازية واستثمارها، بصرف النظر عن الجدل القائم حول إذا ما كانت تلك المسودة قد أعطت للبنان كامل حقوقه.

 ما يهم في هذا المقام، بعيداً من النقاش الدائر حول خطوط الترسيم البحرية اللبنانية: الخط 29، والخط 23، وخط “فريدريك هوف”، والخط “الإسرائيلي” رقم 1 البري، بعيداً من هذا النقاش، على أهميته ووجاهته، يبقى واقع الحال أن الكيان الموقّت ما كان ليعطي لبنان أياً من حقوقه لولا تلويح حزب الله بقدراته البحرية العسكرية.

ولولا إمكانات حزب الله البحرية العسكرية تلك، القادرة على استهداف مصادر استخراج الطاقة في شرقي المتوسط، والقادرة على عرقلة حركة نقل الطاقة عبر البحر الأبيض المتوسط أيضاً، ما كان الأميركي في وارد السماح للبنان بالاستفادة من ثرواته من الغاز الطبيعي، بما يتضمَّنه ذلك من ضرب لأساسات سياسة الحصار غير المعلن التي ينتهجها الأميركي ضد لبنان منذ حين.

إذاً، بناءً على الوقائع السالفة الذكر، يمكن أن نخلص إلى أنَّ الجهد الذي صرفته دول وحركات المقاومة على تعزيز قدراتها البحرية العسكرية وحسن توظيف تلك القدرات تكتيكياً في الميدان أثمر نتائج ملموسةً في مصلحتها، وحقّق لها مكاسب ميدانيةً وسياسيةً، ولا سيما في الحالة اللبنانية. وبناءً على هذه الخلاصة، يبرز تساؤلٌ عما إذا كان من الممكن لفصائل المقاومة الفلسطينية الاستفادة من هذه التجارب في فك الحصار المفروض على غزة.

بدايةً، من المعلوم أن عمليات الإعداد وتطوير القدرات التسليحية للقوى العسكرية لا تكون بطريقة اعتباطية، بل تكون استجابةً للإستراتيجيات والتكتيكات العسكرية المرسومة، وضمن الإمكانات المتاحة وظروف الميدان؛ فمن خلال تتبع مسيرة دول “محور المقاومة” وحركاتها نجد أنها عملت منذ البدايات على توظيف سلاح “صواريخ أرض أرض” بطريقة مميزة، بهدف التغلب على معضلة التفوق الجوي الكاسح لمصلحة العدو. وقد كان ذلك ضمن إستراتيجية “الحرب غير المتكافئة” الشاملة التي اعتمدتها قوى المقاومة في مواجهة الأعداء عموماً.

وقد تم تعميم تجربة “صواريخ أرض أرض” بعد نجاحها في جنوب لبنان إبان الاحتلال الإسرائيلي، فصارت إيران بعد ذلك من أكبر القوى الإقليمية من ناحية قدراتها الصاروخية، وباتت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزَّة تتمتع بقدرة صاروخية يحسب لها الحساب، إذ استنسخت تكتيكات إطلاق الصواريخ من منصات مخفية وتحت الأرض.

وعقب حرب لبنان في تموز/يوليو 2006، التي اختبر فيها حزب الله بنجاح باهر تكتيكات ميدانية ضد سلاح المدرّعات الإسرائيلي، وذلك باستخدام سلاح “كورنيت” الروسي المضاد للدروع، اتخذ قائد حرس الثورة الإسلامية آنذاك، الشهيد اللواء قاسم سليماني، قراراً بنقل تلك التجربة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، بالتعاون مع كل من حزب الله والدولة السورية التي زودت القطاع بهذا النوع من السلاح من مخزون الجيش العربي السوري في ذلك الوقت. وقد كان لتكتيك استخدام سلاح “كورنيت” في القطاع دورٌ أساسيٌ في تحديد نتائج حروب غزَّة اللاحقة.

أما راهناً، وفي ظلِّ التوتر الدولي القائم حول الطاقة، وحول الممرات البحرية لنقلها، وارتفاع أهمية أسلحة البحر الهجومية بناءً على ذلك التوتر، ربما بات من المجدي أن تبدأ فصائل المقاومة الفلسطينيّة، وبالتعاون مع أركان “محور المقاومة”، بتسخير الموارد من أجل تعزيز قدرات القطاع البحرية العسكريّة، سواء بالعتاد المطلوب أو بالتقنيات اللازمة لتصنيع العتاد المناسب؛ فإذا كان “محور المقاومة” قد نجح في هذه العملية في اليمن، فلا بد من وجود إمكانية لتكرار الأمر في غزة.

ويدور الحديث هنا بالنسبة إلى غزَّة عن خطة متوسطة المدى أو قصيرة المدى في أفضل الأحوال، بحسب ظروف الميدان، إلا إذا كانت غزَّة قد تسلَّحت بالفعل على هذا الصعيد، مع العلم بأن لا مؤشرات تدل على هذا الأمر.

في كلِّ الأحوال، لا يجوز إهمال أمرين مفصليين عند التفكير في تكتيك استخدام البحر كوسيلة لتخفيف الحصار عن غزة، قياساً على تجربة حزب الله الأخيرة في لبنان. أولاً، لا يجوز بحال تجاهل حقيقة أنَّ حساب “موازين القوى” يختلف إلى حد بعيد من عدة أوجه بين الساحتين اللبنانية والفلسطينية.

لا ينسحب هذا على صعيد قدرة حزب الله التسليحية المتفوقة نوعاً وكماً فحسب، والفروق في طبيعة الميدان التي تتيح للحزب هامشاً أعظم في المناورة، واستفادة الحزب من خطوط إمداد فعالة، لكن أيضاً يجب أن يوضع بالاعتبار، عند حساب “موازين القوى”، حساسية ساحة فلسطين بالنسبة إلى الاحتلال مقارنةً بأي ساحة “معادية” أخرى، فسقف المعادلات التي يمكن إرغام الإسرائيلي على تجرُّعها من دون الدخول في جولة حرب قاسية يعد أعلى من السقف الذي يمكنه قبوله في فلسطين من دون الدخول في حرب يكون من شأنها تبديل التوازنات القائمة بصورة جوهرية.

وبناءً عليه، يمكن القول إنَّ المراهنة على السلاح البحري الهجومي وحده تعد مراهنةً واقعيةً، إذا ما كان الهدف هو تخفيف الحصار، لا إنهاءه بشكل كلِّي عن القطاع، مع أنَّ تخفيف الحصار، الذي يمكن لفصائل المقاومة في غزَّة تحقيقه في هذه الحال، وضمن الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، قابلٌ لأن يكون تخفيفاً حقيقياً وذا آثار ملموسة على حياة سكان القطاع.

أما الأمر الثاني، فهو أنه لا يجوز بأي حال أن يتحول تكتيك تطوير السلاح البحري الهجومي في غزَّة إلى بديل من تكتيك المقاومة في تفعيل العمل المقاوم في الضفة، فساحة الضفة لا تزال تحظى بموقع الصدارة من الناحية الإستراتيجية في مشروع التحرير المركزي، ناهيك بأنه ضمن ظروف العدو الموضوعية المستجدة، وضمن تراجع القبضة الأمنية لسلطة “التنسيق الأمني” في رام الله، إضافة إلى الظروف الإقليمية والدولية الراهنة المحيطة، بات من الممكن لساحة الضفة تحقيق إنجاز يفوق بكثير أي إنجاز يمكن لساحة غزَّة تحقيقه على مستوى المشروع الوطني.

ختاماً، يفتح الاشتباك العالمي الدائر بين الدول العظمى آفاقاً جديدةً أمام فصائل المقاومة الفلسطينية، بما يجعل فرص تخفيف مفاعيل الحصار المفروض على غزَّة بصورة ملموسة أكثر واقعيةً، وذلك عبر المناورة على عقدة الطاقة والممرات المائية، لكن يبقى إنهاء الحصار عن غزَّة بصورة كلية أمراً يلزمه تغيير في “موازين القوى” الحاكمة حالياً، والطريق الأقصر لذلك، والأكثر جدوى وطنياً وإستراتيجياً، يمر عبر تصعيد الفعل المقاوم في الضفة، وتحويل المقاومة فيها إلى حال يحاكي مقاومة غزة، وهذا بات أمراً متاحاً ضمن المستجدات الفلسطينية والإقليمية.

نظرة في تجربتي كتيبتي جنين ونابلس

 الأربعاء 10 آب 2022 

* كاتب وباحث فلسطيني

عمرو علان

لقد مرّت الضفة الغربية المحتلة، خلال العشرين سنة الماضية تقريباً، بمرحلةٍ يصح تقييمها على أنها كانت مرحلة «موتٍ سريريٍ» على صعيد الفعل المقاوِم، وعلى صعيد أثرها على الاحتلال وقدرته على الاستمرارية والتمدّد في أراضي الضفة الغربية. لكننا نشهد، منذ فترةٍ، بشائر نهاية هذه المرحلة، ممّا يوجب النظر في التحولات التي تعيشها الضفة، ليس لغرض التحليل فقط، وإنما لِيبنى على الأمر مقتضاه للمرحلة المقبلة.

لقد تكوّنت قناعةٌ خاطئةٌ خلال الثلاثين سنةً الماضية عند شريحةٍ واسعةٍ من أبناء الشعب الفلسطيني، لا سيما من أبناء حركة «فتح»، تقول بأنه من الممكن استرداد بعضٍ من الحقوق العربية الفلسطينية المسلوبة عبر طريق المفاوضات. ولقد تكَوّن هذا الاقتناع بسبب مسار «أوسلو» الذي سلكته «م.ت.ف» بقيادة حركة «فتح». وتعدّ هذه القناعة وهذا المزاج من الأسباب الجوهرية لمرور الضفة في حالة «موتٍ سريريٍ»، إذ حرم هذا المزاج المقاومة في الضفة من قسم لا يستهان به من حاضنتها الشعبية.

ومثّلت حقبة محمود عباس ذروة مرحلة الموت السريري ، إذ غدا «التنسيق الأمني» الوظيفة الأولى لأجهزة سلطة رام الله الأمنية، فصارت حماية أمن المستوطنات والمستوطنين، والقضاء على أي فرصةٍ لمقاومة الاحتلال مهما كان شكلها، أهم إنجازات سلطة رام الله، لدرجة أنها تفوّقت على الاحتلال ذاته في تلك الوظيفة.
لكن، نتيجةً لوصول مسار «أوسلو» إلى طريقٍ مسدودٍ كما كان محكوماً عليه منذ البدايات، وظهور نتائجه الكارثية في الضفة، وعلى المشروع الوطني الفلسطيني عموماً، بالإضافة إلى تحوّل سلطة رام الله إلى أداةٍ وظيفيّةٍ في يد الاحتلال، وذلك كمسارٍ طبيعيٍ لوجود أي سلطة حكمٍ ذاتيٍ في ظل الاحتلال كما علّمتنا تجارب الشعوب الأخرى، نتيجةً لكل هذا، بدأ في الأعوام القليلة الماضية ظهور بشائر تحوّل في المزاج العام الفلسطيني في الضفة. إذ بدأت الضفة باستعادة نفَسها الثوري بالتدريج، وبدأت الحاضنة الشعبية للمقاومة بالتوسع وعودتها إلى سابق عهدها تدريجاً، واتّضح هذا من خلال انتفاضات الأقصى المتتالية، ومن خلال عمليات طعن المستوطنين وعمليات الدّهس الأسبوعية تقريباً، والتي تصاعدت بعد ذلك لتصبح بعضها عمليات إطلاق نارٍ واشتباكاتٍ مسلّحةٍ، كان منها عملياتٌ فدائيةٌ وقعت في أراضي 1948 المحتلة.
وعلى أهمية عمليات المقاومة الفردية تلك، إلا أن الضفة قد شهدت في الأشهر القليلة الماضية تطوراً ملموساً في عمليات مقاومة الاحتلال، إذ ظهرت مجموعاتٌ منظمةٌ تُحْسِن استخدام السلاح في ساحات الضفة، كانت طليعتها «كتيبة جنين» في مخيّم جنين، والتي شكّلت التجربة الناجحة الأولى، والتي تتكرّر اليوم في مدينة نابلس من خلال «كتيبة نابلس».

ولا يبدو أن هذه الكتائب الفتِيّة تنتمي إلى فصيلٍ فلسطينيٍ بعينه، إذ يظهر أنها تتشكّل من مجاهدين ينحدرون من خلفياتٍ فصائليةٍ متنوعةٍ، إلّا أن ما يجمع بين هؤلاء المجاهدين الاقتناع بفشل مسار «أوسلو»، وبأن سلطة رام الله باتت جزءاً من أجهزة الاحتلال بصورةٍ فعليةٍ، وفوق هذا وذاك يجمع بينهم إيمانهم بخيار المقاومة المسلحة كخيارٍ أصيلٍ للشعب الفلسطيني، يمكن أن يفضي بصورةٍ واقعيةٍ إلى دحر الاحتلال والتحرير.
وممّا ساعد في تطوّر هذه الكتائب ونجاح عملياتها، كان عدم اعتمادها على الصيغة الهرمية في تنظيمها، حيث صعّب ذلك على كلٍ من سلطة رام الله وقوات الاحتلال ضربها والقضاء عليها، هذا بالإضافة إلى تمتّعها بحاضنةٍ شعبيةٍ أوسع، وذلك جراء التحوّل الذي حصل في المزاج العام عند أكثرية الشرائح التي كانت مقتنعةً بمسار «أوسلو»، بعد تبيُّنها عبثيّة ذاك المسار وعقمه.
ولا يمكن فصل مجموع التطورات التي تشهدها الضفة في العمل المقاوم، وبشائر خروجها من مرحلة الموت السريري، عن السياق العام لتبدّل البيئة الاستراتيجية التي تحكم المنطقة، وأهمّها تراجع فعالية الكيان المؤقت عسكرياً، وذلك بعد إخفاقات معاركه التي خاضها منذ حربه ضد لبنان 2006 وحروبه التي تلتها ضد قطاع غزة من المنظور الاستراتيجي. فتراجع الكيان عسكرياً، بالإضافة إلى ما رافقه من تعاظمٍ في قدرات «محور القدس»، لا سيما فصائل المقاومة في قطاع غزة، قد خلق ظرفاً جديداً في الضفة بما يشبه شبكة أمان لكتيبتي جنين ونابلس. إذ بات الكيان يقيم حساباتٍ دقيقةٍ لتصعيد الوضع في الضفة، خوفاً من انفجار الأوضاع ودخول غزة على الخط. فقد كانت «كتائب القسام» ألمحت سابقاً إلى إمكانية دخولها على خط المعركة، في حال قيام الكيان بتنفيذ اجتياحٍ واسعٍ لمخيَّم جنين على غرار اجتياح 2002. هذا ناهيك عن الحديث المستجد حول وحدة الجبهات بين أطراف «محور القدس» في المعارك المقبلة، ولا بد أن توفُّر ما يشبه شبكة الأمان في الضفة، قد أمَّن بيئةَ عمَلٍ أكثر راحةً لكتيبتي جنين ونابلس.

ولا يغيّر العدوان الصهيوني الأخير في هذا الشهر ضد قطاع غزة على البيئة الاستراتيجية الراهنة، فعدم مشاركة «كتائب القسام» علناً بالقتال يعود لحسابات تكتيكية فرضتها طبيعة المعركة الأخيرة وأهدافها، وذلك لتحقيق الهدف المرجو بأقل الخسائر، سواء أكان في عدد الشهداء أم في البنية التحتية لقطاع غزة.
يمكن إذاً القول بأن الضفة تَفتتِح مرحلةً مغايرةً لسنوات «أوسلو» العجاف، بسبب التحولات الداخلية الفلسطينية في المقام الأوّل، مع ملاحظة الأهمية القصوى للتحولات الإقليمية كذلك. وهذا ما يلقي على فصائل المقاومة في قطاع غزة، مع بقية قوى «محور القدس» عموماً، مسؤولية بناء تكتيكاتٍ مناسبةٍ لتطوير تجربتي كتيبتي جنين ونابلس الواعدتين، لا سيما أنه بات من الواضح تراجع فعالية قبضة أجهزة سلطة رام الله الأمنية في الضفة، مما يتيح فرصاً أكبر لإمداد المقاومين هناك بالعتاد، علماً بأن ما يلزم الضفة من حيث نوعية العتاد أقل بكثير مما تحتاجه غزة بسبب الفروقات في طبيعة الميدان.
وفي حال تجذُّر تجربتي كتيبتي جنين ونابلس، وتطويرهما ليمتدّا إلى مناطق أخرى في الضفة، سيكون الاحتلال أمام واقع استنزافٍ حقيقيٍ مشكوك في قدرته على تحمُّله طويلاً، ليصير حينها الحديث عن إمكانية تكرار الضفة لتجربتي جنوب لبنان وقطاع غزة أمراً واقعياً، تلكما التجربتان اللتان أُجبِر فيهما الاحتلال على الانسحاب من دون قيدٍ أو شرطٍ من الأراضي التي كان يحتلُّها، وهنا تكون قوى المقاومة قد قفزت قفزةً كبرى نحو استكمال تحرير كامل الأراضي العربية الفلسطينية من رأس الناقورة إلى أم الرشراش.

وختاماً، أدعو المتشككين في واقعية هذا الطرح إلى العودة بالذاكرة نحو 15 عاماً، ويقارنوا بين حال فصائل المقاومة في غزة حين ذاك، وبين ما وصلت إليه اليوم من اقتدار، فهل كانوا ليتصوروا حين ذاك وصول فصائل المقاومة في غزة إلى ما وصلت إليه اليوم؟

A quick note about the latest aggression against Gaza

9 Aug 2022
Amro Allan

On 27 Dec. 2008, the Zionist occupation forces began an aggression against Gaza that lasted for three weeks. The aggression resulted in thousands of civilians killed and injured, tens of thousands displaced, and large destruction in Gaza’s civilian infrastructure.
the Zionist entity announced that the objective of that aggression was to annihilate Hamas, the Palestinian resistance group that was a fraction of what it is now in terms of its strength.
At the end of the three week long operation, the occupation clamed victory, and the occupation forces, the settlers, along with their supporters started congratulating themselves on their (so called) victory.
However, 13 years later, in 2021, the Palestinian resistance, specially Hamas, was bombarding the occupation with long range missiles, reaching pretty much all the occupied Palestinian land.
Now few days ago, the occupation forces began another aggression against Gaza. This time though, they said they were going to annihilate Islamic Jihad, another Palestinian resistance group that is comparable to what was Hamas back in 2009 in terms of size and strength.
But, this aggression lasted 3 days and not 3 weeks. One of the reasons for this was that the Zionist entity feared the sequences if Hamas entered the battle field with Islamic Jihad. This is the same Hamas that the occupation claimed to have defeated in 2009, you remember?
Anyway, again The occupation claimed victory at the end of their three day long operation. And again, the occupation forces, the settlers, and their supporters are congratulating themselves on what they think is a victory, only that Islamic Jihad hasn’t disappeared!
The occupation tried, during the past few days, to do with Islamic Jihad what it tried to do with Hamas thirteen years ago. But most likely, from past experience, the growth trajectory of Islamic Jihad will be like Hamas’s. And in few years, the occupation will have to face two Hamas size resistance groups in Gaza rather than only one!
the Zionists occupied Palestine 74 years ago, and they have been trying to defeat the Palestinians since. But those pesky Palestinians proofed to be a lot more tougher than what the Zionist colonisers have imagined. And it is clear that the Palestinians are determined to liberate their homeland from its occupiers. So, I would suggest to the Zionists to stop their aggression against Palestinians, give back what they have stolen from them, and go back to their homes. Then, and only then, everyone can live in peace.

عدوانٌ صهيونيٌ على غزة والهدف الضفة الغربية

  السبت 6 آب 2022

عمرو علان 

فلسطين

لعل ادّعاء الاحتلال أنه يخوض هذه الجولة التصعيدية ضد حركة “الجهاد الإسلامي” فقط، بعيداً من حركة “حماس”، لعل ذلك يصبّ ضمن تكتيك فصل الجبهات، بل محاولة الفصل بين حركات المقاومة نفسها.

عدوانٌ صهيونيٌ على غزة والهدف الضفة الغربية 

بدأ العدو الصهيوني بعدوانٍ جديدٍ على قطاع غزة في الخامس من الشهر الجاري، وأتى هذا العدوان في ظاهره على أنه خارج السياق، إذ شهدت جبهة غزة هدوءاً طوال الأشهر الماضية، ولم تشهد غزة في هذه المدة أي تطورٍ داخليٍ يستدعي قيام العدو بعدوانٍ آخر، هذا إضافةً إلى أن فكرة القضاء على فصائل المقاومة في غزة لم تَعُدْ أمرًا واقعيًا، ضمن التوازنات الحاكمة للمشهد في هذه الحقبة على أقل تقديرٍ، فيصير السؤال المطروح: لماذا إذن يفتح الكيان الموقّت جبهة على قطاع غزة في هذا التوقيت؟ 

لم يَعُدْ الاحتلال قادرًا على الفصل بصورةٍ كليةٍ بين ساحات فلسطين المحتلة، وذلك عقب معركة “سيف القدس” في رمضان 2021، التي وحَّدت بين جبهة غزة وساحات القدس والضفة الغربية وأراضي فلسطينيي الداخل. 

ومذ ذاك الحين، شهدت الضفة الغربية تطورًا ملحوظاً في العمل المقاوم ضد الاحتلال، كانت تجلِّياته في ظهور “كتيبة جنين” و”كتيبة نابلس” في الضفة الغربية، اللتين مثَّلتا تحديًا للاحتلال من حيث قدرته على التعامل معهما، وذلك بصورةٍ تنهي هاتين الظاهرتين كلياً، على غرار ما فَعَله سابقًا مع الظاهرة المسلحة التي نشأت في مخيَّم جنين عام 2002.

ويُدْرِك العدو مدى خطر تجذُّر تجربتي “كتيبة جنين” و”كتيبة نابلس” المسلَّحتين، ما يفتح الباب واسعًا على تمدُّد هذه التجربة المسلحة إلى مناطق أخرى في الضفة الغربية، وما يضع الاحتلال أمام تحدٍ حول كيفية الخلاص من هذه التجارب المسلحة الصاعدة قبل تجذُّرها. 

ويُعَد تعاظم قوة فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، من أهم الأسباب التي تُعقِّد مهمة الاحتلال في القضاء على كتيبتي جنين ونابلس، إذ إن قيامه بعملية اجتياح واسعة لمخيّم جنين أو مدينة نابلس، كما فَعَل عام 2002، يمكن أن يؤدي إلى تفجُّر الأوضاع شعبيًا في عموم الضفة الغربية، التي تعيش حالة ثورية متصاعدة، باتت ملحوظة من تعداد العمليات الفدائية المتكررة في الأعوام القليلة الماضية. 

ويتيح انفجار الأوضاع في الضفة الغربية فرصة مواتية لغزة للدخول على خط المواجهات، إذ كانت الفصائل المسلحة في غزة قد ألمحت سابقًا إلى هذا الاحتمال. 

وفي حال تحقُّق هذا السيناريو، فسيجد الاحتلال نفسه في مواجهة جبهتين مشتعلتين في وقت واحد، فكيف ستكون حاله حينذاك، وهو الذي لم يَعُدْ يطيق التعامل مع جبهة واحدة؟

ولهذا، يبدو أن العدو الصهيوني لجأ إلى تكتيك يأمل أن يمكّنه من تفكيك الجبهات والاستفراد بها، كلٌ على حدة، فالاشتباك بالسلاح مباشرةً مع فصائل غزة يقلّل من احتمالية تحرّك الوضع الشعبي في الضفة الغربية، وذلك قياساً على الحروب السابقة التي خاضها على قطاع غزة، والتي كان فيها تحرّك الضفة الغربية خجولًا. 

ولعل ادّعاء الاحتلال أنه يخوض هذه الجولة التصعيدية ضد حركة “الجهاد الإسلامي” فقط، بعيداً من حركة “حماس”، لعل ذلك يصبّ ضمن تكتيك فصل الجبهات، بل محاولة الفصل بين حركات المقاومة نفسها.

ويمكن أيضاً الربط بين العدوان المستجد على غزة والضفة الغربية، في كون هذا العدوان جاء مباشرةً عقب تنفيذ الاحتلال بضع عمليات محدودة في الضفة الغربية، استهدفت الأخيرة منها، قبل أيام، قياديًا بارزًا في حركة “الجهاد الإسلامي” في الضفة الغربية.

لذلك، يبدو أن العدو الصهيوني في عدوانه على غزة هذه المرة، يستهدف بالدرجة الأولى الحال المقاوِمة في الضفة الغربية، بمحاولته كسر شوكة فصائل غزة، وردعها في حال قيامه مستقبلًا باجتياحاتٍ واسعة لمناطق الضفة الغربية، ومن ناحيةٍ أخرى بمحاولته قطع الطريق على أي تحرك شعبي واسع في ساحة الضفة الغربية، في الوقت الذي يكون فيه مشتبكًا مع جبهة غزة.

وفي هذه الحال، يصير إشعال ساحات الضفة الغربية بانتفاضةٍ شعبية واسعة، التكتيك الأفضل الذي يمكن أن يتبنّاه الشعب الفلسطيني لمواجهة هذا العدوان المستجد، فالضفة الغربية هي الهدف الحقيقي منه في نهاية المطاف، فضلاً عن أن اشتعال ساحات الضفة سيربك مخططات العدو ويبعثِر أوراقه، ويخفف عن غزة عبء التصدي لهذه الهجمة الجديدة. 

ويتيح هذا التكتيك، على أقل تقدير، تحقيق إنجازاتٍ أكبر بتكلفةٍ أقل لكلٍ من المقاومة الفلسطينية في ساحتي غزة والضفة الغربية معًا، هذا إن لم تُطوِّر المقاومة الفلسطينية فعلها الدفاعي في هذه المعركة إلى إستراتيجية هجومية طويلة النَّفَس، تُحقِّق إنجازاتٍ ملموسة على طريق التحرير الكامل.

مقالات متعلقة

محور المقاومة وأوكرانيا والحرب العالمية الهجينة

الثلاثاء 5 نيسان 2022

 عمرو علان 

لقد بات جليّاً، كون المعركة في أوكرانيا جزءاً من حربٍ أميركيةٍ روسيةٍ أشمل، أن رحى المعركة العسكرية تدور في أوروبا بينما تمتد الحرب الأشمل لتشمل ساحاتٍ وصوراً أخرى، كالعقوبات التجارية الغربية التي تعاظمت وتوسَّعت بعد بدء إطلاق النار. ولقد انقسمت الأطراف الدولية في هذا الاشتباك العالميّ إلى ثلاث مجموعات: حلفاءٍ مباشرين، إمّا لروسيا أو لأميركا، وحلفاءٍ آخرين غير مباشرين لأحد المعسكَرَين، وأطرافٍ أخرى ما زالت تحاول المحافظة على موقع وسطٍ بين الحلفين المتقابلين.

منذ نهاية الثنائية القطبية، سعت أميركا حثيثاً إلى فرض هيمنتها على كل دول المعمورة، ونهب ثروات شعوبها، ومحو حضاراتها وثقافاتها. ولقد وظَّفت في مسعاها هذا عدة أدواتٍ: الحرب المباشرة بشقيها العسكري والاقتصادي، والحرب الناعمة بكل وسائلها من ثوراتٍ ملوَّنةٍ وهيئات «مجتمعٍ دوليٍ» ومنظمات «مجتمعٍ مدنيٍ» وإعلامٍ،… إلخ. وكانت العولمة والأيديولوجية الليبرالية الفكر المحرّك لهذه الأدوات، ولقد أقر ستيفن وولت في «فورن بوليسي» بكون الفكر الليبرالي، الذي تبناه الغرب و«الناتو» في العلاقات الدولية، قد ساهم بشكلٍ رئيسيٍّ في وصول الأمور في أوكرانيا إلى ما وصلت إليه. وفي سبيل المسعى الأميركي لتثبيت هيمنتها على العالم، قامت منذ مطلع القرن بعدة حروب ومؤامرات في منطقتي المشرق العربي ووسط آسيا، لكن باءت كلها بفشل استراتيجي على ما يقر به جل المنظِّرين والساسة الأميركيين.

وفي غضون هذا، ترسخت قناعةٌ لدى روسيا والصين بكون أميركا تسعى لتحجيمهما، إن لم يكن تفكيكهما، كي تستمر هيمنتها على العالم، وتنهي التاريخ على النحو الذي تراه! ولكن، في غمرة انشغال أميركا بمخططاتها في منطقتي قلب آسيا وغربها، استغلت الصين الفرصة وبنَتْ قوتها الاقتصادية والتكنولوجية، وقامت روسيا باستعادة التوازن لاقتصادها، وأعادت بناء جيشها وطورت أسلحته التكتيكية والإستراتيجية. وبالتوازي، كانت روسيا والصّين تُطوِّران علاقاتهما البينية ضمن «منظمة شانغهاي» وأطرٍ أخرى، بالإضافة إلى الاتفاقيات الثنائية بينهما التي تُوِّجَت بالقمَّة الصينية الروسية الأخيرة. ومع مطلع العشرية الثانية من هذا القرن، نضجت أغلب عناصر الاشتباك الكبير من أجل رسم عالم ما بعد الأحادية القطبية، حيث كانت الصّين وروسيا قد استعدتا للمواجهة، وكانتا قد وصلتا إلى مستوى متقدمٍ في تنسيق المواقف، بما فيه التوافق على التصدي لسياسة أميركا لتغيير أنظمة الدول.
كانت المعركة في سوريا أول تجلِّيات هذا الاشتباك الأوسع، بين المعسكر الروسي- الصيني الشرقي والمعسكر الأميركي الغربي، وهذا ما ظهر في استخدام روسيا والصين «الفيتو» لعدة مرات في مجلس الأمن، منهيتين بذلك مرحلة الهيمنة الأميركية على المجلس، التي سادت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. لذلك، شكَّلت الحرب على سوريا المعركة التمهيدية في الاشتباك العالمي الأشمل، ويصح وصف ما تشهده أوكرانيا اليوم بالمعركة الثانية ضمن هذا الاشتباك. ومن المبكر حالياً التنبؤ في ما إذا كانت معركة أوكرانيا آخر المعارك العسكرية فيه، لكن من الواضح أن الاشتباك العالمي مستمرٌ في صيغته الاقتصادية، وربما السيبرانية، حتى إلحاق أحد المعسكرين هزيمةً إستراتيجيةً بالخصم. من المستبعد توقُّف الحرب الاقتصادية التي بدأها الغرب على روسيا عقب حسم المعركة العسكرية في أوكرانيا. وهذا، بدوره، يستجلب حرباً اقتصاديةً مضادة من المعسكر الشرقي على ركيزتي حروب أميركا الاقتصادية: هيمنة الدولار والنظام المالي العالمي الراهن. وقد بدأ هذا بالفعل؛ فقرار روسيا تحصيل أثمان صادرات الطاقة إلى أوروبا بالروبل، والسعي لإصدار الروبل الرقمي، تعدَّان خطوتين متقدمتين في الحرب الاقتصادية المضادة.

توصيف الوضع بكونه اشتباكاً عالمياً مصيرياً للقوى الكبرى، يفيد بتبلور مساراتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ كانت قد ظهرت ملامحها منذ حين


وعليه، يمكن القول بأنّ العالم يشهد، منذ نحو عقدٍ من الزمن، حالةً تشبه الحرب العالمية؛ حرباً يمكن وصفها بالهجينة، لا هي حرب باردةٌ بالكامل، ولا ساخنةٌ بالكامل، وذلك نظراً لتفادي القوى الكبرى الدخول في صدامٍ عسكريٍ مباشرٍ بسبب الردع النوويّ المتبادل، مع الأخذ في الاعتبار أنه يصعب القطع بعدم تدهور الاشتباك العالميّ الراهن إلى الأسوأ، ولكن يبقى هذا الاحتمال الأقل ترجيحاً.
يصف ألكسندر دوغين ما يحصل في أوكرانيا بأنه حربُ استقلالٍ من هيمنة العولمة الليبرالية الغربية. الاشتباك العالميّ الراهن لا ينحصر فقط برغبة الدول الصاعدة بكسر الأحادية القطبية، بل، كما يقول، إن الحرب الراهنة في حقيقتها تدور ضد الأيديولوجية الليبرالية، التي تسعى لمحو حضارات شعوب الأرض وثقافاتها، والتي تدمّر الأسرة والمجتمع، وتنحدر بالإنسان إلى كائنٍ مسخٍ ورغائبيٍّ، متحررٍ من أية ضوابط اجتماعيةٍ أو أخلاقيةٍ.

ولا يبدو أن أميركا والغرب بعيدان من هذه القراءة لمصيرية الحرب الراهنة. فتشير طريقة تعاطي قادة الغرب مع المعركة الأوكرانية إلى أنهم يهدفون لإلحاق هزيمةٍ إستراتيجيةٍ بروسيا والمعسكر الشرقي، ولهذا فالأرجح تصاعد الضغوط الأميركية على حلفائها لحسم موقعهم في المعركة الأوكرانية، كحال الكيان المؤقت، الذي ما زال يتجنب الانحياز الكامل للجبهة الأميركية، وذلك لعدم رغبته في إغضاب روسيا، لا سيما أنه بات لروسيا حضورٌ فاعلٌ في المنطقة العربية. لكن، مع تعمُّق انقسام الأطراف بين معسكرين على وقع احتدام وطيس المعارك ومرور الزمن، يصير السؤال إلى أي مدىً سيستطيع الكيان المؤقت الاستمرار في لعبة موقفه الضبابيّ؟ ورغم العلاقات الأمنية والتجارية التي تربط الكيان المؤقت بروسيا، وعدم رغبته في استعدائها، يبقى تموضع الكيان المؤقت في المعسكر الغربي أكثر ترجيحاً، لكونه:
– في أصل وجوده صنيعةٌ غربيةٌ.
– مرتبطٌ وجودياً بالهيمنة الغربية.
– غير قادرٍ على مقاومة الضغوط الأميركية حال اشتدادها.
وهنا يُفتح بابٌ لقوى المقاومة في الإقليم، عبر استغلال تناقض المصالح الناشئ بين روسيا والكيان المؤقت. ففي المحصلة، تخوُّف الكيان المؤقت في محلّه من ردّ فعل روسيا حال تموضعه كلياً في المعسكر الغربي.
وفي الخلاصة، توصيف الوضع بكونه اشتباكاً عالمياً مصيرياً للقوى الكبرى، يفيد بتبلور مساراتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ كانت قد ظهرت ملامحها منذ حينٍ، وظهور مساراتٍ جديدةٍ يمكن لقوى المقاومة البناء عليها، لا سيما كون هذه القوى باتت لاعباً حاسماً في رسم مستقبل الإقليم، ففي نهاية المطاف، كان محور المقاومة مَن أفشل أهداف حروب أميركا الاستراتيجية في منطقتي المشرق العربي ووسط آسيا.

دولة الاحتلال وحركات المقاومة في ظل الهزّة الأوكرانية.. تقدير موقف

الخميس، 24 مارس 2022

تدور الحرب في أوكرانيا كما بات واضحًا بين معسكرين، أحدهما روسيٌ مدعوم صينيًا بشكلٍ أساسيٍ، وبدعمٍ غير مباشرٍ من دولٍ أخرى تسعى لكسر الهيمنة الأمريكية والأحادية القطبية. وفي المقابل، معسكرٌ غربيٌ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، مع بعض الدول التي تخضع كليًا للنفوذ الأمريكي كاليابان مثلًا، لكن في وضع حلفاء أمريكا تفصيلٌ على ما سيأتي لاحقًا.

ويمكن قراءة أهداف كل معسكرٍ على النحو الآتي:

ـ تسعى روسيا بدايةً إلى هدفٍ مباشرٍ يتمثل في تحييد الخطر الأوكراني،الذي باتت تُشكِّله أوكرانيا عليها بعد أحداث “الثورة الملونة” في 2014، التي تم هندستها أمريكيًا، والتي أفضت إلى تنصيب نظامٍ عميلٍ للغرب، حيث باشر هذا النظام بدعمٍ وتوجيهٍ أمريكيين مساعي الانضمام لحلف شمال الأطلسي بصورة فعلية، في خطوةٍ تصب في مصلحة الأمريكي، لكنها تتعارض والمصالح القومية الأوكرانية بصفتها دولة جارة لروسيا، وتربطها بها علاقات تاريخية مميزة.

وأما الهدف الروسي الصيني الأبعد، فيتمثل في إلحاق هزيمةٍ إستراتيجيةٍ بالولايات المتحدة الأمريكية عبر إحباط خطتها في أوكرانيا، مما يثبِّت: أولًا، تراجع القدرة الأمريكية على الساحة الدولية. وثانيًا، فتح الباب أمام دينامية بعيدة المدى يمكن أن تفضي إلى إعادة تموضع دول الاتحاد السوفييتي السابقة خارج نفوذ حلف شمال الأطلسي، ويكون هذا حال حصل إعادة لعقارب الساعة إلى 1997.

ـ أما الأهداف الأمريكية المباشرة في هذه الحرب، فتتمثل في محاولة إنهاك روسيا عسكريًا قدر المستطاع في أوكرانيا كهدفٍ تكتيكيٍ، مما سيضعف من مكانة روسيا العسكرية إذا ما نجحت في ذلك أمريكا وحلف شمال الأطلسي. وأما إستراتيجيًا، فتسعى أمريكا إلى تدمير الاقتصاد الروسي وانهياره بشكلٍ كاملٍ، وذلك من خلال الحرب الاقتصادية الشرسة التي تشنها بالشراكة مع حلفائها ضد روسيا، في محاولةٍ لإنهاء الدور الروسي تمامًا، مما يمكن أن يفضي إلى تفكك روسيا الاتحادية لاحقًا، وتعي روسيا أن الحرب الاقتصادية التي بدأها الغرب عليها مستمرةٌ حتى بعد انتهاء المعركة العسكرية في أوكرانيا، ولا أدل على ذلك من تصريح رئيس وزراء بريطانيا حينما قال: إن إعادة تطبيع العلاقات مع بوتين كما حصل بعد 2014 سيكون خطأ، وكذلك تلك الدعوات التي خرجت من بعض الأوساط الغربية والتي تدعو إلى محاكمة الرئيس فلاديمير بوتين كمجرم حرب!

وأما على المدى المتوسط أو البعيد حسب تطورات الحرب ضد روسيا، فتهدف أمريكا من وراء تحييد روسيا عن ساحة التنافس الدولي إلى التفرغ لمواجهة الصين لاحقًا، بعد أن تكون قد أفقدت الصين حليفًا إستراتيجيًا، يعد وجوده عاملًا حاسمًا في المواجهة الأمريكية الصينية، وبعد أن بات الأمريكي يعتقد بصعوبة تكرار تجربة هنري كيسنجر مع الصين في حقبة الحرب الباردة.

إذن، فنحن أمام حربٍ دوليةٍ حاسمةٍ، يسعى كل طرفٍ فيها إلى تحقيق نصرٍ إستراتيجيٍ، لذلك الراجح أن تطول هذه الحرب وتزداد تعقيدًا مع مرور الزمن، وبات هذا المسار يتجلى في تصاعد حدة الخطاب الصيني في مواجهة الضغوط الأمريكية عليها، وفي المقابل في التصاعد التدريجي للضغوط الأمريكية على الصين، وذلك في محاولةٍ لإجبارها على الابتعاد عن روسيا في هذا الاشتباك، وتأتي العقوبات التي فرضتها أمريكا مؤخرًا على مسؤولين صينيين من خارج سياق الأحداث في هذا الاطار.

وتبرز هنا القضية التي يود تقدير الموقف هذا التركيز عليها، فلقد كان لافتًا موقف بعض حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين اتجاه الحرب الدائرة، حيث مازالت دولٌ كالإمارات والسعودية وتركيا ومعهم دولة الاحتلال تتململ في اتخاذ موقفٍ واضحٍ، يساند بشكلٍ كاملٍ وعمليٍ الولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا، وتتباين التقديرات حول خلفيات هذا التململ، فمنها ما يضع موقفيّ الإمارات والسعودية ضمن مناوراتٍ سياسيةٍ بهدف تحصيل مكاسب من الولايات المتحدة الأمريكية في ملفاتٍ إقليميةٍ، كملف العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران وملف الحرب على اليمن، وأخرى تضع موقف تركيا ودولة الاحتلال في سياق حساباتٍ لدى هذين الأخيرين، تتعلق بعدم رغبتهما في إغضاب روسيا، لا سيما بعد أن بات لروسيا حضورٌ حاسمٌ في منطقتنا.

لكن أيً كان الحال، فالراجح أمران: 

ـ أن هذا التململ ما كان ليكون لولا تراجع سطوة الولايات المتحدة الأمريكية على حلفائها وفي العالم عمومًا، بغض النظر عن دوافع كل طرف لموقفه الضبابي اتجاه المعركة الراهنة.

ـ أنه نتيجةً لطبيعة المعركة الإستراتيجية كما تبين آنفًا، وارتفاع احتمالية أن تطول وتزداد تعقيدًا مع مرور الزمن، فمن الطبيعي أن يزداد الضغط الأمريكي على حلفائه لاتخاذ موقفٍ واضحٍ ضمن أحد المعسكرين المتقابلين، وهذا ما بدأت تظهر مؤشراته بالفعل.

وعليه، ستجد دولة الاحتلال نفسها مضطرًة للاختيار عاجلًا أم آجلًا، وعلى الأغلب لن تتمكن من المراوغة في مواقفه كثيرًا مع احتدام المعارك، وستكون من عجائب الدنيا إن اختارت التموضع في المعسكر الشرقي ضد المعسكر الغربي، فدولة الاحتلال ليست حليفًا للغرب وحسب، بل هي صنيعته بالكامل، ومرتبطٌة به عضويًا ووجوديًا، وتظل هذه الحقائق أمرًا حاسمًا في خياراتها، مهما تعددت علاقات دولة الاحتلال بدولٍ أخرى حول العالم كبيرةً كانت أم صغيرةً، ويشار هنا إلى الأنباء التي تم تداولها عن بدء الترتيبات لزيارةٍ محتملةٍ لرئيس وزراء دولة الاحتلال قريبًا للعاصمة الأوكرانية كييف.

توصيف “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في أوكرانيا على أنها احتلال، ليس بالأمر الأبيض والأسود حسب القانون الدولي كما يحاول الغرب الترويج، فنجد مثلًا أن دولتين كبيرتين وأساسيتين كالصين والهند قد رفضتا إدانة “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في أوكرانيا،


وكون هذه المعركة المحتدمة حاليًا تعد معركةً مصيريةً لروسيا وحتى للصين، فلابد أن يكون لتموضع دولة الاحتلال في المعسكر الغربي ـ كما هو متوقعٌ ـ أثرٌ بالغٌ على علاقاتها بروسيا وبالصين كذلك.

ويفتح هذا لحركات المقاومة لا سيما الفلسطينية منها، بابًا واسعًا للعب على تناقض المصالح بين روسيا والصين وبين الكيان المؤقت إذا ما أحسنت اقتناص الفرصة، ففي نهاية المطاف، الكثير من السلاح النوعي والكاسر للتوازن الذي حصلت عليه حركات المقاومة كان روسيًا وصينيًا.

ويبقى أخيرًا الإشارة إلى كون توصيف “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في أوكرانيا على أنها احتلال، ليس بالأمر الأبيض والأسود حسب القانون الدولي كما يحاول الغرب الترويج، فنجد مثلًا أن دولتين كبيرتين وأساسيتين كالصين والهند قد رفضتا إدانة “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في أوكرانيا، هذا ناهيك عن أنه لا خلاف على كون العقوبات الاقتصادية أحادية الجانب، التي فرضها الغرب على روسيا، تعد خرقًا سافرًا لقواعد التجارة الدولية، وقوانين حرية التجارة حسب منظمة التجارة العالمية “WTO”.

وأما بخصوص الموقف الذي تم وصفه من البعض بموقفٍ “أخلاقي”، والذي قالت به بعض الهيئات العربية التي باتت لبرالية الهوى في جل مواقفها، ومنسجمةً مع الدعاية الغربية في تَقييم غالبية الأحداث الدولية والإقليمية، بغض النظر عن توجه تلك الهيئات سواءً أكانت إسلاميةً أم علمانيةً أم يساريةً، فبإمكانهم مراجعة كلمة الرئيس الأوكراني أمام “كنيست” الكيان المؤقت، حينما ادعى أن ما تتعرض له أوكرانيا من “خطر وعدوان” روسي، يماثل ما يتعرض له الكيان المؤقت من حركات المقاومة، ويحق لنا توقع أن يعتمد الغرب هذه الرواية كونها تدغدغ مشاعره العنصرية وتنسجم مع مصالحه الاستعمارية.


*كاتب وباحث سياسي

هل يمكن التنبؤ بطول الحرب الأوكرانية ومداها؟

الثلاثاء، 08 مارس 2022

عمرو علان

باتت محاولة قراءة مسار الأحداث وأهداف الأحلاف المتقابلة في أوكرانيا أكثر واقعيةً، وذلك بعد مرور عدة أيامٍ على بدء العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا، وعلى ضوء الأفعال وردود الفعل المضادة، وتصريحات الفرقاء وباقي الأطراف الدولية، فصار جلياً أن الحرب رغم كونها محصورةً في الجغرافيا الأوكرانية، إلا أنها في حقيقة الأمر تدور بين حلفين متقابلين؛ حلف روسي وآخر أمريكيّ، في مشهدٍ اكتملت فيه معظم عناصر الحرب العالمية، وما عاد ينقصه سوى امتداد شرارة الحرب المشتعلة حالياً إلى خارج الجغرافيا الأوكرانية لا قدر الله، لتتحول إلى حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ ساخنةٍ مكتملة الأركان.

فبناءً على تصريحات الكرملين المتعاقبة، وبناءً على ما جاء في تصريحات وزارة الخارجية الروسية خلال هذه الأيام، نفهم أن روسيا قد اتخذت القرار للتدخل العسكري المباشر في أوكرانيا، عقب معطياتٍ توفرت لديها عن نشاطٍ أمريكيٍّ عسكريٍّ متزايدٍ في الساحة الأوكرانية، نشاطاتٍ تتعلق بتفعيل المنشآت النووية الأوكرانية، التي ما زالت أوكرانيا تملكها منذ حقبة الاتحاد السوفييتي، ونشاطاتٍ أخرى تتعلق بإنشاء معامل سلاحٍ بيولوجيٍّ وكيماويٍّ، ذلك بالإضافة إلى قناعةٍ تشكلت لدى روسيا، مفادها أن الغرب لم يتخلّ يوماً عن “سياسة احتواء روسيا”، التي اتبعها ضد الاتحاد السوفييتي، وذلك عبر استمرار زحف حلف شمال الأطلسي شرقاً، على عكس ما كان قد وعد به الغرب الاتحاد السوفييتي قبل نحو ثلاثة عقود. لذلك جاء في طليعة أهداف العملية العسكرية الروسية، انتزاع التزامٍ من أوكرانيا بعدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ونزع السلاح الأوكراني، الذي هو في الحقيقة سلاحٌ أطلسيٌّ، ويُشكِّل خطراً على الأمن القومي الروسي.

قناعةٍ تشكلت لدى روسيا، مفادها أن الغرب لم يتخلّ يوماً عن “سياسة احتواء روسيا”، التي اتبعها ضد الاتحاد السوفييتي، وذلك عبر استمرار زحف حلف شمال الأطلسي شرقاً، على عكس ما كان قد وعد به الغرب الاتحاد السوفييتي قبل نحو ثلاثة عقود


لكن كان من بين ما قالته وزارة الخارجية الروسية أيضاً، أنه قد آن الأوان لإزالة الأسلحة النووية الأمريكية، التي ما انفكت هذه الأخيرة عن نشرها في القارة الأوروبية، وعلى مقربةٍ من الحدود الروسية. وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إلى أن الأهداف الروسية تتخطى الهدف المباشر لعمليتها العسكرية، الذي يتمثل في إزالة تهديد نشوء “روسيا مضادةٍ” على الحدود الروسية في أوكرانيا، ليظهر أن الأهداف الروسية بعيدة الأمد تشمل محاولة معالجة الواقع الأمني الذي استحدثه حلف شمال الأطلسي في أوروبا خلال العقود الثلاث الماضية، والذي يمثل تهديداً جدياً لأمن روسيا الاتحادية القومي واستقرارها.

ولا يمكن قراءة الخطوة العسكرية الروسية في أوكرانيا بمعزلٍ عن نتائج القمة الصينية الروسية الأخيرة وبيانها الختامي، الذي جاء فيه تصورٌ صينيٌّ روسيٌّ مشتركٌ لشكل النظام العالميّ الجديد، والذي رافقه توقيع صفقاتٍ صينيةٍ روسيةٍ استراتيجيةٍ في مجالات الطاقة والفضاء وغيرهما، مما انعكس على روسيا مزيداً من القوة في مواجهة الغرب، وزاد من اختلال موازين القوى لصالح روسيا وتبعاً الصين، كونهما قد دخلتا في ما يشبه الشراكة في مواجهة الهيمنة الأمريكية الغربية على العالم، وبالتالي يجعل هذا المعطى من الصين شريكاً غير مباشرٍ في الاشتباك الحاصل بين روسيا وأمريكا في أوكرانيا، ويجعل منها ظهيراً رئيساً لروسيا في معركتها ضد حلف شمال الأطلسي.

أما على المقلب الآخر، فكان لافتاً حجم وسرعة الإجراءات غير المسبوقة، التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية مع حليفها الاتحاد الأوروبي وحلفاء آخرين ضد روسيا. ففي غضون أيامٍ معدوداتٍ فقط، بلغت العقوبات الاقتصادية من طرفٍ واحدٍ، التي فرضها الغرب وحلفاؤه ضد روسيا، مدى يحاكي العقوبات الأمريكية على إيران، وبين ليلةٍ وضحاها قاموا برصد مبالغ طائلةٍ من أجل إمداد أوكرانيا بالسلاح.

يمكن الاستخلاص من مجموع هذه التصريحات، التي صدرت عن كلا الطرفين، أنهما يريان في الحرب الأوكرانية معركةً أولى ضمن اشتباكٍ أوسع مدى، وأطول زمناً، حول مستقبل ونفوذ حلف شمال الأطلسي في أوروبا، وبالتالي حول النفوذ الأمريكي وهيمنته العالمية، وتباعاً حول شكل وطبيعة النظام العالمي ما بعد الأحادية القطبية


وكان من جملة ما قاله الرئيس الأمريكي بخصوص الحرب الأوكرانية أنهم كانوا قد حضّروا لهذه العقوبات الاقتصادية على روسيا منذ أشهرٍ، وبأن بوتين ربما يكون قادراً على تحقيق إنجازٍ عسكريٍ في أوكرانيا، لكن العقوبات الاقتصادية التي فرضوها على روسيا ستؤدي إلى شلّ الاقتصاد الروسي على المدى المتوسط. وفي هذا الكلام إشارةٌ إلى أن الأمريكي كان يعد العدة لشن حربٍ اقتصاديةٍ ممتدةٍ على روسيا، على غرار الحرب التي يخوضها ضد إيران وكوريا الشمالية، وفيه أيضاً إشارةٌ إلى كون أمريكا تتعامل مع سقوط أوكرانيا على أنه احتمالٌ مرجحٌ، فما معنى قول بايدن بأن بوتين ربما يكون قادراً على تحقيق إنجازٍ عسكريٍ في أوكرانيا؟

ويمكن الاستخلاص من مجموع هذه التصريحات، التي صدرت عن كلا الطرفين، أنهما يريان في الحرب الأوكرانية معركةً أولى ضمن اشتباكٍ أوسع مدى، وأطول زمناً، حول مستقبل ونفوذ حلف شمال الأطلسي في أوروبا، وبالتالي حول النفوذ الأمريكي وهيمنته العالمية، وتباعاً حول شكل وطبيعة النظام العالمي ما بعد الأحادية القطبية.

يبدو أن الغرب يدرك في العمق معنى الاشتباك الذي بدأ من أوكرانيا، ومدى عمق التحولات التي يمكن أن يشهدها العالم بناءً على نتائج هذه المواجهة التي ستكون طويلة نسبياً. فلعلّ هذا ما يفسر تكتل كل المنظومة الغربية في الحرب الدائرة اليوم


لكنه من الممكن أيضاً النظر إلى الاشتباك الذي بدأ من أوكرانيا، على أنه اشتباكٌ بين الشرق الصاعد، وبين المنظومة الغربية التي بدأت بالأفول في كُلِّيَتها. فعلى عكس الحرب الباردة إبان حقبة الاتحاد السوفييتي، نجد اليوم الصين وروسيا تتوضعان في جبهةٍ واحدةٍ، بالإضافة إلى وجود لاعبٍ إقليميٍ رئيس في المعادلة، يتمثل في إيران وحركات المقاومة العربية والإسلامية، هذا المحور الذي أنهك بحقٍ الولايات المتحدة الأمريكية في منطقتيّ المشرق العربي ووسط آسيا، وأفشل مشاريعها على طوال العقود الثلاثة الماضية منذ احتلال العراق.

ويبدو أن الغرب يدرك في العمق معنى الاشتباك الذي بدأ من أوكرانيا، ومدى عمق التحولات التي يمكن أن يشهدها العالم بناءً على نتائج هذه المواجهة التي ستكون طويلة نسبياً. فلعلّ هذا ما يفسر تكتل كل المنظومة الغربية في الحرب الدائرة اليوم، حتى أننا وجدنا دولاً كفنلندا والسويد وحتى سويسرا، تنضم للمعركة الدائرة، على عكس ما كانت عليه في حقبة الحرب الباردة، هذا ناهيك عن ردة الفعل الغربية الهستيرية في مواجهة روسيا، التي لم توفر حتى القطط والشجر وكُتُب الأدب الروسي!

فهل دار الزمان دورته؟ وهل بدأ بالفعل انتقال مركز القوة من الغرب إلى الشرق كما كان عليه الحال حتى القرن السادس عشر؟

كثيرةٌ هي المعطيات التي تشير إلى هذا بالفعل.

مراهنةٌ صهيونيةٌ خاسرةٌ على المركزي الفلسطيني


الاربعاء 23 شباط 2022

المصدر: الميادين نت

عمرو علان 

جاء اجتماع المركزي ليُرتِّب مرحلة ما بعد محمود عباس، وليُسهِّل وصول رموز التعاون مع الاحتلال – على شاكلة ماجد فرج وحسين الشيخ – إلى قمَّة الهرم في سلطة أوسلو بعد غيابه.

في البدء، كان القرار الفلسطيني المستقل. حُكي آنذاك: يحصل هذا الأمر حتى لا يقدّم النظام الرسمي العربي تنازلاتٍ للكيان الصهيوني من دون اعتبارٍ لأصحاب الحق الأصيل، فصار بعد ذلك شعار النظام الرسمي العربي: نقبل بما يقبل به الفلسطينيون. 

يَخشَى الكيان الصهيوني على استقرار سلطة أوسلو بعد غياب عباس

ومن دون الدخول في نقاشٍ حول وجاهة نظر من قال بفكرة القرار الفلسطيني المستقل، قامت بعد ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، “الممثل الشرعي والوحيد” للشعب الفلسطيني، بالتوقيع على أوسلو، معترفةً بالكيان الغاصب، ومتنازلةً عن 87% من الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة، وتاركةً في مهب الريح مصير ذاك الجزء من الشعب الفلسطيني الذي هُجِّر من دياره في العام 1948، وهي تنازلاتٌ ما كان ليجرؤ النظام الرسمي العربي على تقديمها، لتتوالى بعد ذلك حفلات الاعتراف العربية الرسمية بالكيان الغاصب، ولسان حالهم يقول: لن نكون ملكيين أكثر من الملك.

وفي خضمّ هذا كلّه، كانت مساعي الهيمنة على قرار منظمة التحرير الفلسطينية مستمرةً من قبل حركة “فتح”، وكانت تُحقِّق تقدماً، لتُختزَل منظمة التحرير الفلسطينية في فصيلٍ فلسطينيٍ واحدٍ بدلاً من أن تكون ممثلاً للكلِّ الفلسطيني.

وفي إثر دخول منظمة التحرير الفلسطينية مرحلة أوسلو – المقيتة الذكر – أُنشئت سلطة الحكم الذاتي المسماة السلطة الفلسطينية، ليدخل الوضع الفلسطيني مرحلة أخرى من الانحدار، حتى وصلنا إلى أن يتآمر على أبو عمار، زعيم حركة “فتح” ومؤسّسها، بعضٌ من بطانته، كي يغتاله الإسرائيلي بالسمّ، في جريمة اغتيالٍ تجاهلتها السلطة، مبرّئةً بذلك الإسرائيلي منها.

بعدها، تولى محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، ليبدأ باختزال كلٍّ من منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح” ذاتها بسلطة أوسلو. وقد نجح في ذلك نجاحاً تحسده عليه كل الأنظمة العربية! فقد أجهز على ما كان قد بقي من منظمة التحرير الفلسطينية، وحوَّله فعلياً إلى مجرد اسمٍ ليس له كيانٌ حقيقيٌ في أرض الواقع، يستحضره كختمٍ متى احتاج إليه.

ليس هذا فحسب، فقد نجح عباس في الانحدار بسلطة أوسلو إلى دركٍ تفوَّق فيه على فصائل السلام وروابط القرى مجتمعين، فما معنى أن يصير التخابر مع العدو من أجل حراسة المستوطنات في الضفة، وتأمين المغتصَبات في فلسطين 48، والسهر على أمن قُطعان المستوطنين فيهما وراحتهم، واجباً “مقدَّساً” عند محمود عباس وسلطة أوسلو؟

واليوم، جاء اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الأخير الذي عُقِد في 6 شباط/فبراير 2022، ليشكّل سقطةً جديدةً في مسار هذا التدهور المستمر، فطامة الشعب الفلسطيني لا تنحصر في إصرار عباس على عقد اجتماع المركزي فحسب، رغم مقاطعة الأغلبية الفلسطينية له، إذ قاطعه كلٌ من حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، إضافةً إلى عدم رضا أجنحةٍ من حركة “فتح” ذاتها، بل كانت الطامة الكبرى في المغزى من عقد هذا الاجتماع، وفي مخرجاته التي كانت معروفةً مسبقاً.

يَخشَى الكيان الصهيوني على استقرار سلطة أوسلو بعد غياب عباس، بسبب التجاذبات الحادة في أوساط حركة “فتح”، ولا سيّما بعد فقدان السلطة وفريق التنسيق الأمني فيها الكثير من شعبيتهما عقب معركة “سيف القدس”، وبسبب تغول السلطة في التعاون مع الاحتلال ضد المقاومين الفلسطينيين ومصالح الشعب الفلسطيني، ففي استمرار التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني مصلحةٌ عليا للاحتلال وحفظٌ لأمن المستوطنات والمستوطنين.

وقد جاء اجتماع المركزي ليُرتِّب مرحلة ما بعد محمود عباس، وليُسهِّل وصول رموز التعاون مع الاحتلال – على شاكلة ماجد فرج وحسين الشيخ – إلى قمَّة الهرم في سلطة أوسلو بعد غيابه. حصل كل هذا برضا الاحتلال ومباركته، إذ عُيَّن حسين الشيخ، الأكثر التزاماً بنهج التنسيق الأمني، في منصب أمين سر اللجنة التنفيذية، ما يمهد الطريق أمامه لرئاسة سلطة أوسلو مستقبلاً. وهكذا، وصلنا إلى اختزال سلطة أوسلو أيضاً بفريق التنسيق الأمني، وتم ترتيب القيادة لمرحلة ما بعد محمود عباس برضا الاحتلال ومباركته!

لكن ما غاب عن حسابات الصهاينة في رهانهم على مجموعة التنسيق الأمني هو وجود شعبٍ فلسطينيٍ حيّ ضاق ذرعاً بسلطةٍ باتت نسخةً مكررةً من جيش “لحد” بصورةٍ مفضوحةٍ. ولا أدلّ على وصول الشارع الفلسطيني إلى هذه الحالة إلا عمليات إطلاق النار التي قام بها مؤخراً مقاومون من كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة “فتح” ذاتها، ناهيك بفصائل المقاومة الفلسطينية المتمسكة بخيار المقاومة في الأساس.

وكان البيان المشترك الَّذي صدر عقب اجتماع المجلس المركزي عن حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، والذي رفض الاعتراف بشرعية انعقاد المجلس المركزي وقراراته، ودعا إلى تشكيل قيادة موحدة للمقاومة الشعبية، مؤشراً على شكل المرحلة القادمة.

وغاب كذلك عن حسابات الصهاينة تبدُل أحوال الإقليم، واختلال موازين القوى فيه لمصلحة حركات المقاومة العربية والإسلامية في عدة ساحاتٍ، وتراجع السطوة الأميركية في الإقليم والعالم عموماً، ما يشكِّل رافعةً لحركات المقاومة في الداخل الفلسطيني، ويجعل الرهان الإسرائيلي على استمرار سلطة أوسلو بما وصلت إليه رهاناً خاسراً.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

القمة الصينية الروسية.. ولادة عالَمٍ جديدٍ

الثلاثاء 14شباط 2021

عمرو علان

القمّة الصينية الروسية الأخيرة جاءت استثنائيةً في توقيتها ومضامينها وبيانها الختامي، وهي تشير بما نتج عنها إلى تبلور معسكرٍ في مقابل معسكرٍ غربيٍ استعماريٍ تقليديٍ.

البيان الختامي للقمة تناول في 5000 كلمةٍ العديد من القضايا

عقب قمة الرئيسين الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين الثنائية، التي عُقِدت في 4 شباط/فبراير 2022، على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي تستضيفها الصين هذا الشهر، صدر بيانٌ ختاميٌ مشتركٌ، كما جرت العادة في القمم، لكنْ تميَّز هذا البيان الختامي في كونه جاء مفصلاً وشاملاً، إذ إنه أسَّس لمرحلة تعاونٍ صينيٍ روسيٍ مستقبليةٍ تمتدّ لسنواتٍ أو ربما لعقودٍ، فقد تناول في 5000 كلمةٍ عدة قضايا، كان من بينها:

صفقات استراتيجية في عدة حقول رئيسية، كالطاقة وتكنولوجيا الفضاء.

تنسيق مواقف البلدين تجاه قضايا الأمن الإقليمي الراهنة والمستقبلية في أوروبا ومنطقة الإندو باسيفيك.

أفكار وإشارات حول مرتكزات النظام العالمي ومستقبله، بحسب الرؤية الصينية الروسية.

صفقات استراتيجية

كشف الرئيس بوتين عن عدة مشاريع روسيةٍ صينيةٍ جديدةٍ في مجال الطاقة، من بينها صفقة تزود بموجبها روسيا الصين بعشرة بليون مترٍ مكعبٍ من الغاز سنوياً، وذلك عبر خطّ أنابيبَ جديد، ما يجعل الصين المستورد الأكبر للغاز الروسي، إضافة إلى تواتر أنباء عن أنّ شركة الطاقة الروسية العملاقة “روسنيفت” المملوكة للحكومة، ستصدّر 25% من مجمل إنتاجها النفطي للصين. 

من شأن هذه الاتفاقيات الطويلة الأمد والاستراتيجية تأمين الاستقرار في سوق الطاقة لكلا البلدين، الصين وروسيا على حدٍ سواء، وذلك في مواجهة تقلّبات سوق الطاقة العالمي التي تهدد أوروبا وآسيا. وفي هذا كلّه تدعيمٌ للتكامل الروسي الصيني في مجال الطاقة، الذي يعدّ أحد أهم المجالات الحيوية لدى الدول.

أما في مجال الفضاء، فقد وقَّعت كلٌ من الشركتين الصينية “بيدو” والروسية “جلوناسس” اللتين تديران “أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية” الصينية والروسية، على اتفاقيةٍ جديدةٍ تزيد مدى التعاون بين النظامين الصيني والروسي، ليصل إلى حدّ التكامل بينهما.

تأتي هذه الاتفاقية الجديدة لتبني على الاتفاقية المسماة “التعاون للأغراض السلمية لنظامي بيدو وجلوناسس” والتي وقَّعت عليها الصين وروسيا في العام 2018.

وتتيح الاتفاقية الجديدة للنظامين الصيني والروسي مزيداً من التكامل والاستمرارية في حالتي السلم والحرب، إذ سيتمّ استخدام النظام المتكامل للأغراض العسكرية والمدنية على حدٍّ سواء، ناهيك بكون التكامل بين النظامين الصيني والروسي يعطي دقّة لا يتجاوز فيها هامش الخطأ 1.2 متر فقط، على عكس نظام التموضع العالمي “<ج بي أس” الأميركي الذي يتراوح هامش الخطأ فيه بين 5 و10 أمتار.

تنسيق المواقف

أما تنسيق المواقف بين البلدين تجاه القضايا الأمنيّة، كما جاء في البيان الختامي، فكان أبرزه يتمثل برفض روسيا القاطع استقلالَ جزيرة تايوان عن جمهورية الصين الشعبية. في المقابل، رفضت الصين مساعي حلف شمال الأطلسي التوسع في أوروبا من دون مراعاة المخاوف الأمنية الروسية، وذلك في إشارةٍ إلى تأييد الموقف الروسي في الأزمة الروسية الأميركية الراهنة حول أوكرانيا. 

كما نسَّق البيان الختامي مواقف البلدين تجاه قضايا أمنيةٍ أساسيةٍ أخرى في منطقة الإندو باسيفيك والقارة الأوروبية، كالمواقف من حلف “أوكوس” ، والحوار الأمني الرباعي المسمى “كواد” (Quad)، وقضايا أخرى.

رؤية الصين وروسيا إلى النظام العالمي

ما تَقدَّم من أمثلةٍ على بعض ما جاء في بيان القمة الختامي من صفقات استراتيجية وتنسيق لرؤى البلدين حول قضايا أساسيةٍ راهنةٍ في الجغرافيا السياسية، يعطي فكرةً عن الخطوات العملية والملموسة التي اتفق عليها العملاق الاقتصادي الصيني مع شريكه العملاق العسكري الروسي، للدفع نحو تطبيق رؤيتهما للنظام العالمي، والتي تقوم على فكرة أنّ العالم يخرج من مرحلة الهيمنة الأميركية الأحادية الجانب وتسلُّط فكر العولمة الليبرالية على العلاقات الدولية، ليدخل مرحلة التعددية القطبية، واحترام سيادة الدول، وحقّها بتقرير مصيرها وصياغة نُظُمِها السياسية والاقتصادية بما يتماشى مع موروث شعوبها الحضاري، إذ ترى الصين وروسيا أنَّ العلاقات الدولية تدخل حقبة جديدة. وكانت هذه الرؤية واضحةً في عدة فقراتٍ في البيان، وفي روح اللغة المستخدمة فيه عموماً.

جاء في مقدِّمة البيان: “يمرّ العالم اليوم بتغيراتٍ بالغة الأهمية، فالبشرية تدخل مرحلةً جديدةً من التقدم السريع والتحولات العميقة، وترى هذه الظواهر في التعددية القطبية، وعولمة الاقتصاد، وحلول عصر المجتمع المعلوماتي، وتنوع الثقافات، وتحوّل بنية إدارة الشؤون العالمية والنظام العالمي، ويشهد العالم زيادةً في مستوى الترابط والتكامل بين الدول، وتوجهاً لإعادة توزيع القوة حول العالم”. وتبرز جلياً في هذه المقدِّمة الإشارة الواضحة إلى نظام عالمي يقوم على التعددية القطبية وإعادة توزيع القوة بين الدول على رقعة العالم. 

وتمضي مقدِّمة البيان ليتّضح المعنى أكثر، إذ يشير بعد ذلك إلى زيادة التحديات والمخاطر الأمنية على المستويين الدولي والإقليمي، ويضيف: “يستمرّ بعض اللاعبين الذين لا يمثلون سوى الأقلية على مستوى المجتمع الدولي بالتسويق للنهج الأحادي في معالجة القضايا الدولية، عبر اللجوء إلى القوة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، منتهكين بذلك حقوق تلك الدول ومصالحها المشروعة، ومثيرين القلاقل والخلافات، ما يعرقل تطور البشرية، في تحدٍ للمجتمع الدولي”، وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إلى الولايات المتحدة الأميركية ونهجها الذي يرتكز على الأحادية القطبية، لكن من دون ذكر اسمها صراحةً. 

وتتكرّر هذه الإشارات إلى الولايات المتحدة الأميركية، وإلى سعيها للهيمنة على دول العالم في عدة مواضعَ من البيان، فيشير البيان في إحدى الفقرات إلى عدم وجود وصفة واحدة لتطبيق الديمقراطية، بل إنَّ الشعوب وحدها تملك الحق بالحكم على نظامها السياسي إذا ما كان ديمقراطياً، ويعود لكلِّ شعبٍ حقّ اجتراح الطرق الأصلح له من أجل تطبيق الديمقراطية، بما يتماشى ونظامه السياسي والاجتماعي وخلفيته التاريخية وتقاليده وثقافته المميزة.

في المحصّلة، جاءت القمّة الصينية الروسية الثنائية استثنائيةً في توقيتها ومضامينها وبيانها الختامي، فكما عبَّر الرئيس بوتين عن أنَّ روسيا والصين تمران بمرحلة غير مسبوقة من الصداقة والتعاون في كلِّ المجالات من دون سقوف، يشير حجم الصفقات الموقعة وطبيعتها الاستراتيجية، إضافة إلى التصور الذي قدمته القمة حول مستقبل النظام العالمي الذي يتم العمل على ترسيخه، إلى تبلور معسكرٍ في مقابل معسكرٍ غربيٍ استعماريٍ تقليديٍ يضمّ “لاعبين لا يمثلون سوى أقليةٍ على مستوى المجتمع الدولي”، بحسب وصف البيان.

وغالب الظنّ أنَّ هذا المعسكر الناشئ سيكون جاذباً لأعضاء جددٍ، سواء أكانوا من العالم الإسلامي التواق إلى التخلص من الهيمنة الغربية، أم من بعض دول أميركا اللاتينية، أم من دولٍ أفريقيةٍ، حيث توسَّع النفوذ الصيني، كما الروسي، لكن بدرجةٍ أقل.

لكن لا يجب الخلط بين طبيعة هذا المعسكر الناشئ وما كان عليه حال المعسكر الاشتراكي إبان حقبة الاتحاد السوفياتي، فدينامية العلاقات الدولية وبُنية إدارة الشؤون العالمية الحاكمة لهذا المعسكر تنبثق من ركيزتين أساسيتين: تعددية الأقطاب، واحترام خصوصية كلّ شعب في تقرير شكل نظامه السياسي والاقتصادي بما يراه مناسباً.

إذاً، شيّدت الصين وروسيا الهيكلية لمعسكرٍ ناشئٍ وواعدٍ، وتبقى العِبرة في حُسْن التطبيق، وفي عدم تضارب المصالح بين القطبين الشريكين، جراء تبايناتٍ محتملةٍ في بعض الساحات، ولا سيما في منطقتي وسط آسيا وشرق أوروبا، لأنَّ روسيا تستمد حضورها الدولي من كونها عملاقاً عسكرياً، ما يمكن أن يجعلها تستخدم القوة لتثبيت موقعها الدولي في بعض الساحات، بما يتعارض ومصالح الصين التي ترتكز على كونها عملاقاً اقتصادياً.

ورغم هذه التخوفات، ولمحاولة استشراف مستقبل كِلَا المعسكرين، يكفي النظر إلى حجم مخرجات القمة الصينية الروسية وطبيعتها، ومقارنتها بنتائج قمة جو بايدن “من أجل الديمقراطية”، التي جاءت باهتةً وهزيلةً بكل المعايير، ولا سيما بعد نفور الكثيرين حول العالم من الأيديولوجية الليبرالية التي ما انفكت تروج لكلِّ أشكال الموبقات، من ترويجٍ للشذوذ الذي يضرب المجتمعات عبر هدم مفهوم العلاقات الإنسانيّة والأسرة السويَّة، إلى استنزاف موارد كوكب الأرض، إلى الحدّ الذي باتت معه استمرارية الحياة البشرية موضع تساؤلٍ. يلخّص الفيلسوف ألكسندر دوغين نتائج القمة الصينية الروسية بالقول: “المستقبل بالتأكيد للتعددية القطبية… عالَمٌ جديدٌ قد وُلِد”.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

ديمقراطية أميركا بمثابة سلاح دمارٍ شاملٍ

الخميس 16 كانون الأول

المصدر: الميادين نت

لقد بشَّر بايدن الأميركيين والعالم بأنَّ “أميركا عائدة” في فترته الرئاسية

عمرو علان

كاتب وباحث سياسي في العديد من المنافذ الإخبارية العربية ، ومنها جريدة الأخبار ، وقناة الميادين الإخبارية الفضائية ، وعربي 21 ، وراي اليوم

في ظلِّ انشغال الأوروبيين بقضاياهم الداخلية الضّاغطة، إضافةً إلى تزامن قمة بايدن “للديمقراطية” مع المؤتمر الشعبي المؤتمر عن مستقبل أوروبا، تراجَع بشكلٍ عام الاهتمام الأوروبي بالقمة.

في مقاله الشَّهير “لماذا يجب على أميركا أن تقود مجدداً؟”، الذي نُشِر في آذار/مارس 2020 قبيل خوضه السباق الرئاسي، والذي رسم فيه جو بايدن معالم سياسته الخارجية في حال انتخابه، كان بايدن قد ركّز على فكرة كون العالم يخوض معركة “الديمقراطية” ضد “الأوتوقراطية”، بحسب فهمه. وكان من أبرز ما طرحه في مقاله ذاك، عزمه على عقد مؤتمر دولي بقيادة أميركا لدعم “الديمقراطية” وتعزيزها حول العالم.

ولعلّ القمة من أجل “الديمقراطية” التي عقدها في 9 و10 كانون الأول/ديسمبر 2021 هي ذاك المؤتمر الذي بشَّر به في مقاله المذكور، فهل جاءت قمة “الديمقراطية” ونتائجها كما بشَّر بها العالم إبان انتخابه؟

دعت الإدارة الأميركية أكثر من 100 دولة إلى قمة بايدن، لكننا نجد غياباً كاملاً لأي معايير في توجيه الدعوات، فحتى لو سلَّمنا للأميركي بمعاييره المفترضة وشهادات حسن السلوك التي خوّل نفسه توزيعها في “الديمقراطية” والحُكْم الرشيد من خلال مؤسسة “فريدام هاوس”، فإننا نجد تناقضاً واضحاً في قائمة المدعوين، فقد تمت دعوة العراق وباكستان والهند وأكرانيا مثلاً، بينما لم تتم دعوة سنغافورة، ولا تركيا وهنغاريا الأطلسيتين، ناهيك بعدم دعوة روسيا وإيران، رغم تنظيمهما انتخابات دورية وحقيقية. 

ولهذا، كان واضحاً من قائمة المدعوّين أنَّ الأميركي يتغطّى مجدداً بقضية “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” من أجل أهدافٍ جيوسياسيةٍ تتعلق بمواجهة الصين. أكّد هذا الاستنتاج الذي ذهب إليه غالبية المتابعين، دعوة تايوان إلى القمة، رغم أنها ليست دولةً مستقلةً. 

على الأرجح، كان هذا الاستنتاج هو ما دفع باكستان إلى الاعتذار عن حضور قمة بايدن، إذ قال رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، في 9 كانون الأول/ديسمبر 2021، إنَّ باكستان غير راغبةٍ في الانضمام إلى أيّ تجمعٍ سياسيٍ ضد أحدٍ، وإنَّ العالم عانى الكثير من الحرب الباردة، وإن دولته لا ترغب في أن تجد نفسها جزءاً من حربٍ باردةٍ جديدةٍ. 

وجاء موقف روسيا والصين حازماً تجاه قمة بايدن، إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا: “تقوم الولايات المتحدة بتدمير نظام العلاقات الدولية المؤسسة على القانون الدولي والدور المركزي للأمم المتحدة، وذلك من أجل إنشاء منطقة راحة خاصة بها تنوي واشنطن أن تهيمن فيها بانفراد…”. ولهذا السبب بالذات، تنظّم الولايات المتحدة هذه الفعالية الجماعية في شكل “قمة الديمقراطية”، التي ستمنح المشاركين فيها شرف حق خدمة المصالح الأميركية.

أما الصين، فقال المتحدث باسم وزارة خارجيتها إن الديمقراطية أصبحت منذ فترةٍ طويلةٍ سلاح دمارٍ شاملٍ تستخدمه الولايات المتحدة للتدخل في الدول الأخرى، مشيراً إلى الثورات الملونة التي أثارتها أميركا في الخارج، وتابع كلامه بالقول: “إن القمّة نُظّمت لرسم خطوط تحاملٍ أيديولوجيةٍ، واستغلال الديمقراطية… والتحريض على الانقسام والمواجهة”.

إذاً، ما كان الهدف الحقيقي من قمة بايدن – كما بات واضحاً للقاصي والداني في دول العالم – إلا مواجهة صعود الصين في الدرجة الأولى، والتصدي لعودة روسيا إلى الساحة الدولية في الدرجة الثانية. 

عندها، لا حرج إذا قيل إنَّ القمة لم تحقق الكثير على هذا الصعيد، فاستبعاد دول مثل سنغافورة، التي تقع في المجال الحيوي للصين، والتي يمكن أن يكون لها دور كبير ضمن استراتيجية أميركا لمواجهة الصين، لا يبدو خطوةً أميركيةً في الاتجاه الصحيح.

ولعلَّ استبعاد سنغافورة كان في الأساس بسبب رفض رئيس الوزراء السنغافوري الدخول في تحالف من أجل “الديمقراطية”، يكون الهدف الحقيقي منه الدخول في حربٍ باردةٍ جديدةٍ ضد الصين، ولا يبدو كذلك استبعاد تركيا ومصر، الدولتين الإقليميتين المهمتين، خطوة أميركية محسوبة، فكما قال ستيفن وولت في مقاله بعنوان “قمة بايدن للديمقراطية يمكن أن تأتي بنتائج عكسية”: “إذا ما كانت الصين تعدّ التحدي المركزي للولايات المتحدة الأميركية في هذه المرحلة، فإن التركيز على الديمقراطية يمكن ألّا يكون الطريق الأمثل لمواجهة هذا التحدي”.

أما عن حضور أوروبا في هذه القمة، فرغم تصريحات ممثل السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوسيب بوريل، التي حثَّت الدول الأوروبية على المشاركة البنَّاءة في قمة بايدن، فإنَّ مصالح أوروبا لا تبدو متطابقة مع الولايات المتحدة الأميركية تجاه الصين في هذه المرحلة، ولا سيما في ظل جائحة “كوفيد-19” والتغيّر المناخي، إضافة إلى صعود الصين كقطب اقتصادي مهم لدول العالم، فكما أوضحت إيرين جونز وإليسا ليدو في مؤسسة كارنيغي للأبحاث: “تسود أوروبا تحفّظات على عودة أميركا لقيادة العالم، إذ يشير مصطلح “الاستقلال الاستراتيجي” الذي يُعد الأكثر رواجاً في أوروبا في هذه الحقبة إلى مَنحى أوروبيّ للخلاص من الخيار بين قيادة واشنطن أو بكين”.

وأضافت جونز وليدو أنَّ البعض في أوروبا يرى أنَّ تقسيم بايدن لدول العالم بين دول “ديمقراطية” يمكن التعامل معها، وأخرى “غير ديمقراطية” لا تصلح للتعامل معها، لا يأخذ بالحسبان تعقيدات العالم في هذه الحقبة.

وفي ظلِّ انشغال الأوروبيين بقضاياهم الداخلية الضّاغطة، إضافةً إلى تزامن قمة بايدن “للديمقراطية” مع المؤتمر الشعبي المؤتمر عن مستقبل أوروبا، تراجَع بشكلٍ عام الاهتمام الأوروبي بالقمة، في إشارةٍ إلى تراجع أهمية هذه القمة على المستوى العالمي.

لقد بشَّر بايدن الأميركيين والعالم بأنَّ “أميركا عائدة” في فترته الرئاسية، وكان العمل على تعزيز ما سمّاه “الديمقراطية” في العالم ومواجهة “الأوتوقراطية”، من خلال عقد قمّة عالمية لهذا الغرض، بحيث تكون فاتحةً لمسار جديد تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وكلنا يدرك أنَّ هذه العبارات تخفي وراءها هدف مواجهة صعود الصين كقطب عالميّ، واستعادة روسيا مكانتها كقطب دولي آخر، فإذا بنا نجد بايدن يعقد قمة عن بُعد، رأى فيها الكثيرون مجرد استعراض لقيادةٍ أميركيةٍ عالميةٍ لم تَعُدْ موجودةً بالفعل، وظهر أنها كانت موجهةً إلى الداخل الأميركي أكثر من الخارج، وذلك، كما يبدو، في محاولةٍ لطمأنة الداخل الأميركي إلى موقع أميركا العالمي.

ولكنَّ المفارقة كانت في عقد أميركا مؤتمراً من أجل “الديمقراطية” عقب شهورٍ قليلةٍ فقط على إعلانها فشل مشروعها المزعوم لترسيخ ديمقراطيتها في أفغانستان، وعقب تزايد الحديث عن تراجع “الديمقراطية” في الداخل الأميركي ذاته، وذلك في ظلِّ عدم اعتراف قطاعٍ واسعٍ من بين الجمهوريين بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة.

في ظلِّ تراجع الإمبراطوريات، يبدو أنَّنا سنبدأ بسماع الكثير من الجعجعة من دون رؤية الطحين. ولا أريد المبالغة كثيراً، لكنَّ قمة بايدن الأخيرة هذه تذكِّر بالقمم العربية التي لم يكن ينتج منها سوى البيانات، من دون أية نتائج عمليةٍ على أرض الواقع.إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

“حماس” في قائمة الإرهاب البريطانية.. فلماذا الآن؟

السبت 27 تشرين ثاني 2021

المصدر: الميادين نت

عمرو علان

كاتب وباحث سياسي في العديد من المنافذ الإخبارية العربية ، ومنها جريدة الأخبار ، وقناة الميادين الإخبارية الفضائية ، وعربي 21 ، وراي اليوم

يُثبت الغرب أنه في تعاطيه مع المنظمات الفلسطينية ينطلق من ثابتة مفادها محاولة تجريد الفلسطينيين من أيّ أوراق قوةٍ يتيسّر لهم الحصول عليها في مواجهة الكيان الغاصب.

جاء إعلان الحكومة البريطانية عزمها على تصنيف حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بكاملها “منظمةً إرهابيةً” أمراً مستغرباً وخارج السياق، في نظرة أوّلية. فرغم السياسات البريطانية المعادية عموماً للقضايا العربية، تاريخياً وحاضراً، ورغم كون بريطانيا قد صنّفت منذ حين الذراع العسكرية لحركة “حماس”، “منظمةً إرهابيةً”، جاء إعلان وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتل، عن سعيها لصبغ حركة “حماس” بكاملها بصبغة الإرهاب من دون أيّ مقدمات، فماذا إذن وراء الأكمة؟ وكيف ينبغي لحركة “حماس” وسائر فصائل المقاومة الفلسطينية عموماً التعامل مع هذه المسألة وشبيهاتها؟ 

يُعَدّ الإجماع الذي تَشكَّل فلسطينياً على إدانة المسعى البريطاني أمراً مبشّراً 

لنستذكر بدايةً المسعى الذي قاده رئيس الوزراء البريطاني الأسبق – السيّئ الذكر – توني بلير أواسط العَقْد الماضي مع حركة “حماس”، ذاك المسعى الذي حاول من خلاله انتزاع تنازلاتٍ من حركة “حماس” في الثوابت الفلسطينية، وإقناعها بإدخال تغييرات في نهجها المقاوم، وكان ذلك من خلال تقديم مغرياتٍ للحركة على شاكلة وعودٍ بفتح قنوات تواصلٍ مع مؤسساتٍ وشخصياتٍ برلمانيةٍ أوروبيةٍ، تفضي إلى فتح قنوات تواصلٍ مع الحكومات الأوروبية وحصول الحركة على اعترافٍ غربيٍ بها. 

وعلى إثر مسعى بلير ذاك، كانت الحركة قد أصدرت ما بات يُعرف “بوثيقة حماس”، التي رغم تخفيف الحركة من حدّة لهجتها التقليدية فيها، واستخدامها في المقابل لغةً حمّالةَ أوجهٍ، لم تتضمن الوثيقة تعديلاً جوهرياً في مبادئ الحركة، وبهذا فشل مسعى بلير وجزَرتُه في تحقيق المراد الغربي والصهيوني منهما، ومن ثم عاد بعد ذلك الاحتلال إلى أسلوب العصا من أجل كسر شوكة المقاومة الفلسطينية، حتى جاءت معركة “سيف القدس” التي فاجأت فيها المقاومة الفلسطينية – وفي طليعتها كتائب الشهيد عز الدين القسام – العالم بمدى الاقتدار الذي وصلت إليه تسليحاً وتنظيماً وتكتيكاً، وحققت فيها المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة “حماس” نقلةً نوعيةً في مسار مجابهة المحتل، وفرضت فيها حركة “حماس” نفسها لاعباً رئيساً في الساحة الفلسطينية – وحتى في الإقليم بقدرٍ ما – لكونها الفصيل المقاوم الأكبر والأكثر انتشاراً في الشارع الفلسطيني. 

ويضع البعض مسعى الحكومة البريطانية المستجد في سياق معاقبة حركة “حماس” على هذا الإنجاز، وفي سياق المحاولات الصهيونية لتفريغ الإنجاز الاستراتيجي الذي تحقق في “سيف القدس” من محتواه؛ فما رشح من مسار المباحثات الراهنة حول إعادة إعمار قطاع غزة المحاصر، يشي بزيادة الضغوط على حركة “حماس” من ناحية، وبتقديم المغريات المادية لها في إطار إعادة الإعمار من ناحية مقابِلة، وذلك بالتنسيق مع بريطانيا وأميركا وبعض الدول العربية بكل أسف. فالمطروح اليوم على الشعب الفلسطيني وفصائله المقاوِمة لا يعدو كونه مقايضة الأرض والحقوق الفلسطينية المغتصبة بالغذاء والمساعدات المادية، وهذا أمرٌ جُرِّب مع الفلسطينيين في الماضي ولم ينجح، فهل ينجح اليوم بعدما بات للفلسطينيين سيفٌ ودرعٌ، كما ثبت عملياً في معركة “سيف القدس”؟

لكن في العموم، سواء أكانت دوافع بريطانيا من وراء مسعاها تصنيف حركة “حماس” بكليتها “منظمةً إرهابيةً” الالتفاف على نتائج “سيف القدس” الاستراتيجية كما سلف، أم كانت دوافع أخرى بريطانيةً داخليةً محضةً، ففي كل الأحوال فإنّ الخُلاصات والنتائج سيّان. 

مع كل منعطفٍ، يُثبت الغرب أنه في تعاطيه مع المنظمات الفلسطينية ينطلق من ثابتة مفادها محاولة تجريد الفلسطينيين من أيّ أوراق قوةٍ يتيسّر لهم الحصول عليها في مواجهة الكيان الغاصب، وتأتي المقاومة المسلحة المشروعة في رأس قائمة أوراق القوة الناجعة التي يمكن أن تمتلكها الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ويجيء المسعى البريطاني المستجد ضمن هذه الثابتة، واستمراراً لمساعي توني بلير السابقة، لكن بطريقة التهويل ورفع العصا هذه المرة، لذلك ينبغي على أي فصيل فلسطيني أخذ العبرة، وإدراك حقيقة أن الاعتراف الغربي لن يكون إلا بالتخلي عن نهج المقاومة سبيلاً للتحرير، وأن أيّ أثمانٍ أخرى يعرضها الفلسطيني لن تؤدي إلى قبول الغرب به، وهذه تجربة “م.ت.ف.” الكارثية على القضية الفلسطينية شاخصة أمامنا.

وبناءً عليه، تصير زيادة مراكمة القوة – كما حصل في “سيف القدس” – الطريق المفيد الوحيد أمام حركة “حماس” وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية لانتزاع حضورها في المعادلات الدولية، فمن يمسك بالأرض يفرض الشروط، بمعزل عن رضى الغرب عنه من عدمه، وهذه تجربة حركة طالبان التي حاربتها أميركا عقدين من الزمن، لتعود بعد ذلك إلى التفاوض معها بحسب معطيات الميدان، هذا بغض النظر عن تقييمنا لمسيرة حركة طالبان سلباً أو إيجاباً، وأيضاً أخذ العبرة ممّا جرى مع حركة المقاومة الإسلامية في لبنان، حزب الله، الذي يصنّفه الغرب “منظمةً إرهابيةً”، ولكن مع هذا وجدنا مبعوث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرغماً على لقاء ممثل الحزب، حينما أرادت فرنسا التوسط في تأليف الحكومة اللبنانية، وجرى اللقاء داخل حرم السفارة الفرنسية ذاتها في لبنان.

يُعَدّ الإجماع الذي تَشكَّل فلسطينياً على إدانة المسعى البريطاني أمراً مبشّراً يمكن البناء عليه، ولا ضير في التحرك الدبلوماسي الموسع الذي أعلن عنه رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية من أجل الحد من مفاعيل هذا التوجه البريطاني، لكن الردّ الناجع كان في عملية “باب السلسلة” الأخيرة، التي نفّذها الشهيد فادي أبو شخيدم، القيادي في حركة “حماس”، والتي كانت استمراراً لمعركة “سيف القدس”، كما وصفتها فصائل المقاومة الفلسطينية.

حماس تنعى الشهيد فادي أبو شخيدم منفذ عملية القدس المسلحة | البوابة

صحيحٌ أن هذه العملية لم تكن رداً مباشراً على مساعي بريطانيا مؤخّراً، إلا أن تصعيد العمل المقاوم في القدس والضفة الغربية، وتعزيز مفاعيل “سيف القدس” والبناء عليها، حتى الوصول إلى إشعال الانتفاضة الثالثة، بهدف إجبار الاحتلال على الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 من دون قيدٍ أو شرطٍ، تُعَدّ الطريق الأقصر إلى استعادة بعض من الحقوق الفلسطينية المسلوبة، وإبطال مفاعيل مثل هذه المساعي، من بريطانيا وغيرها. 

هذا كان على صعيد الداخل الفلسطيني، أما على مستوى الخارج، فعلينا الإقرار بأنَّ هذه الخطوة البريطانية الجائرة ستضيف تعقيدات جديدة أمام التحركات الشعبية البريطانية المناصرة للحق الفلسطيني، على غرار التحركات التي شهدناها خلال معركة “سيف القدس”، وذلك إذا ما أخذنا في الحسبان التعقيدات القائمة فعلاً بسبب قوانين “معاداة السامية”، تلك القوانين التي يجري استغلالها بصورة فاضحة لحماية كيان الاحتلال من أيّ انتقادات أو محاسبة عن جرائمه ضد الفلسطينيين. فهل يُعقَل التفريق بين أيّ دعمٍ ذي معنى لحقوق شعبٍ تحت الاحتلال، وبين دعم حقه المشروع والأصيل في مقاومة هذا الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، وعلى رأسها المقاومة المسلحة؟

لكن في المحصّلة، يمكن للخارج تقديم ما يستطيع من دعم للداخل الفلسطيني ضمن المتاح في بيئته، وضمن مدى استعداد كل فرد للتضحية، شريطة أن لا يطلب الخارج من الداخل الفلسطيني الالتزام بالسقوف المنخفضة، فتبقى مواجهة المحتل على أرض فلسطين المحتلة وعلى باقي الأراضي العربية المحتلة هي الأصل، سواء أكان الاحتلال صهيونياً أم أميركياً. 

روسيا والصّين وخطاب قوى المقاومة

الصين تتريَّث حالياً في دخول معترك ملفات المشرق العربي السياسية وتعقيداتها

الجمعة 26 نوفمبر 2021

المصدر: الميادين نت

عمرو علان

كاتب وباحث سياسي في العديد من المنافذ الإخبارية العربية ، ومنها جريدة الأخبار ، وقناة الميادين الإخبارية الفضائية ، وعربي 21 ، وراي اليوم

أُجبِر الكيان الصهيوني سابقاً على الانسحاب من قطاع غزة في العام 2005، وقبل ذلك من جنوب لبنان في العام 2000. وفي كلتا الحالتين، كان انسحابه من دون قيدٍ أو شرطٍ.

لعلَّ من أبرز تجلِّيات حقبة “القطب الواحد” التي عاشها العالم خلال العقود الثلاثة الماضية، والتي يشارف العالم على الخروج منها إلى “نظام عالمي” جديد ما زالت ملامحه قيد التشكل، حيث تجلَّت ملامح “القطب الواحد” باستفراد الولايات المتحدة الأميركية بالتأثير في قضايا منطقتنا العربية، إذ كانت روسيا مشغولة بعملية استعادة توازنها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وكانت الصين في مرحلة بدايات بناء قوتها الاقتصادية العالمية، أما أوروبا، فكان تأثيرها قد بدأ بالتراجع في ملفات السياسة الدولية لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية منذ مشروع “مارشال”. 

أما اليوم، ونظراً إلى التحولات العميقة التي تجري في “النظام العالمي”، والتي تتمثل بعودة روسيا لتكون لاعباً دولياً رئيساً في الساحة الدولية من جهة، ولا سيما في منطقة المشرق العربي، وأيضاً في صعود الصين المطرد كعملاق اقتصادي دولي من جهة أخرى، نجد أنَّ الباب يُفتح مجدداً لهذه القوى الدولية للانخراط بشكل أكبر في ملفات المنطقة العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، القضية الأم والأكثر تعقيداً من بين قضايا المنطقة، إذ يفرض عليها التواجد الروسي العسكري في منطقتنا التعامل مع مسألة الصراع العربي الصهيوني، فكما صرَّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً: “روسيا عملت وستعمل كوسيط نزيه لتسوية النزاعات في الشرق الأوسط ولتحقيق الاستقرار في المنطقة… من أجل تطبيع الوضع في الشرق الأوسط. من المهم مبدئياً دفع عملية التسوية الفلسطينية الإسرائيلية”.

أما الصين التي يظهر أنها تتريَّث حالياً في دخول معترك ملفات المشرق العربي السياسية وتعقيداتها، فعلى الأرجح أن تجد نفسها مضطرة إلى الانخراط في هذه الملفات بقدرٍ أو بآخر، إما عاجلاً وإما آجلاً، ولا سيما أنها تسعى بشكل حثيث للاستثمار الاقتصادي في المنطقة الشرقية لحوض المتوسط، لكونها حلقة وصل رئيسية في مشروعها الاستراتيجي “الحزام والطريق”.

تطرح هذه المستجدات سؤالاً على فصائل المقاومة الفلسطينية حول الكيفية الأنسب للتعامل مع دول بحجم روسيا والصين العائدتين لأداء أدوار في قضايا منطقتنا، ولا سيما أنَّ منظمة التحرير الفلسطينية كانت قد ارتضت الدخول في خديعة “عملية السلام” التي أفضت إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني المزعوم، وقبلت التنازل عن الحق العربي والإسلامي الأصيل في الأراضي المحتلة العام 1948، وما تبع ذلك من القبول بتقسيم القدس إلى شرقيةٍ وغربيةٍ، وتمييع حق العودة المقدس للاجئين الفلسطينيين، إلى درجةٍ توازي التنازل عنه عملياً، وباتت دول العالم اليوم – اللهم إلا الجمهورية الإسلامية في إيران – تنظر إلى تنازلات المنظمة على أنها السقف المقبول فلسطينياً. 

الصين مثلاً، التي كانت ترفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، والتي كانت من أواخر دول العالم التي اعترفت بهذا الكيان المصطنع، لم تقْدِم على الاعتراف به إلا بعدما اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية به أولاً، وكان حال الصين في ذلك حال العديد من دول العالم الأخرى التي كانت تناصر الحقوق العربية والفلسطينية.

لكن قوى وفصائل المقاومة الفلسطينية، مع باقي قوى المقاومة الحية في وطننا العربي والإسلامي، على عكس منظمة التحرير الفلسطينية، ما زالت ترفع لواء تحرير كامل التراب الفلسطيني المحتل، بصفته الحل العادل والمنطقي للقضية الفلسطينية، ناهيك بكونه الحل الوحيد الحقيقي المتاح للصراع العربي الصهيوني، وذلك إذا ما وُضع أصل فكرة نشأت ووظيفة الكيان الصهيوني في سياقه الصحيح والأشمل ضمن الصراع مع قوى الاستعمار الغربي.

لذلك، يمكن لفصائل المقاومة الفلسطينية بناء خطابها مع هذه الدول على أساس فكرة وجوب انسحاب الاحتلال من الأراضي التي احتلها في العام 1967 من دون قيدٍ أو شرطٍ، فكل قرارات الأمم المتحدة تؤكد أن هذه الأراضي هي أراضٍ محتلة، وعلى أي احتلال الانسحاب من الأراضي التي احتلها من دون قيدٍ أو شرطٍ، ومن دون منحه أية مكافآت مقابل انسحابه هذا، وهي مسألة لا يستطيع أحدٌ المحاججة فيها بالقانون الدولي أو بغيره.

 أما الاحتلال الصهيوني، فهو حرٌ بأن يسمي هذا الانسحاب “إعادة انتشار” أو “فك ارتباط من طرف واحد” أو أي شيء آخر يريحه، فالجوهري هنا أن يكون هذا الانسحاب من دون قيدٍ أو شرطٍ، ومن دون أي تفاهماتٍ مع هذا المغتصب، وبعدها يكون لكل حادثٍ حديثٌ. 

لقد أُجبِر الكيان الصهيوني سابقاً على الانسحاب من قطاع غزة في العام 2005، وقبل ذلك من جنوب لبنان في العام 2000. وفي كلتا الحالتين، كان انسحابه من دون قيدٍ أو شرطٍ، ومن دون أن يحصل على أية تفاهمات مع المقاومة التي دحرته عن الأراضي التي كان يحتلها، وهذه التجربة يمكن تكرارها في الأراضي المحتلة العام 1967. 

أما عقيدة حركات المقاومة القائمة على تحرير كامل التراب الفلسطيني المحتل من رأس الناقورة إلى أم الرشراش، فهذا أمرٌ لا شأن للقوى الدولية به، ولا تجب مناقشته مع أيٍّ من هذه الدول، فإن أرادوا التضامن مع الشعب العربي ومساعدته على استعادة حقوقه، فعليهم الضغط على المحتلّ كي ينسحب من دون قيدٍ أو شرطٍ من الأراضي التي يحتلّها باعتراف القانون الدولي، وحجّة فصائل المقاومة في هذا قوية، فتكفي الإشارة إلى تجربة منظمة التحرير الفلسطينية على مدى العقود الثلاثة الماضية، وما سمي بـ”عملية السلام” وما انتهت إليه.

يرى البعض هذا الخطاب خطاباً متماسكاً، ويَصلح لمحاججة القوى الدولية الصاعدة به، فهو يضع الكرة في ملعبها، ولا يقدم في المقابل أي تنازلات عن الثوابت العربية والإسلامية في القضية الفلسطينية، ناهيك بكونه يتجاوز التنازلات التي قدّمتها منظمة التحرير الفلسطينية، والتي بات العالم يطالب الفلسطينيين بالالتزام بها، عوضاً عن مطالبة الاحتلال بالانسحاب دون قيدٍ أو شرطٍ من الأراضي التي احتلها العام 1967، بناءً على الشرعية الدولية التي تؤمن بها هذه القوى.

ويمكن القول ختاماً إنّ أيّ خطابٍ آخر تتبناه فصائل المقاومة الفلسطينية لا يلحظ فكرة وجوب انسحاب الاحتلال من دون قيدٍ أو شرطٍ، لا بد من أن يُدخِل الفصائل الفلسطينية في دوامةٍ تشبه دوامة خديعة “السلام”، إن لم تكن أسوأ. إذاً، ليخرج الاحتلال من الأراضي التي يحتلّها من دون قيدٍ أو شرطٍ أولاً. وعندها، يخلق الله ما لا تعلمون.إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

حلف «أوكوس» وأبعاده الإستراتيجيّة…

الجمعة 19 تشرين الثاني 2021

كاتب وباحث سياسي في العديد من المنافذ الإخبارية العربية ، ومنها جريدة الأخبار ، وقناة الميادين الإخبارية الفضائية ، وعربي 21 ، وراي اليوم ،.

عمرو علان

أعلنت كلٌّ من أميركا وبريطانيا وأستراليا في 15 أيلول 2021 عن إقامتها لحلفٍ أمنيٍ باسم «أوكوس»، ودارت عقب هذا الإعلان نقاشات موسّعة حول مدى ما يمثل هذا الحلف من تحول في «الجغرافيا السياسية»، ودارت تباعاً لذلك نقاشات حول قيمة هذه الخطوة من الناحية الإستراتيجية. وقد تَشكَّل شبه إجماع على كون هذه الخطوة تُعد بمثابة تبدلٍ رئيسٍ في «الجغرافيا السياسية» العالمية، فهي تمثل تحولاً عملياً في أولوية السياسة الخارجية الأميركية نحو منطقة «الإندو باسيفيك»، التي تُعد المجال الحيوي للصين، ناهيك عن كونها خطوةً أميركية ملموسة ضمن محاولاتها لعرقلة تقدم الصين في المجالات الاقتصادية والتقنية والتنموية عموماً. تطرّقت عدة مقالات بارزة إلى أهمية هذا الحلف وإلى ما يمثله في «الجغرافيا السياسية»، فمثلاً أكد أستاذ العلاقات الدولية البروفيسور «ستيفن والت» على أن سبب نشوء هذا الحلف وطريقة تشكيله يكشفان عما يتجه إليه العالم في قابل الأيام، وقالت مجلة «ذي إيكونوميست» في غير مقال بأن إقامة هذا الحلف تحاكي محطات تاريخية من قبيل زيارة الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون إلى الصين في سبعينيات القرن الماضي، وبأن حلف «أوكوس» يعيد تشكيل المشهد الإستراتيجي في منطقة «الإندو باسيفيك» برمّته.

لكن، رغم إجماع الآراء على أهمية ما يمثله هذا التحالف الأمني الثلاثي في السياسة الدولية، يبقى النقاش مفتوحاً حول ثقل هذا الحلف في الميزان الإستراتيجي، وإذا ما كان يُعد تبدلاً حقيقياً في ميزان القوى في مواجهة الصين في منطقة «الإندو باسيفيك». كان أبرز ما تمخّض عن حلف «أوكوس» توقيع أستراليا على عقد شراء ثماني غواصات حربية أميركية الصنع تعمل بالدفع النووي، وذلك عوضاً عن اثنتي عشرة غواصة حربية تعمل بالوقود التقليدي، كانت أستراليا قد تعاقدت على شرائها من فرنسا سابقاً، قبل إلغاء العَقْد لمصلحة عَقْد «أوكوس» الأميركي.

وتتميز الغواصات النووية الدفع عن نظيراتها التقليدية بأنها أسرع بنحو خمسة أضعافٍ، أي بنحو عشرين عُقدة بحرية للغواصات النووية الدفع في مقابل أربع عُقَد بحرية للغواصات التقليدية الدفع، وكذلك تتميز الغواصات النووية بأنها ذات قدرة عالية على الإبحار لمسافاتٍ بعيدةٍ، ومددٍ زمنيةٍ طويلةٍ، دون الحاجة إلى التزوُّد بالوقود، فمن الممكن القول بأن الغواصات النووية قادرةٌ عملياً على مواصلة العمل طالما توفّر لطاقمها الغذاء، ما يجعل من هذه الغواصات أداةً مثاليةً في عمليات فرض الحصار البحري على الدول، علماً بأن كلاً من مخزون الغذاء على متن الغواصة، وعدد الأيام التي يستطيع الطاقم قضاءها قبل أن يعتريهم الإرهاق، هما أمران ثابتان بمعزل عن نوع الوقود الذي تستخدمه الغواصة.

وتُعد الغواصات النووية أداةً فعالةً في عمليات الرصد والتجسّس أيضاً، وذلك بسبب قدرتها على الإبحار بصمت، ما يُصعِّب عملية اكتشافها وتعقبها من قبل الخصم. لكن في المقابل، وبناءً على معايير «برنامج ترايدنت النووي» البريطاني، تحتاج القوات البحرية إلى ثلاث غواصاتٍ بالحد الأدنى لضمان وجود غواصةٍ واحدةٍ في عمق البحر، وهذا يخفض القدرة العملانية للبحرية الأسترالية من ثلاث إلى أربع غواصات ، كانت لتحققها الصفقة الفرنسية، لتصير غواصتين أو ثلاثاً في أفضل الحالات حسب ما تُؤمِّنه صفقة «أوكوس» الأميركية، ونستذكر هنا جملة الأدميرال «هوراشيو نيلسون» حينما قال: الكثرة فقط هي التي تُبيد. ويجادل البروفيسور هيو وايت، أستاذ الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الوطنية الأسترالية، في مقال عن صفقة غواصات «أوكوس» النووية، بالقول إذا ما كان هدف أستراليا الانضمام إلى أميركا في حرب عسكرية ضد الصين، فعندها يكون خيار الغواصات النووية منطقياً، ويتابع، لكن أستراليا ليست قادرة على خوض حرب ضد جيش التحرير الشعبي الصيني وحيدةً، وبدون تواجد أميركي عسكري في منطقة «الإندو باسيفيك»، أما في حال وجود أميركا في المنطقة، فلا فرق عندها بين إذا ما كانت الغواصات الأسترالية نووية أم تقليدية، ويُفهم من حديثه بأنه في هكذا حرب ضد دولة نووية كبرى كالصين، يقع العبء الأكبر على عاتق أميركا، فهل من شأن غواصتين – أو ثلاث في أحسن الحالات – قلب موازين القوى بشكل جوهري في بحر الصين الجنوبي؟

وزيادةً على ذلك، كان يفترض أن تتسلّم أستراليا الغواصات الفرنسية بحلول عام 2030، بينما تحتاج الغواصات النووية الأميركية حتى عام 2040 على أقل تقدير لتكون جاهزة، وحتى ذاك الحين، على الأرجح أن تكون الصين قد حسمت لمصلحتها قضية تايوان، التي تعدها أميركا أمراً رئيساً في مشروع مناهضتها للصين، ناهيك عن أنها ستكون قد عزّزت تواجدها بشكل واسع بالفعل ضمن مجالها الحيوي.

أما إذا كان الحديث عن حلف «أوكوس» الأمني بصفته الشق العسكري من إستراتيجية أميركية أوسع لمناهضة الصين، فهكذا إستراتيجية يلزمها بالضرورة أولاً جانب اقتصادي، ولا سيما كون المنافسة الأميركية مع الصين تتركز على صعود هذه الأخيرة كعملاق اقتصادي عالمي، وثانياً، يلزمها تحالفات أميركية صلبة ذات مغزى وفعالية. ونجد بأن أول تداعيات حلف «أوكوس» كان إغضاب فرنسا، أحد حلفاء أميركا في «الناتو»، ووصف وزير الخارجية الفرنسي سياسة الرئيس الأميركي جو بايدن بالسياسة «الترامبية»، لكن بدون «تويتر»، وعدَّها «طعنة في الظهر» ممن يفترض كونهم حلفاء لفرنسا، ووصل الأمر إلى استدعاء فرنسا لسفيرَيها في أميركا وأستراليا للتشاور. وكانت ردة فعل الفرنسيين مفهومة، سيما أن صفقة الغواصات التي خسرتها كانت تُقدر بأكثر من 65 مليار دولار أميركي.

وأثار إقامة حلف «أوكوس» تساؤلاتٍ جدية لدى أعضاء حلف شمال الأطلسي عن موقع «الناتو» في الإستراتيجية الأميركية في مرحلة مناهضة الصين، حيث أقام الأميركيون هذا الحلف الثلاثي من وراء ظهر الأوروبيين، ذلك خلا بريطانيا التي كانت شريكة أميركا في تحالفها الجديد، ولا سيما أن الإعلان عن تحالف «أوكوس» جاء مباشرةً عقب الانسحاب الأميركي من أفغانستان، الذي لم تنسّق فيه أميركا مع شركائها لا من أوروبيين ولا من غيرهم.

وأما في الجانب الاقتصادي، فكان معبِّراً ما كتبته مجلة «ذي إيكونوميست»، حيث عنونت: وأخيراً أميركا تُبدي جديةً في مناهضة الصين في آسيا، لكنّ تقوية التحالفات العسكرية ليست وحدها أمراً كافياً، لتمضي بالقول إن علاقة أميركا بالصين يلزمها أكثر من مجرد استعراضٍ للقوة، وإنه ينبغي على أميركا تضمين إستراتيجيتها جوانب أخرى، من قبيل التعاون مع الصين حول التغيّر المناخي ضمن قواعد للتنافس الاقتصادي، وهنا فالسياسة الأميركية لا تزال تعاني. وقد كان لافتًا قيام الصين بتقديم طلب انضمامٍ إلى «اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ» بعد يوم واحد فقط على إعلان إقامة حلف «أوكوس»، هذا الاتفاق التجاري الذي يمثل المنطقة التجارية الحرة الكبرى في العالم، والذي انسحبت منه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عام 2017، ما أشار إلى عقليةٍ أميركيةٍ تجاريةٍ انعزاليةٍ، ولا يبدو أن أياً في أميركا يخطط إلى العودة إلى هذا الاتفاق بما في ذلك إدارة الديمقراطيين الراهنة، رغم تصريحات جو بايدن الانتخابية عن «تصحيح» ما قامت به إدارة دونالد ترامب، وعن نيته إعادة تقوية الشراكات الأميركية مع دول العالم. ويُعد تقديم الصين لطلب الانضمام هذا تعبيراً عن توجهاتها الاقتصادية، ويمكن إدراجه في سياق مناكفة أميركا، رغم الشكوك حول إمكانية قبول طلب الصين في هذه المرحلة من قبل الدول الأعضاء في «الشراكة عبر المحيط الهادئ».

إذاً، بنظرةٍ شاملةٍ لحلف «أوكوس» من جميع زواياه، نجد أنه يمثل تبدلاً عميقاً في «الجغرافيا السياسية»، كونه يعبر عن احتلال مناهضة الصين لرأس أولويات السياسة الخارجية الأميركية لسنوات قادمة، لكنه يظل خطوة عسكرية منقوصة «نصف إستراتيجية» كما وصفته مجلة «ذي إيكونوميست»، فعزّزت أميركا بهذه الخطوة العسكرية التحالف القائم أصلًا مع أستراليا، التي تُعد قزماً إذا ما قورنت بالصين سواءً أكان بعدد السكان أم بالقوة العسكرية، ناهيك عن كون أستراليا تعتمد بشكلٍ رئيسٍ على الصين في الجانب التجاري.

مما لا شك فيه أن أميركا قد حقّقت ربحاً تجارياً من بيع الغواصات النووية الباهظة الثمن، لكنه يبدو قصير الأمد في مقابل تعثرٍ إستراتيجيٍّ طويل الأمد، نتيجة إثارتها مجدداً للشكوك حول مصداقيتها، وعن مراعاتها لمصالح حلفائها، سواءً أكانوا من «الناتو» أم من الدول الأخرى. فهل كانت إذاً أستراليا «بقرةً حلوباً» أخرى تم ابتزازها في حلف «أوكوس»؟ حيث استبدلت أستراليا صفقة فرنسية بأخرى أميركية تفوقها مرة ونصف مرة في القيمة، من أجل حيازة عتادٍ عسكريٍ مشكوك في حاجتها إليه، حسب ما خلص إليه البروفيسور «هيو وايت» بالقول: عند الأخذ في الحسبان مجموع العوامل المرافقة لتشغيل الغواصات النووية، تفوز الغواصات تقليدية الدفع بكل تأكيد، فيا ليت أدارت أستراليا تعاقداتها بقليل من المنطق.

وهل خضعت حكومة «موريسون» إلى تهديد البروفيسور الأميركي المعروف وأستاذ العلوم السياسية «جون ميرشايمر»، حيث كان قد خاطب نخبة من الإستراتيجيين الأستراليين خلال ندوة بعنوان «هل تستطيع الصين النهوض بسلام»، أقيمت في عام 2019 في أستراليا، قائلاً: يرى البعض أنه يوجد هناك بديل، السير مع الصين عوضاً عن أميركا، وفي هذا الخيار أقول – إذا قرّرتم السير مع الصين فعليكم فهم أنكم ستغدون أعداء لنا، وبأنكم تختارون العداء مع الولايات المتحدة الأميركية، فالحديث هنا يخصّ منافسةً أمنيةً حادةً، فإما أن تكونوا معنا وإما أن تكونوا ضدّنا، فإذا اخترتم الصداقة مع الصين، فهذا لن يجعلنا سعداء، وعليكم عدم الاستهانة بغضبنا حينما لا نكون سعداء، وما عليكم إلا سؤال فيديل كاسترو عن ذلك.


صعود الصين، عودة روسيا ونهاية فكرة تصدير الديمقراطية الأمريكية – البروفيسور جون ميرشايمر

مقالات سابقة


ضرب ناقلة النفط الإسرائيلية.. خارج الحسابات

السبت6 اب

الميادين نت

عمرو علان

حتى لو حاول العدو الإسرائيلي الاعتماد على البحرية الأميركية من أجل حماية سفنه التي تَعبُر تلك المنطقة، فلن يكون هذا بالأمر الهيّن، ناهيك بالتكلفة المادية التي ستترتب على إجراءات كهذه.

استُهدِفت يوم الجمعة، 30 تموز/يوليو ناقلة النفط “م/ت ميرسير ستريت”

في محاولة لقراءة ما بين السطور فيما ورد في الصحافة الإسرائيلية، يمكن أن نستنبط عدم توقُّع العدو الصهيوني الهجومَ الأخير على ناقلة النفط الإسرائيلية، من خلال ثلاثة أوجه على الأقل، بحيث تَمَثَّل الوجه الأول بالتِّقْنية المستخدمة، وتجسّد الهدف الثاني في نتيجة الهجوم. أمّا الهدف الثالث والأخير فيكمن في ساحة الاستهداف. ولعل في هذه الأوجه الثلاثة ما يضيف إلى هذه الضربة أبعاداً مغايرة لسابقاتها استهدفت سفناً إسرائيلية، كما سيأتي. وسيتبنى هذا المقال، جدلاً، الرواية الإسرائيلية الأميركية البريطانية، والتي مفادها أن إيران هي التي تقف وراء هذه الضربة الهجومية.

استُهدِفت يوم الجمعة، 30 تموز/يوليو ناقلة النفط “م/ت ميرسير ستريت” ي أثناء مرورها في بحر عُمان خلال رحلتها من تنزانيا إلى الإمارات، وكانت ترفع العَلَم الليبيري، إلاّ أن الشركة التي تتولّى تشغيلها هي شركة “مجموعة زودياك”، المسجلة في مدينة لندن، والتي تعود ملكيتها إلى الملياردير الإسرائيلي إيال عوفر. ونُفِّذ الاستهداف المزدوج بواسطة طائرتين مسيَّرتين انتحاريتين، بحيث ضربت المُسيَّرة الأولى جسم الناقلة، الأمر الذي أدّى إلى أضرار مادية في الناقلة. وبعد الضربة الأولى، جاءت المُسيَّرة الثانية لتضرب برج المراقبة، على نحو مباشر، مُوْقِعَةً قتيلين من طاقم الناقلة.

من هنا، نجد أن الوجه الأول، المتمثّل بتِقْنية الاستهداف، جاء مغايراً، إذ كان ضد هدف بحري متحرِك، وليس ثابتاً. ويلزم المُسيَّرات حتى تتمكن من إصابة هدف، من مثل هذه الشاكلة، أن تكون قابلة للتحكم فيها وتوجيهها بعد إطلاقها، على عكس الأهداف الثابتة التي يكفي معها برمجة المُسيَّرة بإحداثيات الهدف مسبَّقاً، الأمر الذي يكشف امتلاك إيران تِقْنيات تحكُّم في المُسيَّرات وتوجيهٍ لها، وهو لم يكن لدى الكيان الصهيوني والإدارة الأميركية علمٌ به، كما صرّحا عقب الهجوم. وقالا إنهما الآن يعكفان على تحليل طبيعة هذه التقنية المستخدَمة. فهذا الاستهداف الأخير يُرجِّح، إلى حدّ كبير، صحةَ التصريحات الإيرانية بشأن قدرات طهران البحرية الفعلية، بحيث دار جدال بشأن هذه القضية عقب مناورات “الرسول الأعظم 15″، في كانون الثاني/يناير من هذا العام، فجادل تايلر روجوواي، على سبيل المثال، في مقال نُشر في 17 كانون الثاني/يناير 2021، في أن وصول صواريخ “أرض بحر” الإيرانية إلى مسافة 1000 ميل في عمق المحيط الهندي، وسقوطها على مسافة لا تتجاوز 100 ميل من الأسطول البحري لحاملة الطائرات الأميركية “يو أس أس نيميتز” ( USS Nimitz)، لا يتعدى عن كونه استعراضاً إيرانياً فارغ المضمون، بحيث إن مجرد إيصال مقذوف بحري إلى مسافة قريبة من هدف بحري متحرّك، لا يعني مطلقاً امتلاك القدرة الفعلية على إصابة أهداف من هذه الطبيعة، نتيجةً للتعقيدات المرتبطة بتقنيات التحكم والتوجيه.

أمّا الوجه الثاني، فيتمثّل بتعمُّد إسقاط قتلى في الهجوم، أو على أقل تقدير عدم الاكتراث لسقوط قتلى. ففي هذا الهجوم الأخير، استهدفت المُسيَّرة الثانية، على نحو مباشِر، برجَ المراقبة في الناقلة، بينما نجد أن الهجمات المماثلة السابقة كانت تتجنب بصورة واضحة إسقاط قتلى. وفي هذا رفعٌ لمستوى التحدي، ومؤشّر على كون إيران مستعدة للتصعيد إذا أقدم العدو على ردة انتقامية، وهو ما يعني محاولة لتغيير قواعد الاشتباك الراهنة.

ويبقى الوجه الثالث والمتمثّل بساحة الاستهداف، والذي لعلّه مربطَ الفرس في هذه الحادثة، ولاسيما إذا ما قُرِن بالوجه الثاني الآنف الذكر، بحيث يمكن البناء عليه في السياسة. فإدخال بحر عُمان ضمن ساحات الاشتباك كان مفاجئاً للعدو الصهيوني، على نحو واضح، وجغرافياً. فإنّ هذه الساحة تقع ضمن مجال إيران الحيوي، ويسهل عليها العمل فيها، على عكس العدو الصهيوني الذي سيكون من الصعب عليه مواجهة هجمات كهذه بالمُسيَّرات، في تلك المنطقة البحرية. وحتى لو حاول العدو الإسرائيلي الاعتماد على البحرية الأميركية من أجل حماية سفنه التي تَعبُر تلك المنطقة، فلن يكون هذا بالأمر الهيّن، ناهيك بالتكلفة المادية التي ستترتب على إجراءات كهذه، الأمر الذي سيرفع قيمة النقل البحري بصورة ملموسة على الكيان الصهيوني. وتدرك إيران حيوية ممرات النقل البحري هذه للكيان الصهيوني، كون 90% من البضائع المنقولة بحراً له تمرُّ في هذه الممرات المائية، التي باتت ضمن دائرة الاستهداف.

يقرأ البعض هذا الهجوم الأخير في خانة الردّ على العدوان الإسرائيلي، الذي استهدف مطار الضبعة السوري، والذي قالت تقارير غير مؤكَّدة إنه “سقط فيه شهداء لإيران وحزب الله”. وتستنتج هذه القراءة أن إيران قرّرت بدء الرد على الاعتداءات الصهيونية المتكررة على مواقع إيرانية في سوريا، لكن من دون أن تُحمِّل الدولة السورية عبء تبعات هذا الرد، كونه جاء من خارج الأراضي السورية.

لكن، علاوة على هذه القراءة، يمكن وضع هذا الهجوم في سياقٍ أوسع. فلقد تعرّضت في الماضي ناقلات نفط إيرانية لاعتداءات إسرائيلية في أثناء نقلها مشتقات نفطيةً إلى سوريا، الأمر الذي حدا بالبحرية الروسية إلى أن تشرع في تأمين خط هذه الناقلات. أمّا اليوم فأعلن حزب الله، غيرَ مرة، وجودَ أفكار جدية لحل أزمة الوقود اللبنانية، عبر استيراده من إيران، الأمر الذي أثار موجة قلق ورفض لدى الصهيوني ظهرت في معظم التصريحات الصادرة من داخل الكيان. وهنا، إذا أخذنا في الاعتبار طُولَ الفترة الزمنية نسبياً بين الاعتداء على مطار الضبعة السوري والهجومِ على ناقلة النفط الإسرائيلية – علماً بأن توجيه ضربة بحرية كهذه لا يلزمه كثيرٌ من الإعداد، الأمر الذي قد يُطيل مدة الردّ – علاوة على عدم تأكيد سقوط شهداء في العدوان على مطار الضبعة، يصير مستساغاً وضع هذه الهجمة في دائرة الردود على الاعتداءات الإسرائيلية السابقة على ناقلات النفط الإيرانية، في محاولة لتعديل قواعد الاشتباك، وعلى نحو يؤمِّن حماية للسفن الإيرانية المتّجهة إلى سوريا، وأيضاً لتلك المحتمل أن تتوجه إلى لبنان في المستقبل القريب، ولاسيّما أن الروسي لن يكون مهتماً بتقديم الحماية لأي سفن إيرانية متّجهة إلى لبنان.

هذا الهجوم هو الأول من نوعه، من حيث كيفيته ومكانه وطبيعته، التي أسقطت قتلى. وإذا كانت إيران تسعى لإعادة رسم قواعد الاشتباك وتوسيعها، كما جادل هذا المقال، فربما يلزمها القيام بعمليات نوعية أخرى تكون على شاكلة الهجوم الأخير، ولاسيما أن العدو الصهيوني وداعميه الأميركيين لن يسلّموا بقواعد الاشتباك الجديدة بعد أول حادثة، بحيث صرَّحا بأنهما يدرسان الحادثة وكيفية الرد عليها. لكنّ الحاكم في تحديد مآلات هذه الجولة يبقى عدم استعداد كل من الإسرائيلي والأميركي للذهاب إلى صِدام عسكري مباشِر مع إيران ومحور المقاومة. وهذا يُضيِّق، إلى حدّ بعيد، الخيارات المتاحة للصهيوأميركي، بينما يظل لدى محور المقاومة عددٌ من الخطوات التكتيكية التصعيدية، والتي يمكن استخدامها وقت الحاجة.

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

الانسحاب الأميركي من وسط آسيا بين الفوضى والاستقرار

Visual search query image

كاتب وباحث سياسي في العديد من المنافذ الإخبارية العربية ، ومنها جريدة الأخبار ، وقناة الميادين الإخبارية الفضائية ، وعربي 21 ، وراي اليوم ،.

 الأربعاء 28 تموز 2021

المصدر

عمرو علان

كما كان دخول أميركا عسكرياً إلى قلب آسيا، من خلال احتلال أفغانستان قبل 20 عاماً، تبدّلاً نوعياً في وضع الجغرافيا السياسية الذي كان قائماً في وسط آسيا آنذاك، فإنَّ انسحابها اليوم لا يقلّ أهميّة كذلك من هذا المنظور.

لم يكن دخول أميركا إلى آسيا الوسطى – قبل 20 عاماً من خلال احتلال أفغانستان – نقلة هامشية في لعبتي الشطرنج الجغرافيتين، السياسية والاقتصادية، فكما يقول الأستاذ المساعد البروفيسور برياني تود في مركز البحوث الاستراتيجية “Near East South Asia Center for Strategic Studies” في جامعة ” National Defense University” الأميركية: “إذا ما كنّا – يقصد الأميركيين – خلال التسعينيات ننظر إلى منطقة وسط آسيا من خلال البعد الروسي، فإننا صرنا في الألفية الثانية ننظر إلى تلك المنطقة من خلال البعد الأفغاني”.

Visual search query image
كان الدخول العسكري الأميركي إلى قلب آسيا تحولاً استراتيجياً إذ جعل منها المهيمن الرئيس في عموم منطقة أوراسيا

إنَّ وجود أفغانستان في قلب آسيا يجعل منها عقدة مواصلات برية في حركتي نقل البضائع والأفراد، ولا سيما أنَّ لها حدوداً مشتركة مع 6 دول آسيوية، 3 منها تعد دولاً محورية، هي الصين شرقاً، وباكستان جنوباً، وإيران غرباً. يضاف إلى ذلك وقوع أفغانستان في حيّز اهتمام جمهورية روسيا الاتحادية ضمن عقيدة “الخارج القريب” أو استراتيجية “سياسة الوصول جنوباً” في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي؛ فمن خلال البرّ الأفغاني يمكن لروسيا الوصول إلى باكستان، ومنها إلى المحيط الهندي.

لهذا، كان الدخول العسكري الأميركي إلى قلب آسيا تحولاً استراتيجياً، إذ جعل منها المهيمن الرئيس في عموم منطقة أوراسيا، ومؤثراً أساسياً في سياسات دول تلك المنطقة ونُظُمِها، ما شكَّل مصدر إزعاج لكلٍ من روسيا والصين وإيران؛ فبالنسبة إلى روسيا، صار الوجود العسكري الأميركي في حديقتها الخلفية، علاوة على قطع الطريق عليها للوصول إلى المحيط الهندي. بالنسبة إلى إيران، شكَّل تموضع قوة عسكرية عدوانية على حدودها تهديداً استراتيجياً دائماً، ولا سيما بعد تمدد هذا الوجود إلى الساحة العراقية في غرب آسيا، ليضع إيران بين فكّي كماشة.

أما صينياً، فشكَّل الوجود الأميركي في أفغانستان حاجزاً أمام طريق الصين التجاري للوصول إلى الغرب؛ هذا الطريق الذي تحوّل في ما بعد إلى استراتيجية “مبادرة الحزام والطريق” الصينية. وازدادت أهمية الممر الأفغاني في “مبادرة الحزام والطريق” بعد بناء الصين ميناء “جوادر” على بحر العرب في باكستان، وبعد تَبَلْور اتفاقيات “الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني” الذي يعد درَّة التاج في “مبادرة الحزام والطريق”.

يظهر هذا الاهتمام الصيني المتزايد في أفغانستان في زيادة حجم المساعدات النقدية لهذا البلد، وفي اتفاقيات الاستثمار الصيني الموقَّعة حديثاً في قطاع التعدين واستغلال مناجم النحاس، إضافةً إلى مشاريع بنى تحتية أخرى من سكك حديد وغيرها.

ورغم أنَّ العديد من المشاريع الاقتصاديّة الاستراتيجيّة التي تم الاتفاق عليها بين الصين وأفغانستان ما زالت تنتظر الدخول حيز التنفيذ، ورغم أنَّ عدد الشركات الصينية التي دخلت فعلاً إلى السوق الأفغاني لم يتجاوز الـ300، وهي تقتصر حالياً على كبريات الشركات الصينية، كشركة “هواوي” مثلاً، فإنَّ المصالح “الجيو-سياسية” و”الجيو-اقتصادية” الصينية باتت واضحة في الساحة الأفغانية. كل هذه الاستثمارات الاقتصادية لا تنتظر سوى زوال العائقين الرئيسين أمام البدء بها، وهما الوجود الأميركي واستعادة الاستقرار السياسي في هذا البلد الذي أنهكه الاحتلال والحروب البينية.

إذاً، كما كان دخول أميركا عسكرياً إلى قلب آسيا تبدّلاً نوعياً في وضع الجغرافيا السياسية الذي كان قائماً في وسط آسيا آنذاك، فإنَّ انسحابها اليوم لا يقلّ أهميّة كذلك من هذا المنظور. 

وهنا، نلحظ أنَّ انسحاب الاحتلال السوفياتي أواخر الثمانينيات عقب فشله في أفغانستان، كان قد حصل ضمن استراتيجية وخطة منظمة، ما ساعد في صمود حكومة نجيب الله التي كانت مدعومة سوفياتياً حتى تفكك الاتحاد السوفياتي ذاته، بينما نجد أن الانسحاب الأميركي تم بطريقة عشوائية، ومن دون استراتيجية واضحة، ما يطرح احتمالات دخول أفغانستان في حالة عدم استقرار سياسي ودورة عنف داخلي متجدّد، حتى إنَّ صحيفة “وول ستريت جورنال” كانت قد كشفت مؤخراً عن تقديرات استخبارية أميركية جديدة تتنبأ بسقوط حكومة كابول المدعومة أميركياً خلال 6 أشهر بعد استكمال الانسحاب الأميركي.

لهذا، صدرت تقديرات في كلٍّ من روسيا والصين تُخمِّن أن طريقة الانسحاب الأميركية غير المدروسة تهدف عن عمد إلى إدخال الساحة الأفغانية في حالتي فوضى وعدم استقرار، ما يضرب الاستراتيجيتين الروسية والصينية في منطقة وسط آسيا، اللتين يعدّ استقرار أفغانستان عنصراً مهماً فيهما.

بمعنى آخر، إنَّ الأميركي يسعى إلى إشعال كرة نار ليلقي بها في الحضن الروسي والصيني، وحتى الباكستاني والإيراني، ويمكن لعدم الاستقرار في أفغانستان أن يؤثر في ساحتي باكستان وإيران الداخليتين، ولا سيّما الساحة الباكستانية. وبهذا، يترك الأميركي على عاتق هذه الدول عبء ترتيب الفوضى التي خلقها بنفسه. ولعل هذا ما يفسر رؤية الصين وروسيا للانسحاب الأميركي من أفغانستان على أنّه فرصة وتحدٍّ في آنٍ واحد.

وقد عبَّرت الصين صراحةً عن توجُّسها من طريقة الانسحاب الأميركي غير المنظم، وذلك في كلمة مندوب الصين في جلسة “مجلس الأمن الدولي” في 22 حزيران/يونيو 2021، التي خُصِّصَت لنقاش الوضع في أفغانستان، كما أكّد هذا التوجُّس وزير خارجيتها وانغ يي خلال افتتاح “منتدى السلام العالمي” التاسع الذي عُقِد في بكين في 3 تموز/يوليو 2021.

لكنْ مهما كان الحال، سواء كان انسحاب أميركا، كما وصفه بدقّة ديمتري ترنين مدير “مركز كارنيغي موسكو”، حين كتب أنَّ الانتشار الأميركي خارج العالم الغربي يتضمّن مشكلتين؛ أولهما أن الأميركي عندما يدخل منطقة بالقوة يُحدِث اضطراباً في “جغرافيّتها السياسية” السائدة، والأخرى تكون عند انسحابه، إذ يُخلِّف وراءه فوضى، أو أنَّ الانسحاب الأميركي جاء فوضوياً بشكلٍ متعمّد؛ ففي الحالتين، لا يغير ذلك من حقيقة الأمر ومما يترتّب عليه.

وحتى إن عددنا الانسحاب الأميركي تحولاً إلى استراتيجية “التحكّم في الفوضى عن بُعد” في محاولةٍ لضرب مصالح الصين وروسيا في منطقة وسط آسيا بكلفة أقل، يظل هذا انكفاءً على وقْع فشَلٍ لاحتلال دام 20 عاماً، إذ أخفق الاحتلال في تحقيق هدفه الاستراتيجي بتثبيت سيطرةٍ مستتبةٍ للأميركي وحلفائه على قلب آسيا، وعلى عقدة المواصلات البرية عبر أفغانستان.

ولا ننسى أن الهدف المعلن الأميركي عند احتلال أفغانستان كان القضاء على حركة “طالبان” نهائياً، بينما نجد اليوم أن احتمال عودة “طالبان” إلى الحكم صار كبيراً، بعد أن باتت التقارير المتواترة تشير إلى تَمكُنها من استعادة السيطرة على نحو 80% من مساحة أفغانستان في فترة زمنية قياسية، وبعد أن باتت كلّ الدول المجاورة لأفغانستان، إضافة إلى روسيا، تتعاطى مع الحركة على أنها اللاعب الرئيس في المشهد الأفغاني. وبدأت الهند أيضاً مؤخراً بفتح خطوط تواصل معها، رغم الموقف العدائي للهند تجاهها، بسبب ديناميات التحالفات في ذلك الإقليم وتعقيداتها، بين الصين وباكستان من ناحية، والهند من ناحية مقابِلة.

وفي المحصّلة، تفرض المرحلة القادمة تحدياً على الدول الفاعلة في ذاك الإقليم، ولا سيما الصين وروسيا، بالتعاون مع إيران وباكستان والهند، من أجل ترتيب الوضع الداخلي الأفغاني واستعادة هذا البلد استقراره السياسي الذي يتوقف عليه انطلاق حركة إعادة الإعمار والتنمية، بما يخدم الشعب الأفغاني بداية، ويصب تبعاً في مصلحة الاستراتيجيات الكبرى لمركزي القوى العالميين الصاعدَين، الصين ومبادرتها “الحزام والطريق”، وروسيا واستراتيجيتها “الأوراسية”؛ هذه الاستراتيجيات التي تمهّد لولادة عالَم ما بعد الهيمنة الغربية.

من أجل هذا الهدف، توجد عدة اتحادات وتحالفات إقليمية يمكن البناء عليها من أجل إعادة رسم الجغرافيتين السياسية والاقتصادية في منطقة وسط آسيا، وامتداداً غرب آسيا، لكن من دون الخوض في التفاصيل، يرى البعض أن تكون “منظمة شانغهاي للتعاون” هي الأكثر قدرة على القيام بهذه المهمة الكبرى التي لا تخلو من الفخاخ والمصاعب.

أما بالنسبة إلى آثار هذه التحولات في المنطقة العربية، فنوجزها بالمعادَلة الآتية: كل صعود للشرق، وأفول للغرب، وتراجع للإمبريالية والهيمنة الغربية، هو مصلحة محققة لـ”دول الأطراف” عموماً، ما يوجِد فرص وبيئة جديدة مؤاتية في المنطقة العربية، يبقى على عاتق العرب حُسن استثمارها وتوظيفها في مصلحة الإقليم.إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

«هندسة احتلال»

كاتب وباحث سياسي في العديد من المنافذ الإخبارية العربية ، ومنها جريدة الأخبار ، وقناة الميادين الإخبارية الفضائية ، وعربي 21 ، وراي اليوم ،.

السبت 17 تموز 2021

عمرو علان

تطرّق معلقون كثر، بينهم كاتب هذه السطور، إلى أبعاد اغتيال الشهيد نزار بنات. حاولنا في ما يخصنا وضع جريمة في سياقها الصحيح، إذ جاءت كنتيجةٍ طبيعيةٍ لفلسفة السلطة الفلسطينية المبنية على «التنسيق الأمني»… ناهيك بإمكانية وضع تلك الجريمة ضمن ردود السلطة الفلسطينية على منجزات معركة «سيف القدس »الأخيرة، التي شكلت تحدياً لمسار أوسلو سيّء الذكر، ولمفهوم «عملية السلام» الكاذبة برمّتها… فمنجزات المقاومة في معركة «سيف القدس» مثلت هزيمةً لكلٍّ من الاحتلال والسلطة الفلسطينية على حدٍ سواء.

بناءً على تلك الخلاصات يرد في السياق تساؤلان مهمان: ماذا لو لم تتجاوب السلطة الفلسطينية مع المطالب الوطنية بحل ذاتها؟ وما هو مصير المصالحة الوطنية؟

إنّ ما انتهت إليه السلطة الفلسطينية من «تنسيقٍ أمنيٍ مقدسٍ» مع قوات الاحتلال – بما يتعارض وأبسط الثوابت الوطنية – لا يأتي خارج السياق، بل مصيرٌ شبه حتميٍّ لأي سلطة حكمٍ ذاتيٍّ تنشأ في ظل وجود إحتلالٍ، وذلك نتيجةً للعلاقة الجدلية التي تقوم بين الإحتلال وسلطة الحكم الذاتي، حيث تُوجِد هذه العلاقة طبقةً برجوازيةً حاكمةً ترتبط اقتصادياً وعضوياً بالإحتلال ذاته، فيصير بقاؤها مرهوناً ببقائه، وبذلك تتحوَّل سلطة الحكم الذاتي تلقائياً إلى أحد الأدوات الرئيسة والفعالة ضمن إستراتيجيات الإحتلال، من أجل قمع ذاك الشعب المحتل وحركات تحرره الوطنية، وهذا ما تدلل عليه التجارب التاريخية في الحالات المشابهة؛ لهذا ففرص تغيير السلطة الفلسطينية لنهجها تعدّ من شبه المستحيلات؛ إن لم تكن خارج الحسابات السياسية المنطقية بالمطلَق.

إذا ما أُخِذت هذه الحقيقة بعين الإعتبار، يسهل الخلوص إلى أن التعويل على حلّ السلطة الفلسطينية لنفسها من تلقاء ذاتها يُعدّ على الأرجح أمرًا غير واردٍ، كذلك يصير عدم تحقق الوحدة الوطنية بين حركتي «حماس» و»فتح» مفهوماً ومبرراً رغم مرور قرابة 15 عاماً على الإنقسام، ورغم كثرة المحاولات السابقة لإنهائه، فالحديث هنا عن مشروعين متضادين يلغي أحدهما الآخر، وينطبق عليهما «البرهان العقلي» في «إستحالة الجمع بين الأضداد»، فهما لن يجتمعا إلا إذا غيَّر أحدُهما خَصائصَهُ، وهذا محمودٌ في حالة السلطة الفلسطينية، لكنه مستبعدٌ لما ذُكر سابقاً، وممكنٌ في حالة حركة «حماس» بصفتها حركة مقاومة، لكنه سيكون مذموماً من الناحية الوطنية، فإذا ما حصل واجتمع هذان المشروعان فلن يكون هذا إلا ضمن احتمالين اثنين لا ثالثً لهما: فإما أن أحدهما قد غير في خصائصه الجذرية، وإما أن يكون أحدهما قد هيمن على الآخر بشكلٍ فعليٍّ بما يجعل من خصائص هذا الأخير في حكم اللاغية.

وعليه في الحالة الفلسطينية، يصير من الأجدى لفصائل المقاومة الفلسطينية صرف النظر عن مسارات المصالحة العقيمة السابقة، وذلك إذا ما كانت تنوي الالتزام بعقيدتها وبخطها المقاوم، والبحث عن مسارٍ جديدٍ يمكن أن يفضي إلى مصالحةٍ وطنيةٍ حقيقيةٍ واضحة المعالم، تكون مؤسسةً على أهدافٍ منسجِمةٍ، تتَّسق مع الثوابت الوطنية دون تفريطٍ.

ولقد منحتنا معركة «سيف القدس» مثالاً عملياً لمسارٍ واقعيٍ، يمكن البناء عليه لتشكيل وحدةٍ وطنيةٍ مضبوطةٍ، فبالإضافة إلى كون معركة سيف القدس قد مثلت نقلةً نوعيةً في مسار مكافحة الكيان الصهيوني، فقد طرحت أيضاً صيغة «غرفة العمليات المشتركة»، التي شكلتها «كتائب الشهيد عز الدين القسام» في قطاع غزة، بناءً على أهدافٍ وطنيةٍ واضحةٍ، وقادت من خلالها المواجهة الأخيرة بكل تفاصيلها بالتشاور والتشارك مع جميع فصائل «غرفة العمليات المشتركة» الأخرى، وقد شملت هذه الغرفة كافة الفصائل الفلسطينية المسلحة قاطبةً، بما فيها فصيلان مسلَّحان تابعان لحركة «فتح»، وحقَّقت بذلك معركة سيف القدس نصراً للشعب الفلسطيني بأكمله دون استثناءٍ، ناهيك عن الإنجاز الذي تجاوز حدوده القُطْرية الفلسطينية ليصب في طاحونة خط المقاومة والتحرير في عموم الإقليم.
ولعل من أهم منجزات «غرفة العمليات المشتركة»، الوحدة الوطنية التي تشكلت حولها في الشارع الفلسطيني، والتي شملت السواد الأعظم من أبناء الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948 وعام 1967 بالإضافة إلى فلسطينيي الشتات، وهذا ليس بالأمر الثانوي في الديناميكيات الصالحة لتأسيس وحدةٍ وطنيةٍ، فهو يدلِّل على كون الإنجازات الميدانية في مواجهة الاحتلال مازالت العامل الأساس لدعم قيام وحدة صفٍ فلسطينيةٍ حقيقيةٍ ونافعةٍ.

نجد إذاً في التفاهمات الميدانية مساراً ناجعاً للوصول إلى الوحدة الوطنية يمكن التأسيس عليها، ويمكن بعد ذلك تطويرها لإنشاء جبهة تحريرٍ شاملةٍ، فالميدان يَفرِز بين الوطني والمتخاذل إن لم نقُل العميل، ويُغلِّب أولوية المعركة على خلافات الحكم، وهذا هو المطلوب، حيث إن الفلسطينيين مازالوا يعيشون مرحلة التحرير، وبعد ذلك فليخوضوا في خلافات الحكم كما يشاؤون.
في مثل هذه الوحدةٍ الوطنيةٍ، يكون لدى كل الفصائل في الساحة الفلسطينية خيار اللحاق برَكْب التحرير، وإلا تجاوزهم الزمن كما تجاوز غيرهم في تجارب شعوبٍ أخرى خاضت معركة التحرير.

وأخيراً، من نافلة القول إن المحازبين كأفراد هم أيضاً مخيَّرون كما الفصائل التي ينتمون إليها، إما بين اللحاق برَكْب التحرير وإما بين الإصرار على الاستمرار في جريمة التخابر مع العدو المسماة زوراً «التنسيق الأمني»، وحينها لا ملامة إن نُعِتوا بما يستحقون وعوملوا على أساسه.

Red Alert in Iraq… Time for the U.S. to Decide

Visual search query image
amro@amrobilal.net), is an independent Palestinian writer and Political researcher. He writes for various Arabic news outlets, some of which are Al-Akhbar newspaperAl-Mayadeen Satellite News ChannelArabi 21, and Rai Al-Youm, and UPROOTED PALESTINIANS

July 15, 2021

By Amro Allan

‘President Joe Biden may be nearly done with America’s two-decade military involvement in Afghanistan, but another nearby war zone, where U.S. troops have been based for almost as long, is threatening to become a major thorn in the White House’s side: Iraq’, says Foreign Policy in its Situation Report on July 8, 2021, entitled ‘Red Alert in Iraq’. This comes after two fairly heated weeks in Iraq and Syria, where an escalation in the resistance groups operations against American troops was noticeable, both in frequency and in nature.

For instance, on Wednesday, July 7, 14 rockets hit Ain al-Assad Air Base, the largest military installation in Iraq housing U.S. troops, wounding at least two American soldiers. Another suicide drone attack, a day before, targeted U.S. forces based in Erbil airport, not far from where the U.S. consulate is located. Also, there were multiple improvised explosive device (IED) attacks against convoys transporting U.S. military logistic supplies, that took place in various Iraqi towns and cities in recent weeks.

Meanwhile, in Eastern Syria, U.S. occupation forces were busy fending off suicide drone and rocket attacks targeting al-Omar oilfield and nearby areas. Al-Omar oilfield is the largest in the country, and It is invested with both the U.S. forces and their collaborators  the Syrian Democratic Forces (SDF).

No American soldiers have been killed in these recent intense activities in Iraq and Syria. However, Michael Knights, a fellow at the Washington Institute for Near East Policy, explains ‘It’s already very intense. The strikes aren’t killing people, but they could, easily, if they want them to’, and he adds ‘The missile defences are quietly working quite well. But what we haven’t seen is determined efforts to kill Americans’.

Many analysts consider this escalation a retaliation for the second round of U.S. airstrikes under Biden’s administration on June 27. Those airstrikes used the pretext ‘Iran-backed militia’, although in reality, they targeted a static Iraqi-Syrian border position of the Iraqi security forces (Popular Mobilisation Forces) under Iraqi Prime Minister Mustafa al-Kadhimi, killing four members of brigade 14 of the PMF.

While agreeing with this analysis in principle, I believe widening the scope would put the latest events in the broader context they deserve.

It is quite clear that Biden’s administration’s main foreign policy strategy, and indeed the U.S. establishment’s attitude in general of late, is to concentrate its overseas efforts on opposing the rise of China and Russia:  what Biden dubbed defending and strengthening democracy. This focus shift first took shape during Obama’s days in 2012 with his (unsuccessful) ‘Pivot to Asia’ policy and it has remained in principal a U.S. foreign policy objective since. But this shift naturally requires an improved allocation of U.S. resources.

Thus, when Biden came to power, he followed in the steps of his two predecessors in aiming to disengage from the ‘Middle East’ and West Asia in general as much as possible.

As the QUINCY Paper No. 7 entitled ‘Nothing Much to Do: Why America Can Bring All Troops Home From the Middle East’, published on June 24, 2021, poses the question ‘Three successive American Presidents — Barack Obama, Donald Trump, and Joe Biden — have pledged to end the post 9/11 wars and reunite U.S. soldiers with their families.

Yet, fulfilling that pledge has proven tougher than expected. Do U.S. interests in the region require so much of the U.S. military that full-scale withdrawals are not feasible?’. The paper argued that ‘the United States has no compelling military need to keep a permanent troop presence in the Middle East.

The two core U.S. interests in the region — preventing a hostile hegemony and ensuring the free flow of oil through the Straits of Hormuz — can be achieved without a permanent military presence. There are no plausible paths for an adversary, regional or extra-regional, to achieve a situation that would harm these core U.S. interests. No country can plausibly establish hegemony in the Middle East, nor can a regional power close the Strait of Hormuz and strangle the flow of oil. To the extent that the United States might need to intervene militarily, it would not need a permanent military presence in the region to do so’.

The U.S. withdrawal from Afghanistan, to be presumably fully completed by September 2021, was the first manifestation of Biden’s drawdown policy from West Asia. However, when it came to Iraq and Syria, the equations were quite different.

Despite Biden’s pledge to return to the JCPOA in his election campaign, there was an assessment that was widely spread between Iranian officials which says that the Biden administration would capitalise on Trump’s ‘maximum pressure’ policy to extract concessions from Iran, before re-joining the JCPOA. Those concessions are related to two aspects:

  • Change in Iran’s foreign policy, especially its support for resistance groups in the region. This is to  the benefit of the Zionist entity, which remains a core influence on U.S. foreign policy.
  • Imposing restrictions on Iran’s ballistic missiles programme.

This American approach became apparent after Biden took office, and during the latest Vienna talks to salvage the nuclear deal. However, contrary to Biden’s false assumptions, the Americans found out that Iran will not give them any concessions, and that it meant what it said when Ayatollah Sayyid Ali Khamenei stated back in 2015 ‘We negotiated with the U.S. on the nuclear issue for specific reasons. The Americans performed well in the talks, but we didn’t and we won’t allow negotiation with the Americans on other issues’.

This has put the Americans in a quandary. Biden found that he could not withdraw from Iraq and Syria without getting guarantees from Iran and the Axis of Resistance related to the security of the Zionist entity, as the Axis of Resistance will never offer any guarantees at the expense of the Palestinians’ inalienable rights. Nor could Biden maintain the same level of American involvement in the ‘Middle East’ indefinitely. As this would be at the expense of the main U.S. foreign policy strategy, “Facing the Chinese challenge”, according to the terminology the  U.S. uses.

Furthermore, this American quandary has deepened after the battle of the ‘Sword of Jerusalem’ exposed many of the Zionist Entity’s [Israel]  weaknesses tactically and strategically in the face of the Axis of Resistance.

Based on this overview, we can expect a fairly heated summer for the U.S. occupation forces in the region, as from the Axis of Resistance point of view, the negotiations for the American withdrawal from the ‘Middle East’ and West Asia in general are not open-ended.

And it seems that the U.S. needs a nudge to decide whether: to start a meaningful and peaceful drawdown, with minimal losses; or risk a new ‘Middle East’ all-out war by trying to impose its sovereign will on the whole region.

And I believe, based on the Americans’ experience of the past two decades, that the consensus within the U.S. institutes is that the latter option would be highly costly. Not to mention that based on the current balance of powers in the region, as we read them, the outcome is not guaranteed to be in the favour of the U.S., nor in the favour of  “Israel” its closest ally.

%d bloggers like this: