عن فكرة الاعتراف الأممي بدولة فلسطينية

2024 أبريل 24


عمرو علان

أعاد طرح قضية الاعتراف الأممي بدولة فلسطينية فتح النقاش بين الأوساط الفلسطينية والعربية حول ما إذا كان هذا الأمر يخدم النضال الفلسطيني من أجل التحرير، فماذا يمكن القول في هذا المقام؟

عاد إلى الواجهة في الأسابيع القليلة الماضية الحديث عن منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، فعلى وقع عملية “طوفان الأقصى” وما أحدثته تلك العملية المجيدة من تغيير في عموم مشهد الصراع العربي-الإسلامي الصهيوني لمصلحة الحق الفلسطيني، بدأت بعض الدوائر الغربية وغير الغربية بتداول هذه القضية بصورة أكثر جدية من ذي قَبْل، إذ نشأ في إثر ذلك حراك دبلوماسي نشط حولها، كانت ذروته تقديم الجزائر، الخميس 18 نيسان 2024، مشروع قرار لمجلس الأمن يدعو إلى قبول عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة.

وقد حظي مشروع القرار بتأييد 12 عضواً من أصل 15، وامتناع كل من بريطانيا وسويسرا عن التصويت، فيما عارضته الولايات المتحدة مستخدمةً حق النقض “الفيتو”، ليسقط بذلك مشروع القرار كما سقطت مشاريع قرارات كثيرة من قبله.

مهما كان الحال، فقد أعاد طرح قضية الاعتراف الأممي بدولة فلسطينية فتح النقاش بين الأوساط الفلسطينية والعربية حول ما إذا كان هذا الأمر يخدم النضال الفلسطيني من أجل التحرير، فماذا يمكن القول في هذا المقام؟

قَبْل كل شيء، يجب تسجيل أن نحو 3 عقود من مسار “أسلو” الذي اتخذته منظمة التحرير الفلسطينية، وأن التنازلات عن الثوابت الوطنية التي قدمتها، وأن الاستجداء المتكرر لمحمود عباس وتنسيقه الأمني الذي بات يرقى إلى مستوى العمالة الوطنية، لم يؤدِ إلى تحقيق مطلب السلطة بطرح قضية قبول عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، فيما أفضى فعل المقاومة الفلسطينية المسلحة الميداني في 7 تشرين الأول إلى تحريك هذه القضية في مجلس الأمن، من دون أن يكون ذلك حتى أحد مطالب المقاومة!

لقد تركزت النقاشات قبيل جلسة مجلس الأمن، في الغالب الأعم، حول المفاضلة بين احتمالين: أن يصدر قرار أممي يعترف بالدولة الفلسطينية من دون تحديد حدودها، ويترك هذه القضية للتفاوض، وأن يصدر اعتراف أممي بالدولة الفلسطينية يحدد بوضوح حدودها بحسب القرار الأممي 242، أي على حدود الأراضي المحتلة 1967. وقد تبنى البعض وجهة نظر تقول إنَّ هذا الخيار الثاني هو الأفضل، لكونه يحسم قضية الجدل القانوني حول الترجمة الدقيقة للعبارة التي وردت في القرارات الأممية ذات الشأن، فيما إذا كانت “أراضي متنازعاً عليها” أم “الأراضي المتنازع عليها”، ويضيف أصحاب هذه الرؤية بأن لا معنى لاعتراف أممي بدولة فلسطينية لا ينص على حدود الأراضي التي تقع تحت سيادتها.

من الواضح أن هذا النقاش برمته يصلح أن يكون بين مَن كانت حدود مطالباته سقف “أوسلو”، ومَن قد تنازَل بالفعل، أو رضي بالتنازل عن نحو 80% من الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة، لا بين مَن يتمسك بالثوابت الإسلامية والعربية والفلسطينية في فلسطين التاريخية بصفتها وقفاً إسلامياً لا يجوز بحال التفريط بحبة تراب واحدة منه، ومَن يقرأ المشروع الصهيوني في فلسطين على حقيقته بصفته امتداداً للهيمنة الاستعمارية القديمة على عموم أوطاننا، وبكونه مشروعاً استيطانياً توسعياً إحلالياً.

وإذا كان النقاش المتعلق باللجوء للأمم المتحدة ينصب على الطعن بأصل مشروعية وجود الكيان الصهيوني، وصلاحية عضويته في الأمم المتحدة، بناءً على عدم تلبيته الشروط التي قرنها قرار الجمعية العامة 181 بالاعتراف به، أو يقتصر على مطالبة مجلس الأمن بإجبار الاحتلال على إنهاء احتلاله الأراضي المحتلة 1967 من دون قيد أو شرط، ومن دون التطرق إلى موضوع الدولة وحدودها، لكان يمكن التعاطي مع هذه الأفكار من حيث المبدأ. أما ما دون ذلك، فيعد أفكاراً مبنيةً بالأساس على التفريط في الثوابت، ودعوةً للسير مجدداً في مسارات “أوسلوية” تم تجريبها وثبت عقمها، بل ثبتت كارثيتها على مشروع التحرر الفلسطيني.

لقد جاء “الفيتو” الأميركي الأخير ليؤكد أنَّ مسار التحرر الوطني واستعادة الحقوق لا يمر من خلال ما يسمى “المجتمع الدولي”، وليعيد تثبيت فكرة أن النظام العالمي بصورته الراهنة منحاز كلياً إلى الغرب الاستعماري، وليس معداً لإحقاق الحق ولا لنصرة الشعوب المستضعفة، فكيف إذاً يقوم الأميركي بإسقاط مشروع يدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطينية رغم حديثه الجديد القديم عن حل الدولتين؟

يخوض اليوم الشعب الفلسطيني، مدعوماً بحلفاء إقليميين، ملحمة “طوفان الأقصى” التي لن يكون بعدها كما قبلها، والتي بدأت برسم معالم مشرق عربي مختلف وتبديل ملموس لتوازنات المنطقة بين محورين؛ محور قوى التحرر العربي والإسلامي ومحور صهيوأميركي. 

لذا، الأجدى أن تنصب كل الجهود الممكنة على كسب المعركة المحتدمة على مستوى الإقليم حالياً، لا الدخول في متاهات سياسية، الأرجح أن الغرض منها هو تفريغ 7 تشرين الأول من مفاعيله عبر إيهام الفلسطينيين بمشاريع لا تختلف في جوهرها عن مسار “أوسلو” ولن يكون مصيرها بأفضل منه، بعدما فشل العدو حتى اللحظة في إحباط آثار “طوفان الأقصى” ميدانياً.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

The Occupation is Between the Edges of Two Swords, Which One to Choose?

Sunday, October 8, 2023
Amro Allan
Al-Mayadeen,

On October 7, 2023, the Arab and Islamic nation woke up to news of an earthquake (in the strategic sense). The Israeli occupation army was delt a brutal blow, and the media was filled with pictures of the Palestinian resistance forces storming the occupation military barracks and settlements by land, sea, and air.

The Zionist Entity apparatus was completely paralyzed for several hours due to the shock, and the occupation army brigades located on the borders of the Gaza Strip suffered an almost complete collapse during the first few hours of the start of the “Al-Aqsa Flood” battle, which was announced by Muhammad Al-Deif , Commander-in-Chief of the Palestinian Resistance .

The events of the first day of the battle confirmed that the ” balance of power ” has indeed changed, and it is no longer completely in the interest of the Zionist Entity in the face of the armed Palestinian resistance and the forces of Arab and Islamic liberation in the region as it was in the past. But, what next? And what are the occupation’s options in the face of what it is facing?

Until now, the Palestinian resistance forces have been able to enter seven military barracks of the occupation army, and they have also taken control of three settlements, while violent clashes are still taking place in other settlements, according to the Israeli media. The Palestinian resistance sources said though that they are engaged in strong clashes in twenty-five settlements around the Gaza Strip which seems closer to the truth.

However, regardless of the exact number of settlements Which the Palestinian resistance forces entered, the mere entry of those settlements and the military barracks (even if the resistance factions cannot remain in them) is a strategic achievement that ushers a new era in the Palestinians’ struggle for liberation. And after the scene of its catastrophic collapse, the occupation army cannot regain its lost prestige except by entering Gaza by land and eliminating the presence of the Palestinian resistance factions there.

Accordingly, the occupation finds itself faced with two options – the most bitter – as follows:

One, to suffice with an air bombardment campaign to which the resistance factions in the Gaza Strip are accustomed, the results of which will be the same as its predecessors and will not achieve any strategic result that changes the reality. But this time, there are dozens of prisoners of occupation soldiers in the grip of the Palestinian resistance, and the occupation will not be able to recover them by launching an air campaign, no matter how strong it is, and that will conclusively confirm the occupation’s defeat in the current battle.

Two, to try to storm the Gaza Strip by land. However, this action entails great risks; if the occupation had guaranteed the success of the ground invasion of the Gaza Strip, it would have done this in previous battles and rounds of escalation. Not to mention the message that Hezbollah sent through the recent missile bombardment on Shebaa Farms, and what the Chairman of the Executive Council of Hezbollah said that Hezbollah is not neutral in the battle of “Al-Aqsa Flood”. This contains a threat that if the occupation decides to escalate, the battle of the “Al-Aqsa Flood” can turn into a wider regional war that both the Zionist Entity and the United States of America fear.

The battle of the “Al-Aqsa Flood” is still in its infancy, and it is likely that it will continue for days or weeks, with a possibility that it will develop into a decisive regional war. However, the Palestinian resistance has achieved victory from the first strike. Because even if the occupation can re-impose its complete control over the Settlements entered by the Palestinian resistance, this will not be considered a victory for the occupation. This is because these settlements are no longer a suitable place for the settlers to occupy, as they have become within the reach of the Palestinian resistance.

As for the other two options, the first is weak and does not serve the purpose, while the second option carries with it the possibility of the complete collapse of the Zionist Entity.

In any case, the next few days remain full of surprises, as the Palestinian resistance surprised friend and enemy alike with their unanticipated attack on October 7, and only the leaders of the “Joint Operations Room” in the Gaza Strip and the region are the ones who control the events of the field.

احتمالية الحرب الإقليمية الشاملة بين 3 ضوابط

2023, 30 أيلول

هل فعلاً من مصلحة قوى التحرر العربي والإسلامي انتظار مجيء التسويات الدولية الكبرى لتكرار تجربة 1922 سيئة الذكر؟

الحروب الإقليمية.

عمرو علان

رغم انشغال العالم بالحرب العالمية الثالثة المنضبطة الدائرة على الأراضي الأوكرانية، التي تحاول من خلالها القوى الدولية العظمى والقوى الفاعلة ترسيم توازنات النظام العالمي لسنين مقبلة، والتي غطت تداعياتها بقدر كبير على مجريات الأحداث في منطقتنا التي لا تزال الأكثر اشتعالاً منذ عقود، فإن حقائق الجغرافيا وعقَد المواصلات البرية والبحرية عادت لتفرض حضور منطقة المشرق العربي وامتداداته في منطقة غرب آسيا كساحة رئيسة في أي عملية تحول جذري في التوازنات العالمية. 

يمكن قراءة عودة اهتمام القوى الدولية بمنطقة المشرق العربي ضمن معركة صياغة عالم ما بعد الأحادية القطبية في أكثر من مفصل مؤخراً، كان منها حضور الصين المفاجئ كراعٍ للتفاهم السعودي الإيراني في آذار/مارس 2023. 

كذلك، كان من تلك المظاهر إعادة نشر مقاتلات أميركية متطورة في المشرق العربي مؤخراً، بصرف النظر عن أن إعادة الانتشار تلك لم تكن مؤشراً على تحول في الاستراتيجية الأميركية العامة المبنية على عدم التورط في حرب جديدة في المنطقة. 

أخيراً، جاءت زيارة الرئيس بشار الأسد والوفد السوري المرافق لبكين في أيلول/سبتمبر 2023، بناءً على دعوة من الرئيس الصيني، وذلك لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الآسيوية، بحضور نحو 12 من رؤساء الدول الآسيوية، ولتوقيع الرئيسين الصيني والسوري على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.

وقد قرأ البعض في تلك الزيارة رفيعة المستوى سعياً لتغيير المشهد الجيوسياسي الإقليمي، ونزعة صينية متزايدة لتحدي الهيمنة الأميركية التقليدية في المنطقة، لكن ضمن المحددات العامة للسياسة الخارجية الصينية التي تتسم بالحذر المدروس وبالتقدم البطيء نسبياً في المحافل الدولية.

يأتي ازدياد الحضور الصيني في ساحة المشرق العربي، لينضم إلى مجموع المؤثرات الدولية الأخرى القائمة في المنطقة أصلاً، فقد استعادت روسيا موقعها كمؤثر رئيس في مجرى أحداث المنطقة خلال الأعوام القليلة الماضية، لتصبح على قدم المساواة مع الحضور الأميركي المستمر والتقليدي في المنطقة من جهة التأثير. 

وبهذا، صارت هذه العوامل الدولية مجتمعة تشكل واحداً من 3 ضوابط مفصلية تتحكم في توقيت الحرب الإقليمية الشاملة بين محور المقاومة والكيان المؤقت، بحسب ما يرى هذا المقال.

تعد فكرة الحرب الإقليمية أو ما يسميه البعض الانتقال إلى مرحلة الهجوم المعاكس الشامل من أكثر المواضيع تداولاً في الصالونات السياسية هذه الأيام، فالتساؤلات تدور عما إذا كانت هناك في الأفق حرب إقليمية مقبلة؟ ومتى تقع؟ وكيف ستكون طبيعتها؟ 

ولا يمكن واقعياً الجزم بالإجابة عن هذه التساؤلات، ولكن من الممكن محاولة حصر العوامل التي تشكل الإطار الحاكم لاحتمال نشوب حرب إقليمية شاملة، ووضعها ضمن 3 ضوابط أساسية: اثنان يدفعان نحو الحرب، وثالث آخر مثبط، على النحو الآتي:

الضابط الأول: اختلال موازين القوى 

تشير الوقائع وطريقة تعاطي الأطراف الإقليمية مع الأحداث إلى حصول تبدل ملموس في موازين القوى التي كانت تحكم الإقليم لعقود، فإحجام الكيان المؤقت عن شن حرب واسعة على حزب الله في لبنان منذ 2006 من أجل القضاء على قوته أو تحييد خطره على أقل تقدير، وذلك رغم مراكمة الحزب المطردة لعناصر القوة العسكرية التي وصلت فيما وصلت إليه إلى حد امتلاكه الصواريخ الدقيقة وإنشائه “مطار الجبور” العسكري في جنوب لبنان على بعد 20 كيلومتراً فقط من الحدود مع فلسطين المحتلة. 

يُضاف إلى ذلك عدم قدرة “جيش” الاحتلال على اجتياح قطاع غزة برياً لإنهاء وجود فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة فيه، بل على العكس، باتت الفصائل الفلسطينية تقيم المناورات العسكرية تحت مرأى ومسمع من “جيش” الاحتلال من دون أن يقوم بأي رد فعل يذكر، وذلك بسبب مجموعة حسابات معقدة عن الخسائر والأرباح لم يكن الكيان المؤقت ليقيم لها بالاً في الماضي القريب.

لقد جاءت حادثة خيمة حزب الله التي نصبها في مزارع شبعا لتختصر صورة الديناميكيات الجديدة التي باتت تحكم محدودية قدرة الكيان المؤقت على توظيف “جيشه” في مواجهة قوى التحرر العربي والإسلامي، ناهيك بعدم قيامه بعملية عسكرية ضد المشروع النووي الإيراني رغم تهديداته المتكررة بذلك، وحصره المواجهة في هذا المجال بالعمليات الأمنية والاستخباراتية، وذلك تفادياً لحرب لا يستطيع التنبؤ بمداها ونتائجها.

لطالما كانت حسابات الأطراف المتقابلة لتوازنات القوة فيما بينها العامل الأول المؤثر في نشوء الحروب في التجارب التاريخية عموماً، ويبدو أن أركان محور المقاومة باتت تشعر بفائض قوة يمكنها من الضغط على العدو في أكثر من ساحة وتجاوز خطوط كان يَعدها العدو حمراً في الماضي. كان هذا يجري تحت سقف رسمته لنفسها قوى محور المقاومة -أقله حتى اللحظة- يقضي بعدم الدخول في حرب مفتوحة في الإقليم ضمن معادلة “لا نريد الحرب، لكننا لا نخشاها”.

لكن لأي مدى يمكن أن يستمر اللعب على خطوط التماس من دون خروج الأمر عن دائرة التحكّم؟ كيف إذا كان تبدل موازين القوى لا يمكن رصده فعلياً من دون اختباره في الميدان بصورة عملية من خلال الحرب، ناهيك بإمكانية تبدل معادلة محور المقاومة طبقاً للظروف لتغدو: “نريد الحرب ولا نخشاها”؟

الضابط الثاني: صلابة مواقف الأطراف

ترى قوى التحرر العربي والإسلامي في المدى المتوسط إمكانية واقعية لإزالة الكيان المؤقت الذي تعده عنصراً أساسياً في إدامة منظومة الهيمنة الغربية التي تعرقل التنمية في المنطقة واستقرارها، حالها في ذلك حال باقي دول “الجنوب العالمي” التي ترزح تحت الهيمنة الغربية. 

تتجلى الشواهد على ذلك في صراع امتد لعقود، كان آخرها مثلاً رفض الجمهورية الإسلامية القاطع لعروض قدمتها لها بعض الدول، تقضي بمقايضة تخفيف الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة على قواتها في الأراضي السورية، في مقابل تخفيف الدعم الذي تقدمه لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، ولا سيما في ساحة الضفة، ما عدته الجمهورية الإسلامية طرحاً يتناقض مع طبيعتها وأسس تكوينها العقائدي.

مواضيع متعلقة

وكان رد محور المقاومة العملي في المقابل البدء بنقل بعض المنشآت العسكرية الإيرانية في سوريا إلى أماكن محصنة تحت الأرض، في محاولة لتقليص آثار الغارات الجوية الإسرائيلية، كما رشح من بعض المصادر.

كما أن خطوة إنشاء حزب الله “مطار الجبور” العسكري بالتعاون مع الجمهورية الإسلامية جاءت في السياق ذاته، إذ يمكن استخدامه -إضافة إلى كونه منصة هجوم على مواقع الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة- كمهبط لطائرات نقل عسكرية متوسطة الحجم إذا اقتضت الحاجة ذلك، ما يؤمن لحزب الله خط إمداد آخر إلى جانب الخط البري الواصل عبر الأراضي السورية، متجاوزاً بذلك تهديد الغارات الإسرائيلية على شحنات السلاح المزعومة.

أما فلسطينياً، فمِن الواضح أن فصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية ليست في وارد الدخول في تسويات مع الكيان المؤقت، منطلقةً بذلك من تكوينها العقائدي، ومن تجربة خدعة السلام ومسار “أوسلو” الذي انعكس ضرراً كبيراً على مسار التحرير. ويتجلى هذا المسار في تركيزها على تصعيد العمل المقاوم في الضفة وتطويره، بما تمثله الضفة من ساحة اشتباك استراتيجية مع الاحتلال.

نجد في المقلب الآخر أن الكيان المؤقت لا يستطيع التراجع طوعاً، ولو خطوة واحدة، إلى الوراء، فأي تراجع من ناحيته سيعد ضربة جديدة تقربه من تفككه، ناهيك بكينونته الاستيطانية والإحلالية وطبيعته الوظيفية في المنطقة اللتين تحولان دون تحوله إلى جسم منسجم مع محيطه الإقليمي.

لا يحتاج هذا الأمر إلى كثير من التدليل؛ فيكفي النظر إلى مخططاته المعلنة الرامية إلى تهجير العدد الأكبر من فلسطينيي الضفة وأراضي فلسطين 1948 على حد سواء، وعزمه الصريح على تهويد القدس، وهدم المسجد الأقصى، وتهديد الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في فلسطين المحتلة. كل هذا برغم ما قدمته له السلطة الفلسطينية مع دول التطبيع من تنازلات ترقى إلى مستوى الخيانات الوطنية، ورغم ما أبدته هذه الأطراف أمامه من انبطاح وخنوع.

إذاً، طبقاً لهذا الوضع الجيوسياسي الهش بين الأطراف المتقابلة، ستبقى خطوط التماس غير مستقرة، وستزداد مع الوقت احتمالات اشتعال الجبهات، إذ لن يستقر الإقليم إلا بإحدى حالتين: 

– تسوية كبرى لا تلوح في الأفق، فكل ما شهدته المنطقة في العامين أو الأعوام الثلاثة الماضية كان مجرد تسويات موضعية أشبه ما تكون بالمسكنات التي تؤخر الانفجار الكبير.

– صدام إقليمي ترسم نتائجه شكل الإقليم المقبل وتوازناته، وهذا ما يبدو أقرب إلى الواقع حتى حينه.

الضابط الثالث: العامل الدولي

يعدّ الضابطان الأول والثاني دافعين نحو وقوع الحرب الإقليمية الشاملة، فيما يؤدي العامل الدولي دور الضابط المثبط في هذه المعادلة المتشابكة، إذ لا يمكن تجاهل تأثير الولايات المتحدة القوي في المنطقة واستراتيجيتها المبنية على منع تفجر الأوضاع في الإقليم في هذه الحقبة. 

وقد تجلت تلك الاستراتيجية في أكثر من محطة، كان منها على سبيل المثال لا الحصر الموقف الأميركي الضاغط نحو التهدئة في معركة “سيف القدس” عام 2021، والوساطة التي قادتها لإبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين الدولة اللبنانية وكيان الاحتلال 2022، ضمن سياسة تفكيك الألغام القابلة للانفجار في المنطقة عبر التسويات المحدودة والموضعية، إضافة إلى رفضها المستمر للسير وراء الضغوط الإسرائيلية الداعية إلى مهاجمة الجمهورية الإسلامية عسكرياً على خلفية المشروع النووي الإيراني. 

أما بالنسبة إلى روسيا، التي بات لها وجود إقليمي لا يقل أهمية عن الحضور الأميركي، فهي ليست معنية باشتعال الأوضاع في المنطقة أو بأن تكون جزءاً مباشراً في الصراع العربي-الإسلامي الإسرائيلي.

يبدو هذا واضحاً من سلوكها في التغاضي عن الغارات الإسرائيلية المستمرة على الأراضي السورية، أقله حتى هذه اللحظة، فروسيا بغنى عن الدخول في صدام مع الحليف الأول لأميركا والغرب عموماً في المنطقة، إضافة إلى علاقاتها مع الكيان المؤقت التي تضعها بالحسبان ضمن استراتيجياتها العامة.

ولعل روسيا تطمح إلى أداء دور عراب “السلام” في المستقبل بين الكيان المؤقت ودول المنطقة، ذلك بمعزل عن مدى صحة هذه القراءة الروسية للوضع الإقليمي وفرص نجاحها.

يبقى الحضور الصيني المتزايد والمستجد في الإقليم الذي لا بد من أنه سيكون من ضمن أولوياته تهدئة الأوضاع، وذلك بهدف تأمين بيئة آمنة للاستثمارات الصينية التجارية في الإقليم ومشروعها الاستراتيجي “الحزام والطريق”.

يشكّل العامل الدولي ثقلاً كبيراً لا يستهان به ضمن معادلة الضوابط الثلاث الحاكمة لنشوب حرب إقليمية شاملة، لكن ما دام العامل الدولي لم يرتقِ إلى مرتبة القدرة على عقد تسويات كبرى في المنطقة، فإنه سيظل عامل تثبيط مؤقتاً من دون أن يصل إلى مستوى تحقيق الاستقرار الدائم، وهذا ما يرجح أن تكون عليه الحال. 

ضابط إضافي؟

يرى البعض في كون الطبقة السياسية الحاكمة في الكيان حالياً، التي يسيطر عليها المستوطنون والصهيونية الدينية الأكثر تطرفاً، عاملاً آخر يدفع نحو الحرب. هذا التقدير يحمل الكثير من الصحة في طياته بقدر أن رعونة وحمْق الطبقة الحاكمة في الكيان يمكن أن يدفعاها إلى خطوة في الأراضي المحتلة تؤدي إلى إشعال الجبهات، لكن مع هذا، يظل كيان الاحتلال محكوماً بمؤسسات متجذرة ترتبط بأجهزة “الجيش” والاستخبارات التي تصوغ تقديراتها وتوصياتها عادة بناءً على حقائق الميدان وبحِرفية.

ولا يمكن بحال تجاهل التأثير الأميركي الوازن في قرارات الكيان المرتبطة بشن الحروب، ويعد الحد من حجم النفوذ الأميركي في الكيان وتأثيره جزءاً من المعركة الداخلية المحتدمة بين المعارضة وحكومة الاحتلال هذه الأيام، لكن هذه المعركة لم يتم حسمها بعد، والأرجح ألا يكون هناك أي تبدل لمستوى النفوذ الأميركي على قرارات الكيان لأسباب لا محل لنقاشها هنا.

خاتمة

تعيش المنطقة العربية والإسلامية حالة من عدم الاستقرار منذ 1922، مما اصطلح عليه ديفيد فرومكين عبارة “سلام ما بعده سلام”، إذ دخلت المنطقة منذ ذاك الحين مرحلة شاذة تتنافى مع تكوينها العمراني وعمقها التاريخي الذي جعل منها منطقة مشتعلة على الدوام، وقنبلة موقوتة تنتظر الانفجار متى توفرت الظروف الملائمة لذلك، وليس هناك سبيل موضوعي كي تستعيد المنطقة استقرارها -أقله النسبي- إلا بخروجها من الحالة الشاذة التي تعيشها منذ نحو قرن من الزمن وإزالة الكيان المؤقت الذي يعد أحد أبرز أسباب إدامة عدم الاستقرار في المنطقة، بما يمثله من امتداد للوجود الغربي الاستعماري داخل الإقليم.

إذا كانت حال المنطقة تحاكي قنبلة موقوتة، فإن مجموع العوامل والظروف الإقليمية في هذه الحقبة تقترب أكثر فأكثر لتوفير صاعق التفجير.

يسابق الزمن هذه الأيام بين أمرين؛ نضوج ظروف التسويات الكبرى الدولية في معركة رسم عالم ما بعد الأحادية القطبية التي ستنعكس حتماً على المنطقة، بصرف النظر عن رضا الأطراف، ونضوج الظروف تماماً لحرب إقليمية شاملة أو وقوع خطأ في التقدير من أحد الخصوم الإقليميين يخرِج الأوضاع عن السيطرة، فأي الظروف ستنضج أولاً، علماً بأن التسويات الكبرى الدولية ليست قريبة، وطريقها ما زال متعرجاً ومليئاً بالمفاجآت؟

يظل السؤال العالق الذي يؤرق بال الكثيرين: هل فعلاً من مصلحة قوى التحرر العربي والإسلامي انتظار مجيء التسويات الكبرى الدولية لتكرار تجربة 1922 سيئة الذكر؟

ن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

لماذا يجب أن تقتدي الفصائل برفض الجهاد الإسلامي المُشاركة في اجتماع القاهرة؟


Jul 28, 2023

كاتب فلسطيني

عمرو علان

في خضم معركة مخيَّم جنين الأخيرة في 3 تموز 2023، وبينما كان مجاهدو “كتيبة جنين” يخوضون معركة صمودٍ بطوليةٍ، كتفًا إلى كتفٍ مع باقي فصائل المقاومة في الضفَّة في مواجهة عدوانٍ واسعٍ على المخيَّم، وبينما كانت تقف في الأثناء قوات أمن السلطة الفلسطينية، والسلطة بصورةٍ عامةٍ، موقف المتفرِّج مما يجري في المخيَّم، وجَّه رئيس السلطة، محمود عباس، دعوةً لأمناء الفصائل الفلسطينية لأجل عقد اجتماعٍ طارئٍ “للاتفاق على رؤيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ وتوحيد الصف لمواجهة العدوان الإسرائيلي والتصدي له” كما ورد في البيان الصادر عن رئاسة السلطة.

قرأ البعض في هذه الدعوة محاولةً لامتصاص غضب الشارع الفلسطيني بسبب مواقف السلطة المشينة أثناء العدوان على المخيَّم، لكن هل بالفعل أحاطت تلك القراءة بجميع أهداف هذه الدعوة وأبعادها؟

لم يكن اختباء حمَلة السلاح من منتسبي أجهزة السلطة الأمنية في بيوتهم وداخل مقراتهم الأمنية خلال العدوان بالأمر الجديد، ولا كان اختفاؤهم كليًا من ساحة القتال أمرًا خارج السياق، فإن مشروع السلطة العلني يقوم برمته على قمع أي حراكٍ مقاومٍ جديٍ في الضفَّة، وعلى حماية الاحتلال ومستوطناته من جميع أعمال المقاومة ذات الجدوى، فيما تسميه السلطة “حفظ الأمن والاستقرار”، ولقد سخَّرت لأجل ذلك جل طاقاتها في إنجاح “التنسيق الأمني” مع الاحتلال دون استحياءٍ، اللهم خلا تصريحاتٍ كلاميةٍ بين الحين والآخر عن وقف “التنسيق الأمني” دون تطبيق شيءٍ منها على أرض الواقع، إذ ترى السلطة في “العنف الثوري” والمقاومة المسلَّحة ضد الاحتلال تهديدًا على اصل فكرة وجودها ودورها الوظيفي، أو بصيغةٍ أخرى، خطرًا على سرابٍ اسمه “مشروع السلام” الذي لازالت تحلم به.

لذلك يمكن الجزم بأن هدف إنهاء حالة المقاومة النامية في الضفَّة واجتثاثها من جذورها، قد بات مشروعًا موحَّدًا للسلطة والاحتلال معًا.

لعل محاولة قراءة دعوة عباس أمناء الفصائل للاجتماع من هذه الزاوية يعد اكثر انسجامًا مع واقع الحال، إذ إن “توحيد الصف لمواجهة العدوان الإسرائيلي والتصدي له”، كما ذَكَر بيان رئاسة السلطة، لم يكن يلزمه اجتماعاتٍ فصائلية، لا سيما في أثناء ذروة اشتعال المعارك على الأرض، فسبيل ذلك معروفٌ إن صدقت النوايا، بل الأرجح أن ما جاء في الشطر الأول من البيان، الذي قال “الاتفاق على رؤيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ”، كان الدافع الحقيقي من وراء دعوة السلطة تلك في هذا التوقيت.

لقد قال عباس في كلمته التي ألقاها خلال زيارته للمخيَّم عقب العدوان، بأن السلطة الفلسطينية “سلطةٌ واحدةٌ ودولةٌ واحدةٌ، قانونٌ واحدٌ وأمنٌ واستقرارٌ وأمانٌ واحدٌ”، ليضيف بعد ذلك بأنه سيقص اليد التي تمتد إلى وحدة الشعب وأمنه واستقراره من ضلوعِها، ملمحًا بهذا الكلام إلى الفصائل المسلَّحة في المخيَّم، التي تعدها السلطة خارجةً على القانون.

يدعم هذا الفهم لفحوى كلام عباس ما قامت به السلطة من حملة اعتقالاتٍ جديدةٍ، استهدفت بها كوادر “سرايا القدس” و”كتيبة جنين” وباقي فصائل المقاومة في الضفَّة، ولقد بدأت تلك الحملة أثناء العدوان الأخير على المخيَّم واستمرت لما بعده، بما يجعل ما كشفته القناة “14” العبرية أمرًا غير مستغرَبٍ، إذ قالت إن مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين التقوا في أعقاب العدوان الإسرائيلي الأخير على جنين، واتفقوا على منح أجهزة الأمن الفلسطينية الفرصة لمواجهة مجموعات المقاومة هناك.

تشير هذه المعطيات، بالإضافة إلى تاريخ تعامل السلطة المعروف مع المقاومة عمومًا، إلى طبيعة “الرؤية الوطنية الشاملة” التي كانت تأمل السلطة بالتوصل إليها، حينما دعت إلى اجتماع الأمناء العامين أثناء العدوان.

فهل كانت تراهن السلطة ضمنًا على الاحتلال كي يُنجِز بالقوة الخشنة في المخيَّم ما عجزت هي عن تحقيقه بالقوة الناعمة؟ وهل كانت تأمل بأن يحضر أمناء الفصائل الاجتماع على وقع إنهاء حالة المقاومة في جنين وهزيمتها؟ كي تفرض على فصائل المقاومة رؤيتها “الوطنية الشاملة” القائمة على “التنسيق الأمني” والقبول بشروط “الرباعية”؟

يبدو أن هذا ما قد التقطته حركة “الجهاد الإسلامي” وبنت عليه موقفها من قبول دعوة السلطة لاجتماع الأمناء، فاشتراطها اطلاق صراح كوادر “سرايا القدس”، الذين اعتقلتهم أجهزة أمن السلطة، يعد اضعف الإيمان كي يظهر بأن هناك أي جدوى مرجوَّةٍ – مهما كانت ضئيلةً – من الحضور، وبأن السلطة مستعدةٌ للتراجع عن جريمتيّ “التنسيق الأمني” ولعب دور حارس المستوطنات.

لقد كان حريًا بباقي الفصائل الفلسطينية اتخاذ موقفٍ مماثلٍ من هذا الاجتماع، لا سيما أن القاهرة اكتفت بتأمين استضافة الاجتماع ولم تكن الداعية إليه، مما يرفع الحرج عن الفصائل الفلسطينية في مسألة رفض دعوةٍ وجهتها دولةٌ عربيةٌ لحضور اجتماعٍ على أرضها.

يظهر أن الفصائل الفلسطينية لاتزال تدور في نفس الساقية، وتتعامى عن التحولات الهامة في ساحة الضفَّة، وعما تقتضيه هذه المرحلة من مواقف سياسيةٍ أكثر وضوحًا وصرامةً اتجاه السلطة وأجهزتها الأمنية، وليس الحديث هنا عن خطواتٍ ميدانيةٍ اتجاه السلطة، لكن المواقف السياسية الضبابية في ظِل تصاعد الفعل المقاوم في الضفَّة على الأرجح أن يكون لها مردودٌ سلبيٌ في هذه المرحلة.

“معركة جنين” وأبعاد بيان السلطة العدائي


Jul 17, 2023

كاتب سياسي فلسطينيكاتب سياسي فلسطيني

عمرو علان

قَبْل أسبوعين بالتمام على بدء العدوان العسكري الواسع الأحدث على مخيَّم جنين في 3 تموز 2023، حصل تطورٌ نوعيٌّ في المخيّم حمل في طياته مؤشراتٍ على طبيعة المرحلة القادمة في الضفَّة، إذ في 19 حزيران 2023، حاولت قوةٌ مدرَّعةٌ صهيونيةٌ الدخول إلى المخيَّم، إلَّا أنَّ مقاتلي “كتيبة جنين” تمكنوا من استدراج أحد المدرَّعات إلى كمينِ عبواتٍ ناسفةٍ شديدة الانفجار يتم تفجيرها عن بُعدٍ، مما أدى إلى إخراج المدرَّعة من الخدمة، وإفشال عملية الاقتحام برمَّتها، وقد استخدم مقاتلو “كتيبة جنين” في عملية الاستدراج تكتيكاتٍ قتاليةٍ مدروسةٍ لم تظهر سابقًا في المخيَّم.

لقد أظهرت تلك الواقعة انتقال “كتيبة جنين” إلى مستوىً جديدٍ من العمل الميداني، سواءً من جهة تحسُّن قدراتها التصنيعية للمتفجرات والعبوات الناسفة الموجهة، أم من جهة توظيف المناورات القتالية المناسِبة في ساحة المعركة، وقد بشَّر ذلك بافتتاح الضفَّة لمرحلةٍ جديدةٍ من العمل المقاوم، تختلف نوعيًا عن مرحلة عمليات “السكاكين” ومرحلة عمليات الاشتباك المسلَّح الفردي التي تلتها، كما أظهرت تلك الواقعة حجم الدعم اللوجستي الذي تلقاه المقاومون خلال الفترة الماضية، والذي أثمر إنجازًا في “معركة جنين” الأحدث في 3 تموز 2023.

لكن من أبرز ما أظهرته تلك الواقعة أيضًا، كان فشَل أساليب الاختراق والاحتواء بالقوة الناعمة في المخيَّم، التي مارستها السلطة خلال الفترة الماضية بهدف كبح تنامي المقاومة، علمًا بأن تلك الأساليب كانت قد أعطت نتائج مقبولةٍ – من وجهة نظر العدو ولو جزئيًا – في مناطق أخرى من الضفَّة، والتي كانت حصيلة “الاجتماع الخماسي” في مدينة العقبة في 26 شباط 2023، واجتماع شرم الشيخ اللاحق في 19 آذار 2023، بين ممثِّلين عن كلٍ من حكومة الاحتلال والسلطة الفلسطينية برعايةٍ أميركيةٍ، إذ تعهد الجانبان “خفض التصعيد على الأرض ومنع المزيد من العنف” على ما جاء في نتائج اجتماع العقبة سيِّء الصيت، ويأتي العدوان العسكري الواسع الأحدث على المخيَّم في 3 تموز 2023 ضمن هذا السياق.

لقد وضَع إخفاق أجهزة السلطة الأمنية في “خفض التصعيد على الأرض ومنع المزيد من العنف” الاحتلال أمام اختبارٍ جديٍّ في مخيَّم جنين، فإما الاستمرار بالسياسات السابقة دون طائل، وإما اللجوء إلى العمليات العسكرية الواسعة، في محاولةٍ لإعادة عقارب الساعة في المخيَّم إلى الوراء، بغرض وقف المسار الجديد الذي افتتحه “كتيبة جنين” وباقي الفصائل مع حلول شهر حزيران الماضي.

يعد إحباط تنامي قدرات المقاومة في المخيَّم مصلحةً أساسيةً للاحتلال، إذ تمثِّل الضفَّة ساحة الاشتباك الإستراتيجي بينه وبين قوى المقاومة في هذه المرحلة، لكن بالتوازي أيضًا، توجد مصلحةٌ للسلطة في تحجيم ظاهرة المقاومة وحالة “كتيبة جنين” في المخيَّم أو القضاء عليهما نهائيًا، إذ تدرك السلطة أنَّ تعاظم قوة المقاومة في الضفَّة واستمرارها يؤدي إلى زيادة ضعف قبضتها الأمنية، التي تراجعت بالفعل في الضفَّة كما يقر الجميع، وتشعر السلطة إزاء ذلك بفقدانها لدورها الوظيفي، أو كما تسميه الالتزام “بجميع الاتفاقات السابقة” بينها وبين الاحتلال، أو بصورةٍ أوضح “التنسيق الأمني”، وقد نجحت “كتيبة جنين” والمقاومة في تجاوز الاختبار العملي الأول للمستوى القتالي الجديد الذي وصلت إليه، إذ تمكنت من إفشال أهداف عدوان 3 تموز 2023، فقد خرجت منه بأقل الخسائر البشرية في عديد المقاتلين والقيادات الميدانية، برغم حجم الدمار الكبير الذي أصاب البنية التحتية المدنية للمخيَّم، وقد بدى هذا النجاح في تعريض جيش الاحتلال لكمائن العبوات الناسفة أثناء انسحابه، واستمرار الاشتباكات المسلَّحة حتى خروجه تمامًا من المخيَّم.

لقد شكَّل هذا النجاح نكسةً لجيش الاحتلال، لكنَّه شكَّل ضربةً لمشروع السلطة القائم على “التنسيق الأمني” كذلك، لا يعني هذا أنَّ قيادات السلطة كانت فرحةً بسقوط الشهداء من المدنيين، لكنها على الأرجح كانت تتطلع إلى إنهاء حالة المقاومة في المخيَّم، فمشروعها العلني مبنيٌ على أساس إنهاء كل أشكال المقاومة المسلَّحة في الضفَّة.

من هنا لم يكن مستغرَبًا وقوفها في اجتياح المخيَّم موقف المترقِّب، بل على العكس، فإنَّ أي موقفٍ آخرٍ منها كان سيكون المستغرَب، إلَّا إذا كانت ستخرج من مهزلة “أوسلو”، وتتراجع بصورةٍ فعليةٍ ونهائيةٍ عن جريمة “التنسيق الأمني” مع الاحتلال لحماية أمن المستوطنات، وهذان أمران يبدوان عصيّان على الوقوع.

لقد كان طرد رموز “التنسيق الأمني” من مراسيم تشيع شهداء مخيَّم جنين تعبيرًا عن سخط الشارع الفلسطيني من الحال المخزي الذي وصلت إليه السلطة بكل المعايير الوطنية، إلَّا أنَّ البيان الهستيري الذي صدر عن السلطة عقب ذلك باسم حركة “فتح”، والذي قالت فيه “نعلنها علنيةً، ومنذ هذه اللحظة، بأنَّ حركة الشر الحمساوية هي حركةٌ محظورةٌ على هذه الأرض الطاهرة، بالإضافة إلى كل من يتساوق معها من قريبٍ أو بعيدٍ”، لم يكن ردة فعلٍ على تلك الحادثة فقط، إنما كان في العمق تعبيرًا عن مدى التخبط الذي وصلت إليه السلطة بعد إخفاق الاحتلال في اجتثاث الحالة المقاوِمة في المخيَّم، بما يعنيه ذلك من تهديدٍ مباشرٍ لاستمرارها الذي بات مرتبطًا بوجود الاحتلال ذاته، بعدما أسقطت من يدها كل أوراق القوة في مواجهته، وذلك حينما ارتضت لعب دور الحارس لدى الاحتلال بحربها الأمنية على سائر فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية.

يمكن القول بعد فشَل العدوان الأحدث على مخيَّم جنين، بأنَّ الضفَّة قد أسَّست قاعدةً صلبةً لمرحلة جديدة من العمل المقاوم، تصلح للبناء عليها وتطويرها، لكن في ذات الوقت، يشير ذلك إلى انتقال الضفَّة لمرحلةٍ أكثر سخونةً، يرتفع معها منسوب القلق من إقدام السلطة وأجهزتها الأمنية، بسبب حالتيّ الهستيريا والتخبُّط اللتين تعيشهما بعد التطورات الأخيرة، على خطواتٍ مجنونةٍ بالذهاب إلى الاصطدام المباشر والخشن مع كتائب المقاومة في الضفَّة، بدلًا من أساليب الاحتواء والعمل الأمني اللذين اتبعتهما في مواجهة تلك الكتائب خلال المراحل الماضية.

ما بعد كمين جنين وصواريخها.. مرحلةٌ حساسةٌ تهدِّد الضفَّة

2023/6/28

عمرو علان 

بالنظر إلى موازين القوى في الحقبة الحالية بصورةٍ مجملةٍ، سواءً أكان ذلك فلسطينياً أم إقليمياً أم دولياً، يمكن القول بوجود فرصةٍ واقعيةٍ أمام الفلسطينيين وقوى المقاومة عموماً.

ما بعد كمين جنين وصواريخها.. مرحلةٌ حساسةٌ تهدِّد الضفَّة

يمكن عدُّ شهر حزيران/يونيو 2023 فاتحة طورٍ جديدٍ للحراك الشعبي المقاوم في الضفَّة، إذ عند تمام الساعة الرابعة فجراً، من يوم الإثنين، 19 حزيران/يونيو، شنَّت قوات “جيش” الاحتلال عمليةً هجوميةً لاقتحام مخيم جنين، شارك فيها مئات الجنود من وحدات “غفعاتي” و”ماجلان” و”دفدوفان” و”المستعربين” و”المظليين”، تُصاحبهم نحو 120 مدرَّعة مصفَّحة.

لا يزال الحراك الشعبي المقاوم الذي تعيشه الضفَّة والقدس المحتلة خلال السنوات الأخيرة ينتقل من طورٍ إلى آخر، فبرغم البيئة الأمنية شديدة التعقيد التي يعمل فيها المقاومون في الضفَّة، وبرغم العثرات التي يمر بها الحراك أحياناً، فإن المنحنى العام للحراك يبدو في تصاعدٍ مستمرٍ، وذلك بسبب تضافر أسبابٍ موضوعيةٍ مرتبطةٍ بتراجع الاحتلال وعوامل ذاتيةٍ فلسطينيةٍ ومستجداتٍ إقليميةٍ وأخرى دوليةٍ لا مجال للخوض فيها هنا.

 لكن المفاجأة كانت بأنْ استدرجت “كتيبة جنين” القوات المهاجمة إلى كمينٍ محكمٍ لعبواتٍ ناسفةٍ شديدة الانفجار، تمَّ تفجيرها عن بُعد، ما أدى إلى إخراج مدرَّعةٍ واحدةٍ على الأقل من المدرعات الحديثة عالية التصفيح من الخدمة ومحاصرة طاقمها، وإعطاب آلياتٍ أخرى، ليتبع ذلك اشتباكاتٌ قويةٌ بالرصاص، وتنقلب عملية العدو الهجومية إلى محاولة انسحابٍ آمنٍ وإنقاذٍ لجنوده المحاصرين، ومجهودٍ عسكريٍ لسحب آلياته التي أُعطبت في ساحة المواجهة، وقد وصل الأمر إلى حدِّ الاستعانة بعدَّة مروحيات “أباتشي” ومقاتلة “F-16” لتأمين انسحاب جنوده، ولقد انتهت العملية التي استمرَّت قرابة 12 ساعةً بتسجيل فشلٍ ذريعٍ للهجوم وسقوط عدَّة إصاباتٍ بين صفوف القوات المهاجمة.

لم يكن فشل هجوم “جيش” الاحتلال بحد ذاته العلامة الفارقة لتلك العملية، التي اختارت لها الصحافة العبرية اسم “معركة جنين”، بل إن التطور النوعي كان في دخول سلاح العبوات شديدة الانفجار، والقابلة للتفجير عن بُعد إلى ميدان المعركة، فبرغم استخدام سلاح العبوات المتفجِّرة في الضفَّة من قَبْل ، فإن ظهور عبواتٍ أكثر تطوراً وقدرةً تفجيريةً، بالإضافة إلى اتِّباع المقاومة تكتيكاتٍ قتالية جديدة أكثر احترافيةً، استدرجت بواسطتها القوات المهاجمة إلى كمائن العبوات الناسفة، كان أمراً افتقدته الضفَّة لسنينٍ طويلةٍ، حتى إن الصحافة العبرية قد شبَّهت ما تعرض له “جيش” الاحتلال، وطبيعة العبوات الناسفة التي تم استخدامها في مخيَّم جنين، بما كان يتعرض له في جنوبيّ لبنان إبان الاحتلال.

أمَّا يوم الإثنين، 26 حزيران/يونيو، أي بعد مرور أسبوعٍ واحدٍ فقط على “معركة جنين”، فقد ظهر 

مقطعٌ لمحاولة إطلاق صاروخين محلِّيي الصنع من جنين اتجاه مغتصبة “رام أون” في منطقة جلبوع، وقد وصف الإعلام الإسرائيلي الحدث بأنَّه “تطورٌ خطيرٌ ومتقدمٌ”، علمًا بأنَّ جنين كانت قد شهدت محاولتين سابقتين مماثلتين على الأقل خلال الشهر المنصرم.

إن التقدُّم في طبيعة السلاح المستخدم من مجموعات المقاومة في الضفَّة، وتطور أساليبها القتالية، يفضي إلى القول بأنَّ الحراك الشعبي المقاوم في الضفَّة والقدس قد افتَتَح بالفعل طوراً جديداً في مساره النضالي.

لكن هذا التقدُّم في العمل المقاوم يفرض على المقاومة وداعميها استحقاقاتٍ ملحَّة لا بد من التوقف عندها، إذ يشير العديد من المعطيات بعد “معركة جنين” إلى احتمالية لجوء العدو إلى التصعيد العسكري في شمال الضفَّة، وضدَّ مخيَّم جنين على وجه الخصوص، ولا يعدّ هذا أمراً مفاجئاً، فالاحتلال ما انفك يُصرِّح عن قلقه الجدي من بلوغ الحراك المقاوم في الضفَّة مرحلة انتفاضةٍ ثالثةٍ شاملةٍ، ناهيك بكونه لا يحتمل أن تتطور الحالة المقاوِمة في الضفَّة إلى ما يشبه الحال في غزَّة، فكيف إذا ما وضعنا في الحسبان بعض المعلومات الاستخبارية الواردة من الأردن عن مساع جديةٍ لدى المقاومة من أجل إدخال سلاح المُسَيَّرات إلى الضفَّة؟

لذلك تعدّ المرحلة القادمة على الضفَّة في غاية الخطورة، فالحراك المقاوم فيها لا يزال فتياً، ولا يكفيه تكثيف الدعم بوسائل الصمود من مالٍ وعتادٍ فقط، بل إن المطلوب توفير شبكة حمايةٍ فاعلةٍ له داخلياً وإقليمياً، بحيث تؤمِّن له غطاءً في مواجهة تغوُّل “جيش” الاحتلال، وذلك من خلال رسم قواعد اشتباكٍ مبنيةٍ على قاعدة “توازن الردع” القائم حالياً بين العدو وبين قوى المقاومة.

بالنظر إلى موازين القوى في الحقبة الحالية بصورةٍ مجملةٍ، سواءً أكان ذلك فلسطينياً أم إقليمياً أم دولياً، يمكن القول بوجود فرصةٍ واقعيةٍ أمام الفلسطينيين وقوى المقاومة عموماً، وذلك من أجل تحقيق تقدُّمٍ جديدٍ في مواجهة العدو في ساحة الضفَّة، فتدعيم الحراك المقاوم الفتي في الضفَّة والقدس، وتأمين الحماية له ضد تغوُّل الاحتلال حتى يأخذ مداه كانتفاضةٍ ثالثةٍ شاملةٍ، بصرف النظر عن أسلوب تلك الانتفاضة وطبيعتها في هذه المرة، قادرٌ على تحقيق إنجازٍ ملموسٍ في الضفة على مستوى إنجازيّ 2000 في جنوب لبنان و2005 في غزَّة.

أمَّا في حال انكسار الحراك المقاوم الحالي في الضفَّة، فسيكون ذلك إخفاقاً إستراتيجياً للمقاومة تتخطى آثاره السلبية الساحة الفلسطينية إلى باقي ساحات المقاومة في الإقليم.

لذلك، يبدو أننا على أعتاب مرحلةٍ حساسةٍ تهدد الضفَّة، تتطلب مواكبةً حثيثةً من القطاعات والساحات كافة، سواءً أكان على مستوى التحركات الشعبية الفلسطينية في الشتات، أم على مستوى تحفيز الرأي العام العربي والإسلامي، أم على مستوى فصائل المقاومة الفلسطينية وداعميها الإقليميين، لاغتنام هذه اللحظة التاريخية، ومنع العدو من تحويلها إلى إخفاقٍ إستراتيجيٍ يصيب مشروع التحرير برمَّته.

معركة “ثأر الأحرار” في المنظور الاستراتيجي الأميركي

الاخد 14-05-2023

معركة “ثأر الأحرار” في المنظور الاستراتيجي الأميركي

عمرو علان

ربما تكون أزمة نتنياهو الداخلية أحد دوافع عدوان الاحتلال الأخير على غزَّة، وربما يكون سعي الكيان لاسترداد قدرته الردعية بدافعٍ ذاتي أحد الأسباب أيضاً.

يقال إن الاحتلال لطالما أتمّ انتخاباته عبر الخوض في الدم الفلسطيني والدم العربي، وإنه دأب على حلّ أزماته الداخلية من خلال تصديرها إلى الخارج بواسطة اعتداءاتٍ طالت كل دول الطوق تقريباً، وهذا كان صحيحاً لفتراتٍ طويلةٍ، كانت فيها يده هي العليا، وكان يمكن الاعتماد على تلك الأسباب وحدها لتفسير التوقيت والأهدافل اعتداءاته في كثير من الحالات.

أمّا اليوم، وبعد أن قَوِيَت شوكة فصائل المقاومة الفلسطينية، واشتد ساعد قوى “محور المقاومة” بصورة عامة، وصار للدخول في حروبٍ أو جولات تصعيدٍ مع أيّ منها تكلفةٌ يدفعها الاحتلال وجبهته الداخلية، فلم تَعُدْ تلك الأسباب وحدها كافيةً لتفسير أهداف اعتداءاته وتوقيتها. ففي نهاية المطاف، ما زال يوجد في الكيان الموقت “مؤسسة جيشٍ” وهيئة أمنٍ قومي وشُعْبة استخبارات عسكريةٍ قوية، وتلك المؤسسات يكون لها ثقلٌ وازنٌ حين اتخاذ قرار الذهاب إلى الحرب. فحال الكيان في ذلك كسائر الدول والكيانات، ويصعب على السياسيين بصورةٍ عامةٍ إقناع مؤسسات الأمن القومي بالذهاب إلى الحرب في حال عدم وجود مسوغٍّ حقيقي لها، أو أنها فقط لمجرد رغبة السياسيين في تصدير أزماتهم الداخلية إلى الخارج، ولا سيما عندما يكون لتلك الحرب تكلفةٌ يمكن أن تضرّ أمن الدولة، كما باتت اليوم حال الكيان في مواجهة قوى المقاومة. 

إذاً، ربما تكون أزمة نتنياهو الداخلية أحد دوافع عدوان الاحتلال الأخير على غزَّة، وربما يكون سعي الكيان لاسترداد قدرته الردعية بدافعٍ ذاتي أحد الأسباب أيضاً، لكن في ظل المخاطر المستجدة، والتي يمكن أن تواجه العدو في أي عدوانٍ على قوى المقاومة، يصير من الأقرب إلى الصواب البحث عن أهداف استراتيجيةٍ أو تكتيكيةٍ للعدو أكثر عمقاً من وراء عدوانه. فالتقدير الصحيح لأهداف العدوان يساعد على صياغة الطريقة الأكثر ملاءمةً لإفشاله، فماذا يريد الكيان، إذاً، من وراء هذا العدوان الأخير على غزَّة؟ والذي بدأه بضربةٍ قاسيةٍ في الشكل والمضمون؟ وهل كان قراره بشأن التصعيد فردياً؟

يمرّ العالم برمته حالياً في حالة إعادة رسمٍ للتوازنات بين أقطابه، أمّا منطقتنا فجاريةٌ إعادةُ رسم التوازنات فيها منذ حينٍ. وأثبتت جولات الحرب في العقدين الأخيرين بين كيان الاحتلال وقوى المقاومة الإقليمية والفلسطينية، بدءاً بحرب عام 2006 في لبنان، وليس انتهاءً بمعركة “سيف القدس” عام 2021، تراجعَ قدرة جيش الاحتلال على تحقيق أهدافه من تلك الحروب، الأمر الذي حدا بالأميركي إلى محاولة تجنيب الاحتلال الدخول في معارك جديدةٍ، وذلك حمايةً له إلى حين تعديل موازين القوى، التي باتت مختلَّةً في غير مصلحة الكيان الموقت، إذ كانت حرب عام 2006 آخر معركةٍ خاضها كيان الاحتلال بدفعٍ مباشرٍ من الأميركي، ونيابةً عنه، كما اقر بذلك إيهود أولمرت، رئيس وزراء كيان الاحتلال في ذاك الوقت. 

لكن، في معركة “ثأر الأحرار”، تظهر اليد الأميركية بوضوحٍ، فلقد جاءت عقب زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، الأخيرة لكيان الاحتلال، كما أن نتنياهو صرَّح بشأن وضع الإدارة الأميركية في صورة الاعتداء الأخير على غزَّة مسبّقاً، بالإضافة إلى ما قاله إيلي كوهن، وزير خارجية الاحتلال، بشأن حصول الكيان على غطاءٍ سياسي مطلقٍ من الولايات المتحدة الأميركية، هذا ناهيك بالاتصالات التشاورية التي أجراها يوآف غالانت، وزير الحرب في حكومة الاحتلال، مع نظيره الأميركي، على نحو لا يدع مجالاً للشك في الانخراط الأميركي المباشر في هذه الجولة.

من هنا، يمكن رصد تبدُّلٍ في الموقف الأميركي تجاه إشعال كيان الاحتلال لتوتِّرٍ جديدٍ في المنطقة، إذ كان الأميركي سعى، خلال الفترة القريبة الماضية، لمنع انزلاق الأوضاع في الإقليم إلى حربٍ أخرى، بسبب انشغاله بحربه ضد روسيا في أوكرانيا.

لكن، يبدو أن تعثُّر الأميركي في تحقيق أهدافه الاستراتيجية في الحرب الأوكرانية حتى اللحظة، والذي أدى بصورةٍ أو بأخرى إلى إضعاف قبضته على حلفائه الإقليميين، والذي بدا في بعض الخطوات التي اتخذتها السعودية – على سبيل المثال لا الحصر – حينما أعادت العلاقات بإيران برعايةٍ صينيةٍ، جعل الأميركي يعيد النظر في توجهاته، ويغامر بدفع كيان الاحتلال إلى خوض معركةٍ جديدةٍ، مع من يظنه الحلقة الأضعف في “محور المقاومة”، أملاً في أن يرمِّم الكيان الغاصب جزءاً من ردعه الذي تهشَّم، ويستعيد وظيفته التي أنشئ من أجلها، كعصاً وضابط إيقاعٍ لدول المنطقة، عسى أن يَحدّ ذلك زيادةَ اختلال التوازن في الإقليم لغير مصلحة الأميركي. 

من خلال رصد الطريقة الجديدة في إدارة معركة “ثأر الأحرار” من جانب فصائل المقاومة الفلسطينية، بدايةً بعدم الرد الفوري على جريمة اغتيال القادة الشهداء لحركة “الجهاد الإسلامي”، والصمت المُعبِّر والذي اتبعته قبيل بدء المعركة، ودخول الفصائل موحدةً في القتال ضمن “غرفة العمليات المشتركة”، ومن خلال تقديرات المقاومة في الأشهر القليلة الماضية، بأن العدو متَّجهٌ إلى شنِّ عدوانٍ جديدٍ على غزَّة، يَظهر أن فصائل المقاومة الفلسطينية تدرك مغزى هذه المعركة، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه.

بالنتيجة، بناءً على الفهم الذي طرحه هذا المقال لأبعاد معركة “ثأر الأحرار”، يَعتقِد الكيان الموقت أن نجاحه في تحقيق أهدافه سيؤدي إلى تعديل التوازنات الإقليمية على نحو يصبّ في مصلحته، ليس فقط في مواجهة المقاومة الفلسطينية، بل في مواجهة “محور المقاومة” عموماً، بالإضافة إلى ضرب المواجهة الاستراتيجية الدائرة في الضفَّة الغربية حالياً، إذ تستمد تلك المواجهة زخمها من وجود ظهيرٍ قوي لها في غزَّة، وفي دول المحور كذلك، كما يأمل الأميركي استعادة جزءٍ من هيمنته المتراجعة في الإقليم. 

وفي حال نجاح فصائل غزَّة في إفشال أهداف هذا العدوان، فإنَّها ستحقِّق قفزةً إلى الأمام في مستوى تأثيرها الإقليمي، على غرار ما حقَّقته في معركة “سيف القدس”.

لكن، في النهاية، غاب عن ذهنَي الأميركي والكيان الموقت معاً، أن وقف مسار القوس الصاعد لقوى المقاومة في المنطقة، يلزمه انتصارٌ استراتيجي للكيان في عدَّة جبهاتٍ معاً، ولعل هذا ما يجعل حظوظه في تحقيق أهدافه من عدوانه الأخير محدودةً.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

استشهاد خضر عدنان وملف تبادل الأسرى

السبت 6 أيار 2023

عمرو علان 

رحم الله أسير فلسطين الشيخ الشهيد خضر عدنان، ويظل السؤال عما إذا كانت شهادته ستكون دافعاً إلى فك أسر رفاقه من الأسرى؟

سيسجِّل التاريخ اسم الشيخ الشهيد خضر عدنان رمزاً لقوة الإرادة والتحمُّل، وأيقونةً للتمرُّد على سلاسل الأَسْر. فحقاً صدق فيه قول الشاعر عبد الرحيم محمود “فإمَّا حياةٌ تسر الصديق وإمَّا مماتٌ يغيظ العدا”، فهذا الرجل، الذي أُسِر عدّة مراتٍ، وخاض خلالها نحو ستّة إضراباتٍ متفرقةٍ عن الطعام، استمر آخرها قرابة ثلاثة أشهرٍ عصيبةٍ انتهت باستشهاده، استحّق أن يصير رمزاً لنضالات الأسرى الفلسطينيين وعذاباتهم، فلا استطاع تكرار الأَسْر كسر عزيمته، ولا فتَّتت 295 يوماً من الإضرابات المتقطعة عضضه، ولا أشغلته الحياة والعائلة عن واجبه الوطني والتزامه، دينياً وأخلاقياً، إذ كان الشيخ الشهيد يعود إلى مقارعة المغتصب في ميادين الجهاد بعد كل مرةٍ، فور خروجه من زنازين الاحتلال.

استشهاد خضر عدنان وملف تبادل الأسرى

لكن رفض الاحتلال إطلاق سراح الشيخ الشهيد، على رغم 86 يوماً من الإضراب عن الطعام أفضت إلى وفاته، يحتِّم على المعنيين التوقف أمام هذه السابقة الخطيرة، ويفرض عليهم النظر في دلالاتها واستحقاقاتها، إذ تعيد هذه الحادثة التذكير بإضراب الأسرى الفلسطينيين الجماعي، والذي كان مقرراً قبيل شهر رمضان الفائت، كون قصة الشيخ الشهيد تُعَد جزءاً من قضية الأسرى الأشمل. وتعيد هذه الحادثة التذكير أيضاً بوصية الأسرى الجماعية، والتي نشروها قبيل البدء بالإضراب، وبما جاء فيها على نحوٍ غير مسبوقٍ؛ ذلك المحتوى الذي ربما لم يأخذ حقه في النقاش، وفي النظر في دلالاته، بسبب انتهاء الإضراب سريعاً في ذلك الوقت.

كانت الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال اتَّخذت بالإجماع قراراً يقضي بالدخول في إضرابٍ جماعيّ مفتوحٍ عن الطعام، تزامناً مع بداية شهر رمضان الماضي، وكان القرار، الذي اتخذه الأسرى حينها، يقضي بعدم فك الإضراب حتى تحقيق مطالبهم، وإن أدى ذلك إلى استشهادهم أجمعين.

وكتب الأسرى وصيةً جماعيةً تم نشرها، بالإضافة إلى كتابة وصاياً فرديةٍ كما يفعل الاستشهاديون تماماً. فما الأسباب التي دفعت الحركة الأسيرة إلى اتخاذ قرارٍ قاسٍ كهذا؟ ربما لكان سيؤدي إلى استشهاد بعضهم، كما حدث فعلاً مع الشيخ الشهيد خضر عدنان؟

لعل السطور الأولى من وصية الأسرى الجماعية كانت لتدلنا على إجابة عن هذا التساؤل، إذ جاء فيها أنه “بعد أن وجدنا أنفسنا وحيدين في مواجهة الموت والنسيان، نصارع المستحيل، ونحن أسرى نحارب حتى النهاية بين فكَّي كماشة الإهمال وأنياب بن غفير الاستعمارية”. وتتابع الوصية بالقول: “قررنا، بناءً على الإرادات المؤمنة والمنبثقة من وهم وعينا، تحررياً وإنسانياً، بعد التوكل على الله وعلى شعبنا، أن ننطلق سهاماً من على أوتار أرواحنا المتمردة، فإما حريةٌ حمراء مخضبةٌ بالجوع والكرامة، وإمّا انتصارٌ أكيدٌ على الذات والدنيا معاً”.

أشارت تلك العبارات إلى إحساسٍ لدى الأسرى بأنَّهم تُرِكوا وحيدين ومنسيين في مواجهة الموت البطيء خلف القضبان. فبعد مُضِيّ نحو عقدٍ ونيف على “صفقة الأحرار”، التي تمكنت فيها “كتائب القسام” من تحرير نحو ألف أسيرٍ، ما زال سائر الأسرى ينتظرون فك قيدهم. ولعلّ تلك الكلمات توحي بأن اليأس بدأ يتسلل إلى نفوسهم مع مرور كل عام، وهم يكابدون الزنازين. فإذا كانت “كتائب عز الدين القسام” وفصائل المقاومة الفلسطينية تمكَّنت من إتمام صفقة تبادلٍ ناجحةٍ قبل 12 عاماً، في وقتٍ كانت أضعف بمراحل مما هي عليه راهناً، فهل يصح القول إنها اليوم عاجزةٌ عن تكرار تلك التجربة بعد أن ازدادت قوتها؟ وكيف إذا ما أضيف إلى ذلك تراجع قدرة العدو؟ وتعاظم قدرات قوى المقاومة من الناحية المقابلة في الإقليم بصورة عامة؟ 

لعلّ الأسرى كانوا محقين حينما وجهوا العتب ضمناً إلى إخوانهم في فصائل المقاومة الفلسطينية، فلقد طال أمَدُ انتظارهم للوفاء بالوعد الذي كانت قطعته الفصائل على أنفسها بتحريرهم، ومعالجة هذا الملف الذي يحظى بإجماعٍ وطنيّ فلسطينيّ.

لا يصح هنا القول إن الحركة الأسيرة لا تدرك حقائق الواقع، سياسياً وميدانياً، حينما تطالب بالحرية، أو أنَّها تطلب أمراً لا يمكن تحقيقه. فعلى رغم وجود الحركة الأسيرة خلف أسوار المعتقل، فإنها ما زالت على تواصلٍ مع الخارج عبر وسائل متعدّدة، والراجح أن الحركة الأسيرة كانت لتصبر على العذابات، وما كانت لتطالب الفصائل بأمرٍ غير قابلٍ للتنفيذ، فهذه الحركة تضم رجالاً صمدوا عقوداً خلف القضبان، ولا يعوزهم الصبر حيث يلزم الصبر. 

لذلك، إذا كان عدد جنود الاحتلال، الذين تم أسرهم في معركة غزة عام 2014، لا يكفي لإنجاز صفقة تبادلٍ جديدةٍ، فربما يكون آن الأوان لتقوم المقاومة بما يلزم فعله من أجل تحريك ملف تبادل الأسرى، وإجبار العدو على الرضوخ وإنهاء هذا الملف، الذي يُعَدّ جرحاً نازفاً في الجسد الفلسطيني.

أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن حكومة المستوطنين المتغطرسين الحالية هذه، والتي ذهبت بعيداً في الاستقواء على الأسرى، إلى حدّ الحديث عن تعديل القوانين، على نحو يتيح للاحتلال تنفيذ عقوبة الإعدام بحقهم، كما طبَّقته فعلياً بحق الشيخ الشهيد حينما رفضت إنهاء حبسه الإداري حتى توفي، هذه الحكومة ذاتها، أو هذا الكيان الموقت بصورة عامة، تم اختبار جاهزيته للذهاب إلى الحرب أكثر من مرة مؤخراً، وكان يثبت، في كل مرة، تفاديه أي مواجهةٍ تتخطى بضع غاراتٍ جويةٍ شكليةٍ على البساتين والمناطق المفتوحة، سواءٌ أكان في غزة، أم في جنوبي لبنان، كما ظهر خلال شهر رمضان الماضي. لذلك، فالأرجح ألّا يجد العدو بدّاً من التفاوض غير المباشر لإتمام صفقة تبادل أسرى جديدةٍ من أجل استعادة جنوده الموجودين حالياً في قبضة فصائل غزة، أو أي جنودٍ آخرين يُحتمَل وقوعهم في الأسر.

رحم الله أسير فلسطين الشيخ الشهيد خضر عدنان، ويظل السؤال عما إذا كانت شهادته ستكون دافعاً إلى فك أسر رفاقه من الأسرى؟ وذلك قبل أن يسقط منهم شهداء آخرون؟ فهذا وحده الثمن المقبول لمعركة الشيخ الشهيد التي دفع حياته ثمناً لها.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

هل من تشابه بين معادلات اقتحام الأقصى وترسيم الحدود البحرية؟

كانون الثاني 6 2023

هل من تشابه بين معادلات اقتحام الأقصى وترسيم الحدود البحرية؟

عمرو علان 

اقتحام بن غفير باحات الأقصى يأتي ضمن مساعٍ جدية يبذلها المستوطنون والاحتلال من أجل تغيير الوضع القائم في المسجد، تمهيداً لهدمه لاحقاً، ولا سيما أن أعضاء حكومة الاحتلال الحالية من الأشد تطرفاً.

لم يكن اقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير باحات المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صباح يوم الثلاثاء 3 كانون الثاني/يناير من هذا العام أمراً عابراً، أو لا يجوز أن يكون كذلك، فإضافة إلى كون بن غفير يشغل منصباً من الدرجة الأولى في حكومة الاحتلال، فإنَّه من زعامات المستوطنين الأكثر تطرفاً، بحسب اعتراف الاحتلال ذاته، وهو ممن يدعون صراحةً إلى إقامة الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى، وتهويد القدس، وضم أراضي الضفَّة وترحيل سكانها.

لذلك، يصعب وضع هذا الاقتحام في خانة الأعمال الاستعراضية والاستفزازية فحسب، بل لعل الأقرب إلى المنطق هو أن يوضع ضمن مساع جدية يبذلها المستوطنون والاحتلال من أجل تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، تمهيداً لهدمه لاحقاً، ولا سيما أن جل أعضاء حكومة الاحتلال الحالية يُعَدون من المستوطنين الأشد تطرفاً والأكثر رعونةً في المجتمع الصهيوني، على شاكلة بن غفير.

ويبدو من تصريحات قوى المقاومة الفلسطينية والإقليمية، التي صدرت إثر الاقتحام الأخير، أنها تسعى إلى التهديد بانفجار المنطقة برمتها في حال استمر الاحتلال بانتهاك حرمة المسجد الأقصى، أملاً في أن يلجم الأميركي حكومة الكيان المؤقت.

وكان أبرز ما أُعلن في هذا السياق تصريح الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، إذ حذر من أن التعرض للمسجد الأقصى “قد يفجِّر المنطقة بكاملها”، وأضاف: “نقول لكل الدول في العالم، ولرعاة هذا الكيان الغاصب، إذا كنتم لا تريدون حرباً ثانيةً في المنطقة أمام ما يجري في الحرب الروسية الأوكرانية، فعليكم أن تكبحوا جماح هؤلاء المجانين المتطرفين”.

ولعل فصائل المقاومة بنت رؤيتها هذه على أمرين:

الأمر الأول قراءة تقول بوجود مصلحة أميركية بالحفاظ على الهدوء في المنطقة في الوقت الراهن، نظراً إلى انشغالها بملفات دولية أخرى كبرى، أهمها الحرب على روسيا في أوكرانيا. 

تعد هذه القراءة دقيقةً إلى حد بعيد، أقله حتى اللحظة. مثلاً، يُستشَف من تعقيب البيت الأبيض على الأحداث عدم حماسة الأميركي لرؤية تصعيد جديد في المنطقة، فقد قال البيت الأبيض: “أي إجراء أحاديِّ الجانب يقوض الوضع القائم في الأماكن المقدسة في القدس غير مقبول”.

ويظهر ذلك أيضاً في تصريح وزارة الخارجية الأميركية التي عبَّرت عن قلقها من التداعيات المحتملة لما حدث، إذ يُستبعَد أن تكون هذه المواقف الأميركية الرافضة نابعةً من الخشية على الحقوق الإسلامية والعربية في الأماكن المقدسة في فلسطين!

أما الأمر الثاني، فهو قياس فصائل المقاومة الوضع في القدس انطلاقاً من قضية ترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع الكيان المؤقت، إذ مارس الأميركي في تلك القضية ضغوطاً على الأخير ليقبل بمطالب الدولة اللبنانية، تفادياً لاشتعال جبهة جنوب لبنان، للأسباب عينها التي تدفعه اليوم إلى محاولة الحفاظ على الهدوء في المنطقة. 

لكنَّ التهديد بانفجار الجبهات في قضية ترسيم الحدود البحرية كان مصحوباً بإشارات ميدانية تدل عليه، وهذا ما لا يبدو أنَّه متوفرٌ – حتى اللحظة – في مسألة الاعتداءات على المسجد الأقصى.

وحتى إن توفرت هذه الإشارات الميدانية، يجب ملاحظة أمور عدة، منها أن قضية القدس والهيكل المزعوم تعد أكثر مركزيةً في العقل الصهيوني من قضايا ترسيم الحدود، إضافة إلى كون المعادلات التي تحكم تعامل العدو مع الداخل الفلسطيني عموماً تختلف عن تلك التي تحكم تعامله مع ساحات أخرى.

لذلك، على الأغلب أن تستمر في الأشهر القادمة مساعي المستوطنين والاحتلال لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، لا سيما مع وجود حكومة “مجانين” تقود الكيان المؤقت، والأرجح ألَّا يكبح بنيامين نتنياهو تلك المساعي، رغم إدراكه موازين القوى الحاكمة؛ ذاك الإدراك الذي دفعه إلى التراجع عن تنفيذ وعوده بالانسحاب من اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان.

لهذا، يمكن القول إنَّ احتمالات التصعيد خلال المرحلة القادمة تعد مرتفعةً في فلسطين، وربما في المنطقة عموماً، فاستفزازات المستوطنين ستستدعي بالضرورة ردود أفعال من الفلسطينيين وفصائلهم المقاوِمة، سواء في الضفة أو ربما في غزة، ما ينذر بانزلاق الأوضاع إلى حرب جديدة، بصرف النظر عن رغبة قوى المقاومة أو الكيان المؤقت في حدوثها.

وبناء عليه، يبرز تساؤل عما إذا ما كانت قوى المقاومة قد أعدت إستراتيجية موحدة ومحددة للتعامل مع المرحلة المقبلة، يكون هدفها حماية المسجد الأقصى من خطر التقسيم الزماني والمكاني، وعمادها مفهوم “وحدة الجبهات” التي دعا إليها قائد أركان كتائب القسام، أبو خالد محمد الضيف، أو بعبارة أخرى “محور القدس” الذي كان قد نادى به أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله.

وتعد صياغة إستراتيجية كهذه أمراً ممكناً، في ظل وجود أوراق قوة عديدة لدى قوى المقاومة يمكن البناء عليها، ومنها: 

– موازين القوى الحاكمة مع العدو التي باتت تسمح بتحقيق الأهداف المرسومة، أو بالحد الأدنى تشكيل ردع فاعل في وجه الاحتلال إذا ما وظِّفت تلك التوازنات بصورة حاسمة.

– توفر ذريعة قانونية قوية ضد تغيير الوضع القائم في القدس يمكن تسويقها دولياً، إذ وجدنا استنكاراً دولياً وإقليمياً واسعاً لاقتحام بن غفير الأخير المسجد الأقصى، حتى من الدول الداعمة للكيان المؤقت دولياً، وأيضاً الدول العربية التي أسرفت في التطبيع حديثاً معه، والتي لم تستطع غض البصر عن اقتحام الأقصى، ووجدت نفسها مضطرةً إلى استنكار ذاك الفعل على أقل تقدير، لما يحمله من حساسية كبيرة لدى شعوب العالم العربي والإسلامي قاطبةً.

لعلّ الوقت بات مناسباً كي تضع قوى المقاومة تصوراً محدداً لاقتحامات المسجد الأقصى يرفع مرتبة هذا العدوان من كونه عملاً أمنياً إلى كونه عملاً عسكرياً يقتضي التعامل معه آنياً على غرار الأعمال العسكرية.

في العموم، لا يدعو الأمر إلى الإفراط في التشاؤم، كما جرى مع بعض أوساط بيئة المقاومة بعد الاقتحامات الأخيرة للمسجد الأقصى، فتعاظم قدرات قوى المقاومة، وفي المقابل تراجع الكيان المؤقت على الصعيدين العملاني والداخلي، كفيلٌ بتحويل هذا التحدي الجديد لقوى المقاومة إلى فرصة، سواء مع وجود إستراتيجية محددة أو مع عدم وجودها. 

كل ما في الأمر أن بناء تصور واضح للمرحلة المقبلة يقصِّر المسافات نحو تحقيق الأهداف، ويقلل الكلفة التي لا مناص من دفعها، ليس في الماديات فحسب، بل أيضاً في المعنويات التي تعد عنصراً رئيساً من رأسمال قوى المقاومة، ففي نهاية المطاف “الروح هي التي تقاتل”.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

إقرأ للكاتب

البحر الأبيض المتوسط وفرص إضعاف الحصار على لبنان وغزَّة

22:09  الجمعة 14 تشرين الأول 2022

البحر الأبيض المتوسط وفرص إضعاف الحصار على لبنان وغزَّة

عمرو علان 

من المعلوم أن عمليات الإعداد وتطوير القدرات التسليحية للقوى العسكرية لا تكون بطريقة اعتباطية.

رغم دخول الحروب العصرية مرحلة “حروب الجيل الخامس”، بحسب تقديرات البعض، والحديث المتزايد عن دور الذكاء الاصطناعي في حروب المستقبل، بما يوحي أحياناً بأنَّ الحرب باتت مختلفة في الجوهر عن حروب الحقب الماضية، فإنَّ واقع الحال يشير إلى عدم تبدُّل الأهداف الإستراتيجية للنزاعات الدولية كثيراً، فتأمين مصادر الطاقة والسيطرة على ممرات النقل، لا سيما البحرية منها، ما زال يؤدي دوراً حاسماً في صعود القوى الدولية وهبوطها.

لذلك، خلال المرحلة الدولية الراهنة التي يتم فيها رسم معالم نظام عالمي جديد، ويترتب على نتيجة مسار الأحداث فيها صعود حضارات وهبوط أخرى، نجد أنَّ القوى الدولية الكبرى، وتلك الإقليمية الفاعلة، تولي عملية التحكّم في المضائق والممرات المائية الحيوية اهتماماً خاصاً، كمضيقي هرمز وباب المندب، وبحري آزوف والأبيض المتوسط، ولا يبدو أنَّ تبدُّلاً حقيقياً سيطرأ على هذه الأهداف الإستراتيجية للنزاعات الدوليَّة قبل أن تصل الحضارة الإنسانية إلى مستوى “النوع الأول” من الحضارات على “مقياس كارداشيف لتصنيف الحضارات”، وقبل أن تقطع شوطاً معتبراً فيه على أقل تقدير، وذلك لن يتحقق إلا لقرون قادمة.

من هنا، نلحظ أن خيار تطوير القدرات الهجومية العسكرية البحرية التي أولتها دول “محور المقاومة” وحركاته اهتماماً ملموساً في السنوات الأخيرة ضمن تكتيكاتها القتالية بات يعطي مفاعيله في عمليات رسم معادلات الحرب وتحقيق المكاسب الميدانية. 

وقد تجلى ذلك في عدَّة محطات مهمة خلال الأعوام الماضية. مثلاً، كانت قدرات إيران العسكرية البحرية قد شكَّلت إحدى وسائل الردع الفعَّالة التي اعتمدتها في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، لثنيها عن الإقدام على عدوان عسكري عليها، إذ كان باستطاعة إيران في تلك الحالة تعطيل حركة الملاحة عبر مضيق هرمز؛ ذلك الممر المائي الحيوي الذي يمر عبره ما يزيد على 20% من صادرات موارد الطاقة الأحفورية في العالم.

وفي محطة مهمة أخرى، نجد أنَّ التنافس على السيطرة على مضيق “باب المندب” يعد واحداً من الخلفيات الرئيسة للحرب التي تشنها السعودية على اليمن. لذلك، كان من ضمن إستراتيجية صنعاء العسكرية تطوير قدرات بحرية هجومية مؤثرة يمكن الاعتماد عليها في التأثير في حركة الملاحة البحرية في باب المندب والبحر الأحمر.

أما في لبنان، وفي محطة ترسيم الحدود البحرية مع العدو، وسعي الدولة اللبنانية لفرض حقّها في استخراج الغاز الطبيعي من حقول شرقي المتوسط واستثماره، نجد أنَّ قدرات حزب الله البحرية الهجومية كان لها الدور الحاسم في حصول الدولة اللبنانية على مسودة تفاهم حول ترسيم الحدود البحرية مع العدو، وحول حقّه في استخراج موارده الغازية واستثمارها، بصرف النظر عن الجدل القائم حول إذا ما كانت تلك المسودة قد أعطت للبنان كامل حقوقه.

 ما يهم في هذا المقام، بعيداً من النقاش الدائر حول خطوط الترسيم البحرية اللبنانية: الخط 29، والخط 23، وخط “فريدريك هوف”، والخط “الإسرائيلي” رقم 1 البري، بعيداً من هذا النقاش، على أهميته ووجاهته، يبقى واقع الحال أن الكيان الموقّت ما كان ليعطي لبنان أياً من حقوقه لولا تلويح حزب الله بقدراته البحرية العسكرية.

ولولا إمكانات حزب الله البحرية العسكرية تلك، القادرة على استهداف مصادر استخراج الطاقة في شرقي المتوسط، والقادرة على عرقلة حركة نقل الطاقة عبر البحر الأبيض المتوسط أيضاً، ما كان الأميركي في وارد السماح للبنان بالاستفادة من ثرواته من الغاز الطبيعي، بما يتضمَّنه ذلك من ضرب لأساسات سياسة الحصار غير المعلن التي ينتهجها الأميركي ضد لبنان منذ حين.

إذاً، بناءً على الوقائع السالفة الذكر، يمكن أن نخلص إلى أنَّ الجهد الذي صرفته دول وحركات المقاومة على تعزيز قدراتها البحرية العسكرية وحسن توظيف تلك القدرات تكتيكياً في الميدان أثمر نتائج ملموسةً في مصلحتها، وحقّق لها مكاسب ميدانيةً وسياسيةً، ولا سيما في الحالة اللبنانية. وبناءً على هذه الخلاصة، يبرز تساؤلٌ عما إذا كان من الممكن لفصائل المقاومة الفلسطينية الاستفادة من هذه التجارب في فك الحصار المفروض على غزة.

بدايةً، من المعلوم أن عمليات الإعداد وتطوير القدرات التسليحية للقوى العسكرية لا تكون بطريقة اعتباطية، بل تكون استجابةً للإستراتيجيات والتكتيكات العسكرية المرسومة، وضمن الإمكانات المتاحة وظروف الميدان؛ فمن خلال تتبع مسيرة دول “محور المقاومة” وحركاتها نجد أنها عملت منذ البدايات على توظيف سلاح “صواريخ أرض أرض” بطريقة مميزة، بهدف التغلب على معضلة التفوق الجوي الكاسح لمصلحة العدو. وقد كان ذلك ضمن إستراتيجية “الحرب غير المتكافئة” الشاملة التي اعتمدتها قوى المقاومة في مواجهة الأعداء عموماً.

وقد تم تعميم تجربة “صواريخ أرض أرض” بعد نجاحها في جنوب لبنان إبان الاحتلال الإسرائيلي، فصارت إيران بعد ذلك من أكبر القوى الإقليمية من ناحية قدراتها الصاروخية، وباتت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزَّة تتمتع بقدرة صاروخية يحسب لها الحساب، إذ استنسخت تكتيكات إطلاق الصواريخ من منصات مخفية وتحت الأرض.

وعقب حرب لبنان في تموز/يوليو 2006، التي اختبر فيها حزب الله بنجاح باهر تكتيكات ميدانية ضد سلاح المدرّعات الإسرائيلي، وذلك باستخدام سلاح “كورنيت” الروسي المضاد للدروع، اتخذ قائد حرس الثورة الإسلامية آنذاك، الشهيد اللواء قاسم سليماني، قراراً بنقل تلك التجربة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، بالتعاون مع كل من حزب الله والدولة السورية التي زودت القطاع بهذا النوع من السلاح من مخزون الجيش العربي السوري في ذلك الوقت. وقد كان لتكتيك استخدام سلاح “كورنيت” في القطاع دورٌ أساسيٌ في تحديد نتائج حروب غزَّة اللاحقة.

أما راهناً، وفي ظلِّ التوتر الدولي القائم حول الطاقة، وحول الممرات البحرية لنقلها، وارتفاع أهمية أسلحة البحر الهجومية بناءً على ذلك التوتر، ربما بات من المجدي أن تبدأ فصائل المقاومة الفلسطينيّة، وبالتعاون مع أركان “محور المقاومة”، بتسخير الموارد من أجل تعزيز قدرات القطاع البحرية العسكريّة، سواء بالعتاد المطلوب أو بالتقنيات اللازمة لتصنيع العتاد المناسب؛ فإذا كان “محور المقاومة” قد نجح في هذه العملية في اليمن، فلا بد من وجود إمكانية لتكرار الأمر في غزة.

ويدور الحديث هنا بالنسبة إلى غزَّة عن خطة متوسطة المدى أو قصيرة المدى في أفضل الأحوال، بحسب ظروف الميدان، إلا إذا كانت غزَّة قد تسلَّحت بالفعل على هذا الصعيد، مع العلم بأن لا مؤشرات تدل على هذا الأمر.

في كلِّ الأحوال، لا يجوز إهمال أمرين مفصليين عند التفكير في تكتيك استخدام البحر كوسيلة لتخفيف الحصار عن غزة، قياساً على تجربة حزب الله الأخيرة في لبنان. أولاً، لا يجوز بحال تجاهل حقيقة أنَّ حساب “موازين القوى” يختلف إلى حد بعيد من عدة أوجه بين الساحتين اللبنانية والفلسطينية.

لا ينسحب هذا على صعيد قدرة حزب الله التسليحية المتفوقة نوعاً وكماً فحسب، والفروق في طبيعة الميدان التي تتيح للحزب هامشاً أعظم في المناورة، واستفادة الحزب من خطوط إمداد فعالة، لكن أيضاً يجب أن يوضع بالاعتبار، عند حساب “موازين القوى”، حساسية ساحة فلسطين بالنسبة إلى الاحتلال مقارنةً بأي ساحة “معادية” أخرى، فسقف المعادلات التي يمكن إرغام الإسرائيلي على تجرُّعها من دون الدخول في جولة حرب قاسية يعد أعلى من السقف الذي يمكنه قبوله في فلسطين من دون الدخول في حرب يكون من شأنها تبديل التوازنات القائمة بصورة جوهرية.

وبناءً عليه، يمكن القول إنَّ المراهنة على السلاح البحري الهجومي وحده تعد مراهنةً واقعيةً، إذا ما كان الهدف هو تخفيف الحصار، لا إنهاءه بشكل كلِّي عن القطاع، مع أنَّ تخفيف الحصار، الذي يمكن لفصائل المقاومة في غزَّة تحقيقه في هذه الحال، وضمن الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، قابلٌ لأن يكون تخفيفاً حقيقياً وذا آثار ملموسة على حياة سكان القطاع.

أما الأمر الثاني، فهو أنه لا يجوز بأي حال أن يتحول تكتيك تطوير السلاح البحري الهجومي في غزَّة إلى بديل من تكتيك المقاومة في تفعيل العمل المقاوم في الضفة، فساحة الضفة لا تزال تحظى بموقع الصدارة من الناحية الإستراتيجية في مشروع التحرير المركزي، ناهيك بأنه ضمن ظروف العدو الموضوعية المستجدة، وضمن تراجع القبضة الأمنية لسلطة “التنسيق الأمني” في رام الله، إضافة إلى الظروف الإقليمية والدولية الراهنة المحيطة، بات من الممكن لساحة الضفة تحقيق إنجاز يفوق بكثير أي إنجاز يمكن لساحة غزَّة تحقيقه على مستوى المشروع الوطني.

ختاماً، يفتح الاشتباك العالمي الدائر بين الدول العظمى آفاقاً جديدةً أمام فصائل المقاومة الفلسطينية، بما يجعل فرص تخفيف مفاعيل الحصار المفروض على غزَّة بصورة ملموسة أكثر واقعيةً، وذلك عبر المناورة على عقدة الطاقة والممرات المائية، لكن يبقى إنهاء الحصار عن غزَّة بصورة كلية أمراً يلزمه تغيير في “موازين القوى” الحاكمة حالياً، والطريق الأقصر لذلك، والأكثر جدوى وطنياً وإستراتيجياً، يمر عبر تصعيد الفعل المقاوم في الضفة، وتحويل المقاومة فيها إلى حال يحاكي مقاومة غزة، وهذا بات أمراً متاحاً ضمن المستجدات الفلسطينية والإقليمية.

نظرة في تجربتي كتيبتي جنين ونابلس

 الأربعاء 10 آب 2022 

* كاتب وباحث فلسطيني

عمرو علان

لقد مرّت الضفة الغربية المحتلة، خلال العشرين سنة الماضية تقريباً، بمرحلةٍ يصح تقييمها على أنها كانت مرحلة «موتٍ سريريٍ» على صعيد الفعل المقاوِم، وعلى صعيد أثرها على الاحتلال وقدرته على الاستمرارية والتمدّد في أراضي الضفة الغربية. لكننا نشهد، منذ فترةٍ، بشائر نهاية هذه المرحلة، ممّا يوجب النظر في التحولات التي تعيشها الضفة، ليس لغرض التحليل فقط، وإنما لِيبنى على الأمر مقتضاه للمرحلة المقبلة.

لقد تكوّنت قناعةٌ خاطئةٌ خلال الثلاثين سنةً الماضية عند شريحةٍ واسعةٍ من أبناء الشعب الفلسطيني، لا سيما من أبناء حركة «فتح»، تقول بأنه من الممكن استرداد بعضٍ من الحقوق العربية الفلسطينية المسلوبة عبر طريق المفاوضات. ولقد تكَوّن هذا الاقتناع بسبب مسار «أوسلو» الذي سلكته «م.ت.ف» بقيادة حركة «فتح». وتعدّ هذه القناعة وهذا المزاج من الأسباب الجوهرية لمرور الضفة في حالة «موتٍ سريريٍ»، إذ حرم هذا المزاج المقاومة في الضفة من قسم لا يستهان به من حاضنتها الشعبية.

ومثّلت حقبة محمود عباس ذروة مرحلة الموت السريري ، إذ غدا «التنسيق الأمني» الوظيفة الأولى لأجهزة سلطة رام الله الأمنية، فصارت حماية أمن المستوطنات والمستوطنين، والقضاء على أي فرصةٍ لمقاومة الاحتلال مهما كان شكلها، أهم إنجازات سلطة رام الله، لدرجة أنها تفوّقت على الاحتلال ذاته في تلك الوظيفة.
لكن، نتيجةً لوصول مسار «أوسلو» إلى طريقٍ مسدودٍ كما كان محكوماً عليه منذ البدايات، وظهور نتائجه الكارثية في الضفة، وعلى المشروع الوطني الفلسطيني عموماً، بالإضافة إلى تحوّل سلطة رام الله إلى أداةٍ وظيفيّةٍ في يد الاحتلال، وذلك كمسارٍ طبيعيٍ لوجود أي سلطة حكمٍ ذاتيٍ في ظل الاحتلال كما علّمتنا تجارب الشعوب الأخرى، نتيجةً لكل هذا، بدأ في الأعوام القليلة الماضية ظهور بشائر تحوّل في المزاج العام الفلسطيني في الضفة. إذ بدأت الضفة باستعادة نفَسها الثوري بالتدريج، وبدأت الحاضنة الشعبية للمقاومة بالتوسع وعودتها إلى سابق عهدها تدريجاً، واتّضح هذا من خلال انتفاضات الأقصى المتتالية، ومن خلال عمليات طعن المستوطنين وعمليات الدّهس الأسبوعية تقريباً، والتي تصاعدت بعد ذلك لتصبح بعضها عمليات إطلاق نارٍ واشتباكاتٍ مسلّحةٍ، كان منها عملياتٌ فدائيةٌ وقعت في أراضي 1948 المحتلة.
وعلى أهمية عمليات المقاومة الفردية تلك، إلا أن الضفة قد شهدت في الأشهر القليلة الماضية تطوراً ملموساً في عمليات مقاومة الاحتلال، إذ ظهرت مجموعاتٌ منظمةٌ تُحْسِن استخدام السلاح في ساحات الضفة، كانت طليعتها «كتيبة جنين» في مخيّم جنين، والتي شكّلت التجربة الناجحة الأولى، والتي تتكرّر اليوم في مدينة نابلس من خلال «كتيبة نابلس».

ولا يبدو أن هذه الكتائب الفتِيّة تنتمي إلى فصيلٍ فلسطينيٍ بعينه، إذ يظهر أنها تتشكّل من مجاهدين ينحدرون من خلفياتٍ فصائليةٍ متنوعةٍ، إلّا أن ما يجمع بين هؤلاء المجاهدين الاقتناع بفشل مسار «أوسلو»، وبأن سلطة رام الله باتت جزءاً من أجهزة الاحتلال بصورةٍ فعليةٍ، وفوق هذا وذاك يجمع بينهم إيمانهم بخيار المقاومة المسلحة كخيارٍ أصيلٍ للشعب الفلسطيني، يمكن أن يفضي بصورةٍ واقعيةٍ إلى دحر الاحتلال والتحرير.
وممّا ساعد في تطوّر هذه الكتائب ونجاح عملياتها، كان عدم اعتمادها على الصيغة الهرمية في تنظيمها، حيث صعّب ذلك على كلٍ من سلطة رام الله وقوات الاحتلال ضربها والقضاء عليها، هذا بالإضافة إلى تمتّعها بحاضنةٍ شعبيةٍ أوسع، وذلك جراء التحوّل الذي حصل في المزاج العام عند أكثرية الشرائح التي كانت مقتنعةً بمسار «أوسلو»، بعد تبيُّنها عبثيّة ذاك المسار وعقمه.
ولا يمكن فصل مجموع التطورات التي تشهدها الضفة في العمل المقاوم، وبشائر خروجها من مرحلة الموت السريري، عن السياق العام لتبدّل البيئة الاستراتيجية التي تحكم المنطقة، وأهمّها تراجع فعالية الكيان المؤقت عسكرياً، وذلك بعد إخفاقات معاركه التي خاضها منذ حربه ضد لبنان 2006 وحروبه التي تلتها ضد قطاع غزة من المنظور الاستراتيجي. فتراجع الكيان عسكرياً، بالإضافة إلى ما رافقه من تعاظمٍ في قدرات «محور القدس»، لا سيما فصائل المقاومة في قطاع غزة، قد خلق ظرفاً جديداً في الضفة بما يشبه شبكة أمان لكتيبتي جنين ونابلس. إذ بات الكيان يقيم حساباتٍ دقيقةٍ لتصعيد الوضع في الضفة، خوفاً من انفجار الأوضاع ودخول غزة على الخط. فقد كانت «كتائب القسام» ألمحت سابقاً إلى إمكانية دخولها على خط المعركة، في حال قيام الكيان بتنفيذ اجتياحٍ واسعٍ لمخيَّم جنين على غرار اجتياح 2002. هذا ناهيك عن الحديث المستجد حول وحدة الجبهات بين أطراف «محور القدس» في المعارك المقبلة، ولا بد أن توفُّر ما يشبه شبكة الأمان في الضفة، قد أمَّن بيئةَ عمَلٍ أكثر راحةً لكتيبتي جنين ونابلس.

ولا يغيّر العدوان الصهيوني الأخير في هذا الشهر ضد قطاع غزة على البيئة الاستراتيجية الراهنة، فعدم مشاركة «كتائب القسام» علناً بالقتال يعود لحسابات تكتيكية فرضتها طبيعة المعركة الأخيرة وأهدافها، وذلك لتحقيق الهدف المرجو بأقل الخسائر، سواء أكان في عدد الشهداء أم في البنية التحتية لقطاع غزة.
يمكن إذاً القول بأن الضفة تَفتتِح مرحلةً مغايرةً لسنوات «أوسلو» العجاف، بسبب التحولات الداخلية الفلسطينية في المقام الأوّل، مع ملاحظة الأهمية القصوى للتحولات الإقليمية كذلك. وهذا ما يلقي على فصائل المقاومة في قطاع غزة، مع بقية قوى «محور القدس» عموماً، مسؤولية بناء تكتيكاتٍ مناسبةٍ لتطوير تجربتي كتيبتي جنين ونابلس الواعدتين، لا سيما أنه بات من الواضح تراجع فعالية قبضة أجهزة سلطة رام الله الأمنية في الضفة، مما يتيح فرصاً أكبر لإمداد المقاومين هناك بالعتاد، علماً بأن ما يلزم الضفة من حيث نوعية العتاد أقل بكثير مما تحتاجه غزة بسبب الفروقات في طبيعة الميدان.
وفي حال تجذُّر تجربتي كتيبتي جنين ونابلس، وتطويرهما ليمتدّا إلى مناطق أخرى في الضفة، سيكون الاحتلال أمام واقع استنزافٍ حقيقيٍ مشكوك في قدرته على تحمُّله طويلاً، ليصير حينها الحديث عن إمكانية تكرار الضفة لتجربتي جنوب لبنان وقطاع غزة أمراً واقعياً، تلكما التجربتان اللتان أُجبِر فيهما الاحتلال على الانسحاب من دون قيدٍ أو شرطٍ من الأراضي التي كان يحتلُّها، وهنا تكون قوى المقاومة قد قفزت قفزةً كبرى نحو استكمال تحرير كامل الأراضي العربية الفلسطينية من رأس الناقورة إلى أم الرشراش.

وختاماً، أدعو المتشككين في واقعية هذا الطرح إلى العودة بالذاكرة نحو 15 عاماً، ويقارنوا بين حال فصائل المقاومة في غزة حين ذاك، وبين ما وصلت إليه اليوم من اقتدار، فهل كانوا ليتصوروا حين ذاك وصول فصائل المقاومة في غزة إلى ما وصلت إليه اليوم؟

A quick note about the latest aggression against Gaza

9 Aug 2022
Amro Allan

On 27 Dec. 2008, the Zionist occupation forces began an aggression against Gaza that lasted for three weeks. The aggression resulted in thousands of civilians killed and injured, tens of thousands displaced, and large destruction in Gaza’s civilian infrastructure.
the Zionist entity announced that the objective of that aggression was to annihilate Hamas, the Palestinian resistance group that was a fraction of what it is now in terms of its strength.
At the end of the three week long operation, the occupation clamed victory, and the occupation forces, the settlers, along with their supporters started congratulating themselves on their (so called) victory.
However, 13 years later, in 2021, the Palestinian resistance, specially Hamas, was bombarding the occupation with long range missiles, reaching pretty much all the occupied Palestinian land.
Now few days ago, the occupation forces began another aggression against Gaza. This time though, they said they were going to annihilate Islamic Jihad, another Palestinian resistance group that is comparable to what was Hamas back in 2009 in terms of size and strength.
But, this aggression lasted 3 days and not 3 weeks. One of the reasons for this was that the Zionist entity feared the sequences if Hamas entered the battle field with Islamic Jihad. This is the same Hamas that the occupation claimed to have defeated in 2009, you remember?
Anyway, again The occupation claimed victory at the end of their three day long operation. And again, the occupation forces, the settlers, and their supporters are congratulating themselves on what they think is a victory, only that Islamic Jihad hasn’t disappeared!
The occupation tried, during the past few days, to do with Islamic Jihad what it tried to do with Hamas thirteen years ago. But most likely, from past experience, the growth trajectory of Islamic Jihad will be like Hamas’s. And in few years, the occupation will have to face two Hamas size resistance groups in Gaza rather than only one!
the Zionists occupied Palestine 74 years ago, and they have been trying to defeat the Palestinians since. But those pesky Palestinians proofed to be a lot more tougher than what the Zionist colonisers have imagined. And it is clear that the Palestinians are determined to liberate their homeland from its occupiers. So, I would suggest to the Zionists to stop their aggression against Palestinians, give back what they have stolen from them, and go back to their homes. Then, and only then, everyone can live in peace.

عدوانٌ صهيونيٌ على غزة والهدف الضفة الغربية

  السبت 6 آب 2022

عمرو علان 

فلسطين

لعل ادّعاء الاحتلال أنه يخوض هذه الجولة التصعيدية ضد حركة “الجهاد الإسلامي” فقط، بعيداً من حركة “حماس”، لعل ذلك يصبّ ضمن تكتيك فصل الجبهات، بل محاولة الفصل بين حركات المقاومة نفسها.

عدوانٌ صهيونيٌ على غزة والهدف الضفة الغربية 

بدأ العدو الصهيوني بعدوانٍ جديدٍ على قطاع غزة في الخامس من الشهر الجاري، وأتى هذا العدوان في ظاهره على أنه خارج السياق، إذ شهدت جبهة غزة هدوءاً طوال الأشهر الماضية، ولم تشهد غزة في هذه المدة أي تطورٍ داخليٍ يستدعي قيام العدو بعدوانٍ آخر، هذا إضافةً إلى أن فكرة القضاء على فصائل المقاومة في غزة لم تَعُدْ أمرًا واقعيًا، ضمن التوازنات الحاكمة للمشهد في هذه الحقبة على أقل تقديرٍ، فيصير السؤال المطروح: لماذا إذن يفتح الكيان الموقّت جبهة على قطاع غزة في هذا التوقيت؟ 

لم يَعُدْ الاحتلال قادرًا على الفصل بصورةٍ كليةٍ بين ساحات فلسطين المحتلة، وذلك عقب معركة “سيف القدس” في رمضان 2021، التي وحَّدت بين جبهة غزة وساحات القدس والضفة الغربية وأراضي فلسطينيي الداخل. 

ومذ ذاك الحين، شهدت الضفة الغربية تطورًا ملحوظاً في العمل المقاوم ضد الاحتلال، كانت تجلِّياته في ظهور “كتيبة جنين” و”كتيبة نابلس” في الضفة الغربية، اللتين مثَّلتا تحديًا للاحتلال من حيث قدرته على التعامل معهما، وذلك بصورةٍ تنهي هاتين الظاهرتين كلياً، على غرار ما فَعَله سابقًا مع الظاهرة المسلحة التي نشأت في مخيَّم جنين عام 2002.

ويُدْرِك العدو مدى خطر تجذُّر تجربتي “كتيبة جنين” و”كتيبة نابلس” المسلَّحتين، ما يفتح الباب واسعًا على تمدُّد هذه التجربة المسلحة إلى مناطق أخرى في الضفة الغربية، وما يضع الاحتلال أمام تحدٍ حول كيفية الخلاص من هذه التجارب المسلحة الصاعدة قبل تجذُّرها. 

ويُعَد تعاظم قوة فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، من أهم الأسباب التي تُعقِّد مهمة الاحتلال في القضاء على كتيبتي جنين ونابلس، إذ إن قيامه بعملية اجتياح واسعة لمخيّم جنين أو مدينة نابلس، كما فَعَل عام 2002، يمكن أن يؤدي إلى تفجُّر الأوضاع شعبيًا في عموم الضفة الغربية، التي تعيش حالة ثورية متصاعدة، باتت ملحوظة من تعداد العمليات الفدائية المتكررة في الأعوام القليلة الماضية. 

ويتيح انفجار الأوضاع في الضفة الغربية فرصة مواتية لغزة للدخول على خط المواجهات، إذ كانت الفصائل المسلحة في غزة قد ألمحت سابقًا إلى هذا الاحتمال. 

وفي حال تحقُّق هذا السيناريو، فسيجد الاحتلال نفسه في مواجهة جبهتين مشتعلتين في وقت واحد، فكيف ستكون حاله حينذاك، وهو الذي لم يَعُدْ يطيق التعامل مع جبهة واحدة؟

ولهذا، يبدو أن العدو الصهيوني لجأ إلى تكتيك يأمل أن يمكّنه من تفكيك الجبهات والاستفراد بها، كلٌ على حدة، فالاشتباك بالسلاح مباشرةً مع فصائل غزة يقلّل من احتمالية تحرّك الوضع الشعبي في الضفة الغربية، وذلك قياساً على الحروب السابقة التي خاضها على قطاع غزة، والتي كان فيها تحرّك الضفة الغربية خجولًا. 

ولعل ادّعاء الاحتلال أنه يخوض هذه الجولة التصعيدية ضد حركة “الجهاد الإسلامي” فقط، بعيداً من حركة “حماس”، لعل ذلك يصبّ ضمن تكتيك فصل الجبهات، بل محاولة الفصل بين حركات المقاومة نفسها.

ويمكن أيضاً الربط بين العدوان المستجد على غزة والضفة الغربية، في كون هذا العدوان جاء مباشرةً عقب تنفيذ الاحتلال بضع عمليات محدودة في الضفة الغربية، استهدفت الأخيرة منها، قبل أيام، قياديًا بارزًا في حركة “الجهاد الإسلامي” في الضفة الغربية.

لذلك، يبدو أن العدو الصهيوني في عدوانه على غزة هذه المرة، يستهدف بالدرجة الأولى الحال المقاوِمة في الضفة الغربية، بمحاولته كسر شوكة فصائل غزة، وردعها في حال قيامه مستقبلًا باجتياحاتٍ واسعة لمناطق الضفة الغربية، ومن ناحيةٍ أخرى بمحاولته قطع الطريق على أي تحرك شعبي واسع في ساحة الضفة الغربية، في الوقت الذي يكون فيه مشتبكًا مع جبهة غزة.

وفي هذه الحال، يصير إشعال ساحات الضفة الغربية بانتفاضةٍ شعبية واسعة، التكتيك الأفضل الذي يمكن أن يتبنّاه الشعب الفلسطيني لمواجهة هذا العدوان المستجد، فالضفة الغربية هي الهدف الحقيقي منه في نهاية المطاف، فضلاً عن أن اشتعال ساحات الضفة سيربك مخططات العدو ويبعثِر أوراقه، ويخفف عن غزة عبء التصدي لهذه الهجمة الجديدة. 

ويتيح هذا التكتيك، على أقل تقدير، تحقيق إنجازاتٍ أكبر بتكلفةٍ أقل لكلٍ من المقاومة الفلسطينية في ساحتي غزة والضفة الغربية معًا، هذا إن لم تُطوِّر المقاومة الفلسطينية فعلها الدفاعي في هذه المعركة إلى إستراتيجية هجومية طويلة النَّفَس، تُحقِّق إنجازاتٍ ملموسة على طريق التحرير الكامل.

مقالات متعلقة

محور المقاومة وأوكرانيا والحرب العالمية الهجينة

الثلاثاء 5 نيسان 2022

 عمرو علان 

لقد بات جليّاً، كون المعركة في أوكرانيا جزءاً من حربٍ أميركيةٍ روسيةٍ أشمل، أن رحى المعركة العسكرية تدور في أوروبا بينما تمتد الحرب الأشمل لتشمل ساحاتٍ وصوراً أخرى، كالعقوبات التجارية الغربية التي تعاظمت وتوسَّعت بعد بدء إطلاق النار. ولقد انقسمت الأطراف الدولية في هذا الاشتباك العالميّ إلى ثلاث مجموعات: حلفاءٍ مباشرين، إمّا لروسيا أو لأميركا، وحلفاءٍ آخرين غير مباشرين لأحد المعسكَرَين، وأطرافٍ أخرى ما زالت تحاول المحافظة على موقع وسطٍ بين الحلفين المتقابلين.

منذ نهاية الثنائية القطبية، سعت أميركا حثيثاً إلى فرض هيمنتها على كل دول المعمورة، ونهب ثروات شعوبها، ومحو حضاراتها وثقافاتها. ولقد وظَّفت في مسعاها هذا عدة أدواتٍ: الحرب المباشرة بشقيها العسكري والاقتصادي، والحرب الناعمة بكل وسائلها من ثوراتٍ ملوَّنةٍ وهيئات «مجتمعٍ دوليٍ» ومنظمات «مجتمعٍ مدنيٍ» وإعلامٍ،… إلخ. وكانت العولمة والأيديولوجية الليبرالية الفكر المحرّك لهذه الأدوات، ولقد أقر ستيفن وولت في «فورن بوليسي» بكون الفكر الليبرالي، الذي تبناه الغرب و«الناتو» في العلاقات الدولية، قد ساهم بشكلٍ رئيسيٍّ في وصول الأمور في أوكرانيا إلى ما وصلت إليه. وفي سبيل المسعى الأميركي لتثبيت هيمنتها على العالم، قامت منذ مطلع القرن بعدة حروب ومؤامرات في منطقتي المشرق العربي ووسط آسيا، لكن باءت كلها بفشل استراتيجي على ما يقر به جل المنظِّرين والساسة الأميركيين.

وفي غضون هذا، ترسخت قناعةٌ لدى روسيا والصين بكون أميركا تسعى لتحجيمهما، إن لم يكن تفكيكهما، كي تستمر هيمنتها على العالم، وتنهي التاريخ على النحو الذي تراه! ولكن، في غمرة انشغال أميركا بمخططاتها في منطقتي قلب آسيا وغربها، استغلت الصين الفرصة وبنَتْ قوتها الاقتصادية والتكنولوجية، وقامت روسيا باستعادة التوازن لاقتصادها، وأعادت بناء جيشها وطورت أسلحته التكتيكية والإستراتيجية. وبالتوازي، كانت روسيا والصّين تُطوِّران علاقاتهما البينية ضمن «منظمة شانغهاي» وأطرٍ أخرى، بالإضافة إلى الاتفاقيات الثنائية بينهما التي تُوِّجَت بالقمَّة الصينية الروسية الأخيرة. ومع مطلع العشرية الثانية من هذا القرن، نضجت أغلب عناصر الاشتباك الكبير من أجل رسم عالم ما بعد الأحادية القطبية، حيث كانت الصّين وروسيا قد استعدتا للمواجهة، وكانتا قد وصلتا إلى مستوى متقدمٍ في تنسيق المواقف، بما فيه التوافق على التصدي لسياسة أميركا لتغيير أنظمة الدول.
كانت المعركة في سوريا أول تجلِّيات هذا الاشتباك الأوسع، بين المعسكر الروسي- الصيني الشرقي والمعسكر الأميركي الغربي، وهذا ما ظهر في استخدام روسيا والصين «الفيتو» لعدة مرات في مجلس الأمن، منهيتين بذلك مرحلة الهيمنة الأميركية على المجلس، التي سادت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. لذلك، شكَّلت الحرب على سوريا المعركة التمهيدية في الاشتباك العالمي الأشمل، ويصح وصف ما تشهده أوكرانيا اليوم بالمعركة الثانية ضمن هذا الاشتباك. ومن المبكر حالياً التنبؤ في ما إذا كانت معركة أوكرانيا آخر المعارك العسكرية فيه، لكن من الواضح أن الاشتباك العالمي مستمرٌ في صيغته الاقتصادية، وربما السيبرانية، حتى إلحاق أحد المعسكرين هزيمةً إستراتيجيةً بالخصم. من المستبعد توقُّف الحرب الاقتصادية التي بدأها الغرب على روسيا عقب حسم المعركة العسكرية في أوكرانيا. وهذا، بدوره، يستجلب حرباً اقتصاديةً مضادة من المعسكر الشرقي على ركيزتي حروب أميركا الاقتصادية: هيمنة الدولار والنظام المالي العالمي الراهن. وقد بدأ هذا بالفعل؛ فقرار روسيا تحصيل أثمان صادرات الطاقة إلى أوروبا بالروبل، والسعي لإصدار الروبل الرقمي، تعدَّان خطوتين متقدمتين في الحرب الاقتصادية المضادة.

توصيف الوضع بكونه اشتباكاً عالمياً مصيرياً للقوى الكبرى، يفيد بتبلور مساراتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ كانت قد ظهرت ملامحها منذ حين


وعليه، يمكن القول بأنّ العالم يشهد، منذ نحو عقدٍ من الزمن، حالةً تشبه الحرب العالمية؛ حرباً يمكن وصفها بالهجينة، لا هي حرب باردةٌ بالكامل، ولا ساخنةٌ بالكامل، وذلك نظراً لتفادي القوى الكبرى الدخول في صدامٍ عسكريٍ مباشرٍ بسبب الردع النوويّ المتبادل، مع الأخذ في الاعتبار أنه يصعب القطع بعدم تدهور الاشتباك العالميّ الراهن إلى الأسوأ، ولكن يبقى هذا الاحتمال الأقل ترجيحاً.
يصف ألكسندر دوغين ما يحصل في أوكرانيا بأنه حربُ استقلالٍ من هيمنة العولمة الليبرالية الغربية. الاشتباك العالميّ الراهن لا ينحصر فقط برغبة الدول الصاعدة بكسر الأحادية القطبية، بل، كما يقول، إن الحرب الراهنة في حقيقتها تدور ضد الأيديولوجية الليبرالية، التي تسعى لمحو حضارات شعوب الأرض وثقافاتها، والتي تدمّر الأسرة والمجتمع، وتنحدر بالإنسان إلى كائنٍ مسخٍ ورغائبيٍّ، متحررٍ من أية ضوابط اجتماعيةٍ أو أخلاقيةٍ.

ولا يبدو أن أميركا والغرب بعيدان من هذه القراءة لمصيرية الحرب الراهنة. فتشير طريقة تعاطي قادة الغرب مع المعركة الأوكرانية إلى أنهم يهدفون لإلحاق هزيمةٍ إستراتيجيةٍ بروسيا والمعسكر الشرقي، ولهذا فالأرجح تصاعد الضغوط الأميركية على حلفائها لحسم موقعهم في المعركة الأوكرانية، كحال الكيان المؤقت، الذي ما زال يتجنب الانحياز الكامل للجبهة الأميركية، وذلك لعدم رغبته في إغضاب روسيا، لا سيما أنه بات لروسيا حضورٌ فاعلٌ في المنطقة العربية. لكن، مع تعمُّق انقسام الأطراف بين معسكرين على وقع احتدام وطيس المعارك ومرور الزمن، يصير السؤال إلى أي مدىً سيستطيع الكيان المؤقت الاستمرار في لعبة موقفه الضبابيّ؟ ورغم العلاقات الأمنية والتجارية التي تربط الكيان المؤقت بروسيا، وعدم رغبته في استعدائها، يبقى تموضع الكيان المؤقت في المعسكر الغربي أكثر ترجيحاً، لكونه:
– في أصل وجوده صنيعةٌ غربيةٌ.
– مرتبطٌ وجودياً بالهيمنة الغربية.
– غير قادرٍ على مقاومة الضغوط الأميركية حال اشتدادها.
وهنا يُفتح بابٌ لقوى المقاومة في الإقليم، عبر استغلال تناقض المصالح الناشئ بين روسيا والكيان المؤقت. ففي المحصلة، تخوُّف الكيان المؤقت في محلّه من ردّ فعل روسيا حال تموضعه كلياً في المعسكر الغربي.
وفي الخلاصة، توصيف الوضع بكونه اشتباكاً عالمياً مصيرياً للقوى الكبرى، يفيد بتبلور مساراتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ كانت قد ظهرت ملامحها منذ حينٍ، وظهور مساراتٍ جديدةٍ يمكن لقوى المقاومة البناء عليها، لا سيما كون هذه القوى باتت لاعباً حاسماً في رسم مستقبل الإقليم، ففي نهاية المطاف، كان محور المقاومة مَن أفشل أهداف حروب أميركا الاستراتيجية في منطقتي المشرق العربي ووسط آسيا.

دولة الاحتلال وحركات المقاومة في ظل الهزّة الأوكرانية.. تقدير موقف

الخميس، 24 مارس 2022

تدور الحرب في أوكرانيا كما بات واضحًا بين معسكرين، أحدهما روسيٌ مدعوم صينيًا بشكلٍ أساسيٍ، وبدعمٍ غير مباشرٍ من دولٍ أخرى تسعى لكسر الهيمنة الأمريكية والأحادية القطبية. وفي المقابل، معسكرٌ غربيٌ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، مع بعض الدول التي تخضع كليًا للنفوذ الأمريكي كاليابان مثلًا، لكن في وضع حلفاء أمريكا تفصيلٌ على ما سيأتي لاحقًا.

ويمكن قراءة أهداف كل معسكرٍ على النحو الآتي:

ـ تسعى روسيا بدايةً إلى هدفٍ مباشرٍ يتمثل في تحييد الخطر الأوكراني،الذي باتت تُشكِّله أوكرانيا عليها بعد أحداث “الثورة الملونة” في 2014، التي تم هندستها أمريكيًا، والتي أفضت إلى تنصيب نظامٍ عميلٍ للغرب، حيث باشر هذا النظام بدعمٍ وتوجيهٍ أمريكيين مساعي الانضمام لحلف شمال الأطلسي بصورة فعلية، في خطوةٍ تصب في مصلحة الأمريكي، لكنها تتعارض والمصالح القومية الأوكرانية بصفتها دولة جارة لروسيا، وتربطها بها علاقات تاريخية مميزة.

وأما الهدف الروسي الصيني الأبعد، فيتمثل في إلحاق هزيمةٍ إستراتيجيةٍ بالولايات المتحدة الأمريكية عبر إحباط خطتها في أوكرانيا، مما يثبِّت: أولًا، تراجع القدرة الأمريكية على الساحة الدولية. وثانيًا، فتح الباب أمام دينامية بعيدة المدى يمكن أن تفضي إلى إعادة تموضع دول الاتحاد السوفييتي السابقة خارج نفوذ حلف شمال الأطلسي، ويكون هذا حال حصل إعادة لعقارب الساعة إلى 1997.

ـ أما الأهداف الأمريكية المباشرة في هذه الحرب، فتتمثل في محاولة إنهاك روسيا عسكريًا قدر المستطاع في أوكرانيا كهدفٍ تكتيكيٍ، مما سيضعف من مكانة روسيا العسكرية إذا ما نجحت في ذلك أمريكا وحلف شمال الأطلسي. وأما إستراتيجيًا، فتسعى أمريكا إلى تدمير الاقتصاد الروسي وانهياره بشكلٍ كاملٍ، وذلك من خلال الحرب الاقتصادية الشرسة التي تشنها بالشراكة مع حلفائها ضد روسيا، في محاولةٍ لإنهاء الدور الروسي تمامًا، مما يمكن أن يفضي إلى تفكك روسيا الاتحادية لاحقًا، وتعي روسيا أن الحرب الاقتصادية التي بدأها الغرب عليها مستمرةٌ حتى بعد انتهاء المعركة العسكرية في أوكرانيا، ولا أدل على ذلك من تصريح رئيس وزراء بريطانيا حينما قال: إن إعادة تطبيع العلاقات مع بوتين كما حصل بعد 2014 سيكون خطأ، وكذلك تلك الدعوات التي خرجت من بعض الأوساط الغربية والتي تدعو إلى محاكمة الرئيس فلاديمير بوتين كمجرم حرب!

وأما على المدى المتوسط أو البعيد حسب تطورات الحرب ضد روسيا، فتهدف أمريكا من وراء تحييد روسيا عن ساحة التنافس الدولي إلى التفرغ لمواجهة الصين لاحقًا، بعد أن تكون قد أفقدت الصين حليفًا إستراتيجيًا، يعد وجوده عاملًا حاسمًا في المواجهة الأمريكية الصينية، وبعد أن بات الأمريكي يعتقد بصعوبة تكرار تجربة هنري كيسنجر مع الصين في حقبة الحرب الباردة.

إذن، فنحن أمام حربٍ دوليةٍ حاسمةٍ، يسعى كل طرفٍ فيها إلى تحقيق نصرٍ إستراتيجيٍ، لذلك الراجح أن تطول هذه الحرب وتزداد تعقيدًا مع مرور الزمن، وبات هذا المسار يتجلى في تصاعد حدة الخطاب الصيني في مواجهة الضغوط الأمريكية عليها، وفي المقابل في التصاعد التدريجي للضغوط الأمريكية على الصين، وذلك في محاولةٍ لإجبارها على الابتعاد عن روسيا في هذا الاشتباك، وتأتي العقوبات التي فرضتها أمريكا مؤخرًا على مسؤولين صينيين من خارج سياق الأحداث في هذا الاطار.

وتبرز هنا القضية التي يود تقدير الموقف هذا التركيز عليها، فلقد كان لافتًا موقف بعض حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين اتجاه الحرب الدائرة، حيث مازالت دولٌ كالإمارات والسعودية وتركيا ومعهم دولة الاحتلال تتململ في اتخاذ موقفٍ واضحٍ، يساند بشكلٍ كاملٍ وعمليٍ الولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا، وتتباين التقديرات حول خلفيات هذا التململ، فمنها ما يضع موقفيّ الإمارات والسعودية ضمن مناوراتٍ سياسيةٍ بهدف تحصيل مكاسب من الولايات المتحدة الأمريكية في ملفاتٍ إقليميةٍ، كملف العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران وملف الحرب على اليمن، وأخرى تضع موقف تركيا ودولة الاحتلال في سياق حساباتٍ لدى هذين الأخيرين، تتعلق بعدم رغبتهما في إغضاب روسيا، لا سيما بعد أن بات لروسيا حضورٌ حاسمٌ في منطقتنا.

لكن أيً كان الحال، فالراجح أمران: 

ـ أن هذا التململ ما كان ليكون لولا تراجع سطوة الولايات المتحدة الأمريكية على حلفائها وفي العالم عمومًا، بغض النظر عن دوافع كل طرف لموقفه الضبابي اتجاه المعركة الراهنة.

ـ أنه نتيجةً لطبيعة المعركة الإستراتيجية كما تبين آنفًا، وارتفاع احتمالية أن تطول وتزداد تعقيدًا مع مرور الزمن، فمن الطبيعي أن يزداد الضغط الأمريكي على حلفائه لاتخاذ موقفٍ واضحٍ ضمن أحد المعسكرين المتقابلين، وهذا ما بدأت تظهر مؤشراته بالفعل.

وعليه، ستجد دولة الاحتلال نفسها مضطرًة للاختيار عاجلًا أم آجلًا، وعلى الأغلب لن تتمكن من المراوغة في مواقفه كثيرًا مع احتدام المعارك، وستكون من عجائب الدنيا إن اختارت التموضع في المعسكر الشرقي ضد المعسكر الغربي، فدولة الاحتلال ليست حليفًا للغرب وحسب، بل هي صنيعته بالكامل، ومرتبطٌة به عضويًا ووجوديًا، وتظل هذه الحقائق أمرًا حاسمًا في خياراتها، مهما تعددت علاقات دولة الاحتلال بدولٍ أخرى حول العالم كبيرةً كانت أم صغيرةً، ويشار هنا إلى الأنباء التي تم تداولها عن بدء الترتيبات لزيارةٍ محتملةٍ لرئيس وزراء دولة الاحتلال قريبًا للعاصمة الأوكرانية كييف.

توصيف “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في أوكرانيا على أنها احتلال، ليس بالأمر الأبيض والأسود حسب القانون الدولي كما يحاول الغرب الترويج، فنجد مثلًا أن دولتين كبيرتين وأساسيتين كالصين والهند قد رفضتا إدانة “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في أوكرانيا،


وكون هذه المعركة المحتدمة حاليًا تعد معركةً مصيريةً لروسيا وحتى للصين، فلابد أن يكون لتموضع دولة الاحتلال في المعسكر الغربي ـ كما هو متوقعٌ ـ أثرٌ بالغٌ على علاقاتها بروسيا وبالصين كذلك.

ويفتح هذا لحركات المقاومة لا سيما الفلسطينية منها، بابًا واسعًا للعب على تناقض المصالح بين روسيا والصين وبين الكيان المؤقت إذا ما أحسنت اقتناص الفرصة، ففي نهاية المطاف، الكثير من السلاح النوعي والكاسر للتوازن الذي حصلت عليه حركات المقاومة كان روسيًا وصينيًا.

ويبقى أخيرًا الإشارة إلى كون توصيف “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في أوكرانيا على أنها احتلال، ليس بالأمر الأبيض والأسود حسب القانون الدولي كما يحاول الغرب الترويج، فنجد مثلًا أن دولتين كبيرتين وأساسيتين كالصين والهند قد رفضتا إدانة “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في أوكرانيا، هذا ناهيك عن أنه لا خلاف على كون العقوبات الاقتصادية أحادية الجانب، التي فرضها الغرب على روسيا، تعد خرقًا سافرًا لقواعد التجارة الدولية، وقوانين حرية التجارة حسب منظمة التجارة العالمية “WTO”.

وأما بخصوص الموقف الذي تم وصفه من البعض بموقفٍ “أخلاقي”، والذي قالت به بعض الهيئات العربية التي باتت لبرالية الهوى في جل مواقفها، ومنسجمةً مع الدعاية الغربية في تَقييم غالبية الأحداث الدولية والإقليمية، بغض النظر عن توجه تلك الهيئات سواءً أكانت إسلاميةً أم علمانيةً أم يساريةً، فبإمكانهم مراجعة كلمة الرئيس الأوكراني أمام “كنيست” الكيان المؤقت، حينما ادعى أن ما تتعرض له أوكرانيا من “خطر وعدوان” روسي، يماثل ما يتعرض له الكيان المؤقت من حركات المقاومة، ويحق لنا توقع أن يعتمد الغرب هذه الرواية كونها تدغدغ مشاعره العنصرية وتنسجم مع مصالحه الاستعمارية.


*كاتب وباحث سياسي

هل يمكن التنبؤ بطول الحرب الأوكرانية ومداها؟

الثلاثاء، 08 مارس 2022

عمرو علان

باتت محاولة قراءة مسار الأحداث وأهداف الأحلاف المتقابلة في أوكرانيا أكثر واقعيةً، وذلك بعد مرور عدة أيامٍ على بدء العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا، وعلى ضوء الأفعال وردود الفعل المضادة، وتصريحات الفرقاء وباقي الأطراف الدولية، فصار جلياً أن الحرب رغم كونها محصورةً في الجغرافيا الأوكرانية، إلا أنها في حقيقة الأمر تدور بين حلفين متقابلين؛ حلف روسي وآخر أمريكيّ، في مشهدٍ اكتملت فيه معظم عناصر الحرب العالمية، وما عاد ينقصه سوى امتداد شرارة الحرب المشتعلة حالياً إلى خارج الجغرافيا الأوكرانية لا قدر الله، لتتحول إلى حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ ساخنةٍ مكتملة الأركان.

فبناءً على تصريحات الكرملين المتعاقبة، وبناءً على ما جاء في تصريحات وزارة الخارجية الروسية خلال هذه الأيام، نفهم أن روسيا قد اتخذت القرار للتدخل العسكري المباشر في أوكرانيا، عقب معطياتٍ توفرت لديها عن نشاطٍ أمريكيٍّ عسكريٍّ متزايدٍ في الساحة الأوكرانية، نشاطاتٍ تتعلق بتفعيل المنشآت النووية الأوكرانية، التي ما زالت أوكرانيا تملكها منذ حقبة الاتحاد السوفييتي، ونشاطاتٍ أخرى تتعلق بإنشاء معامل سلاحٍ بيولوجيٍّ وكيماويٍّ، ذلك بالإضافة إلى قناعةٍ تشكلت لدى روسيا، مفادها أن الغرب لم يتخلّ يوماً عن “سياسة احتواء روسيا”، التي اتبعها ضد الاتحاد السوفييتي، وذلك عبر استمرار زحف حلف شمال الأطلسي شرقاً، على عكس ما كان قد وعد به الغرب الاتحاد السوفييتي قبل نحو ثلاثة عقود. لذلك جاء في طليعة أهداف العملية العسكرية الروسية، انتزاع التزامٍ من أوكرانيا بعدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ونزع السلاح الأوكراني، الذي هو في الحقيقة سلاحٌ أطلسيٌّ، ويُشكِّل خطراً على الأمن القومي الروسي.

قناعةٍ تشكلت لدى روسيا، مفادها أن الغرب لم يتخلّ يوماً عن “سياسة احتواء روسيا”، التي اتبعها ضد الاتحاد السوفييتي، وذلك عبر استمرار زحف حلف شمال الأطلسي شرقاً، على عكس ما كان قد وعد به الغرب الاتحاد السوفييتي قبل نحو ثلاثة عقود


لكن كان من بين ما قالته وزارة الخارجية الروسية أيضاً، أنه قد آن الأوان لإزالة الأسلحة النووية الأمريكية، التي ما انفكت هذه الأخيرة عن نشرها في القارة الأوروبية، وعلى مقربةٍ من الحدود الروسية. وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إلى أن الأهداف الروسية تتخطى الهدف المباشر لعمليتها العسكرية، الذي يتمثل في إزالة تهديد نشوء “روسيا مضادةٍ” على الحدود الروسية في أوكرانيا، ليظهر أن الأهداف الروسية بعيدة الأمد تشمل محاولة معالجة الواقع الأمني الذي استحدثه حلف شمال الأطلسي في أوروبا خلال العقود الثلاث الماضية، والذي يمثل تهديداً جدياً لأمن روسيا الاتحادية القومي واستقرارها.

ولا يمكن قراءة الخطوة العسكرية الروسية في أوكرانيا بمعزلٍ عن نتائج القمة الصينية الروسية الأخيرة وبيانها الختامي، الذي جاء فيه تصورٌ صينيٌّ روسيٌّ مشتركٌ لشكل النظام العالميّ الجديد، والذي رافقه توقيع صفقاتٍ صينيةٍ روسيةٍ استراتيجيةٍ في مجالات الطاقة والفضاء وغيرهما، مما انعكس على روسيا مزيداً من القوة في مواجهة الغرب، وزاد من اختلال موازين القوى لصالح روسيا وتبعاً الصين، كونهما قد دخلتا في ما يشبه الشراكة في مواجهة الهيمنة الأمريكية الغربية على العالم، وبالتالي يجعل هذا المعطى من الصين شريكاً غير مباشرٍ في الاشتباك الحاصل بين روسيا وأمريكا في أوكرانيا، ويجعل منها ظهيراً رئيساً لروسيا في معركتها ضد حلف شمال الأطلسي.

أما على المقلب الآخر، فكان لافتاً حجم وسرعة الإجراءات غير المسبوقة، التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية مع حليفها الاتحاد الأوروبي وحلفاء آخرين ضد روسيا. ففي غضون أيامٍ معدوداتٍ فقط، بلغت العقوبات الاقتصادية من طرفٍ واحدٍ، التي فرضها الغرب وحلفاؤه ضد روسيا، مدى يحاكي العقوبات الأمريكية على إيران، وبين ليلةٍ وضحاها قاموا برصد مبالغ طائلةٍ من أجل إمداد أوكرانيا بالسلاح.

يمكن الاستخلاص من مجموع هذه التصريحات، التي صدرت عن كلا الطرفين، أنهما يريان في الحرب الأوكرانية معركةً أولى ضمن اشتباكٍ أوسع مدى، وأطول زمناً، حول مستقبل ونفوذ حلف شمال الأطلسي في أوروبا، وبالتالي حول النفوذ الأمريكي وهيمنته العالمية، وتباعاً حول شكل وطبيعة النظام العالمي ما بعد الأحادية القطبية


وكان من جملة ما قاله الرئيس الأمريكي بخصوص الحرب الأوكرانية أنهم كانوا قد حضّروا لهذه العقوبات الاقتصادية على روسيا منذ أشهرٍ، وبأن بوتين ربما يكون قادراً على تحقيق إنجازٍ عسكريٍ في أوكرانيا، لكن العقوبات الاقتصادية التي فرضوها على روسيا ستؤدي إلى شلّ الاقتصاد الروسي على المدى المتوسط. وفي هذا الكلام إشارةٌ إلى أن الأمريكي كان يعد العدة لشن حربٍ اقتصاديةٍ ممتدةٍ على روسيا، على غرار الحرب التي يخوضها ضد إيران وكوريا الشمالية، وفيه أيضاً إشارةٌ إلى كون أمريكا تتعامل مع سقوط أوكرانيا على أنه احتمالٌ مرجحٌ، فما معنى قول بايدن بأن بوتين ربما يكون قادراً على تحقيق إنجازٍ عسكريٍ في أوكرانيا؟

ويمكن الاستخلاص من مجموع هذه التصريحات، التي صدرت عن كلا الطرفين، أنهما يريان في الحرب الأوكرانية معركةً أولى ضمن اشتباكٍ أوسع مدى، وأطول زمناً، حول مستقبل ونفوذ حلف شمال الأطلسي في أوروبا، وبالتالي حول النفوذ الأمريكي وهيمنته العالمية، وتباعاً حول شكل وطبيعة النظام العالمي ما بعد الأحادية القطبية.

يبدو أن الغرب يدرك في العمق معنى الاشتباك الذي بدأ من أوكرانيا، ومدى عمق التحولات التي يمكن أن يشهدها العالم بناءً على نتائج هذه المواجهة التي ستكون طويلة نسبياً. فلعلّ هذا ما يفسر تكتل كل المنظومة الغربية في الحرب الدائرة اليوم


لكنه من الممكن أيضاً النظر إلى الاشتباك الذي بدأ من أوكرانيا، على أنه اشتباكٌ بين الشرق الصاعد، وبين المنظومة الغربية التي بدأت بالأفول في كُلِّيَتها. فعلى عكس الحرب الباردة إبان حقبة الاتحاد السوفييتي، نجد اليوم الصين وروسيا تتوضعان في جبهةٍ واحدةٍ، بالإضافة إلى وجود لاعبٍ إقليميٍ رئيس في المعادلة، يتمثل في إيران وحركات المقاومة العربية والإسلامية، هذا المحور الذي أنهك بحقٍ الولايات المتحدة الأمريكية في منطقتيّ المشرق العربي ووسط آسيا، وأفشل مشاريعها على طوال العقود الثلاثة الماضية منذ احتلال العراق.

ويبدو أن الغرب يدرك في العمق معنى الاشتباك الذي بدأ من أوكرانيا، ومدى عمق التحولات التي يمكن أن يشهدها العالم بناءً على نتائج هذه المواجهة التي ستكون طويلة نسبياً. فلعلّ هذا ما يفسر تكتل كل المنظومة الغربية في الحرب الدائرة اليوم، حتى أننا وجدنا دولاً كفنلندا والسويد وحتى سويسرا، تنضم للمعركة الدائرة، على عكس ما كانت عليه في حقبة الحرب الباردة، هذا ناهيك عن ردة الفعل الغربية الهستيرية في مواجهة روسيا، التي لم توفر حتى القطط والشجر وكُتُب الأدب الروسي!

فهل دار الزمان دورته؟ وهل بدأ بالفعل انتقال مركز القوة من الغرب إلى الشرق كما كان عليه الحال حتى القرن السادس عشر؟

كثيرةٌ هي المعطيات التي تشير إلى هذا بالفعل.

مراهنةٌ صهيونيةٌ خاسرةٌ على المركزي الفلسطيني


الاربعاء 23 شباط 2022

المصدر: الميادين نت

عمرو علان 

جاء اجتماع المركزي ليُرتِّب مرحلة ما بعد محمود عباس، وليُسهِّل وصول رموز التعاون مع الاحتلال – على شاكلة ماجد فرج وحسين الشيخ – إلى قمَّة الهرم في سلطة أوسلو بعد غيابه.

في البدء، كان القرار الفلسطيني المستقل. حُكي آنذاك: يحصل هذا الأمر حتى لا يقدّم النظام الرسمي العربي تنازلاتٍ للكيان الصهيوني من دون اعتبارٍ لأصحاب الحق الأصيل، فصار بعد ذلك شعار النظام الرسمي العربي: نقبل بما يقبل به الفلسطينيون. 

يَخشَى الكيان الصهيوني على استقرار سلطة أوسلو بعد غياب عباس

ومن دون الدخول في نقاشٍ حول وجاهة نظر من قال بفكرة القرار الفلسطيني المستقل، قامت بعد ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، “الممثل الشرعي والوحيد” للشعب الفلسطيني، بالتوقيع على أوسلو، معترفةً بالكيان الغاصب، ومتنازلةً عن 87% من الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة، وتاركةً في مهب الريح مصير ذاك الجزء من الشعب الفلسطيني الذي هُجِّر من دياره في العام 1948، وهي تنازلاتٌ ما كان ليجرؤ النظام الرسمي العربي على تقديمها، لتتوالى بعد ذلك حفلات الاعتراف العربية الرسمية بالكيان الغاصب، ولسان حالهم يقول: لن نكون ملكيين أكثر من الملك.

وفي خضمّ هذا كلّه، كانت مساعي الهيمنة على قرار منظمة التحرير الفلسطينية مستمرةً من قبل حركة “فتح”، وكانت تُحقِّق تقدماً، لتُختزَل منظمة التحرير الفلسطينية في فصيلٍ فلسطينيٍ واحدٍ بدلاً من أن تكون ممثلاً للكلِّ الفلسطيني.

وفي إثر دخول منظمة التحرير الفلسطينية مرحلة أوسلو – المقيتة الذكر – أُنشئت سلطة الحكم الذاتي المسماة السلطة الفلسطينية، ليدخل الوضع الفلسطيني مرحلة أخرى من الانحدار، حتى وصلنا إلى أن يتآمر على أبو عمار، زعيم حركة “فتح” ومؤسّسها، بعضٌ من بطانته، كي يغتاله الإسرائيلي بالسمّ، في جريمة اغتيالٍ تجاهلتها السلطة، مبرّئةً بذلك الإسرائيلي منها.

بعدها، تولى محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، ليبدأ باختزال كلٍّ من منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح” ذاتها بسلطة أوسلو. وقد نجح في ذلك نجاحاً تحسده عليه كل الأنظمة العربية! فقد أجهز على ما كان قد بقي من منظمة التحرير الفلسطينية، وحوَّله فعلياً إلى مجرد اسمٍ ليس له كيانٌ حقيقيٌ في أرض الواقع، يستحضره كختمٍ متى احتاج إليه.

ليس هذا فحسب، فقد نجح عباس في الانحدار بسلطة أوسلو إلى دركٍ تفوَّق فيه على فصائل السلام وروابط القرى مجتمعين، فما معنى أن يصير التخابر مع العدو من أجل حراسة المستوطنات في الضفة، وتأمين المغتصَبات في فلسطين 48، والسهر على أمن قُطعان المستوطنين فيهما وراحتهم، واجباً “مقدَّساً” عند محمود عباس وسلطة أوسلو؟

واليوم، جاء اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الأخير الذي عُقِد في 6 شباط/فبراير 2022، ليشكّل سقطةً جديدةً في مسار هذا التدهور المستمر، فطامة الشعب الفلسطيني لا تنحصر في إصرار عباس على عقد اجتماع المركزي فحسب، رغم مقاطعة الأغلبية الفلسطينية له، إذ قاطعه كلٌ من حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، إضافةً إلى عدم رضا أجنحةٍ من حركة “فتح” ذاتها، بل كانت الطامة الكبرى في المغزى من عقد هذا الاجتماع، وفي مخرجاته التي كانت معروفةً مسبقاً.

يَخشَى الكيان الصهيوني على استقرار سلطة أوسلو بعد غياب عباس، بسبب التجاذبات الحادة في أوساط حركة “فتح”، ولا سيّما بعد فقدان السلطة وفريق التنسيق الأمني فيها الكثير من شعبيتهما عقب معركة “سيف القدس”، وبسبب تغول السلطة في التعاون مع الاحتلال ضد المقاومين الفلسطينيين ومصالح الشعب الفلسطيني، ففي استمرار التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني مصلحةٌ عليا للاحتلال وحفظٌ لأمن المستوطنات والمستوطنين.

وقد جاء اجتماع المركزي ليُرتِّب مرحلة ما بعد محمود عباس، وليُسهِّل وصول رموز التعاون مع الاحتلال – على شاكلة ماجد فرج وحسين الشيخ – إلى قمَّة الهرم في سلطة أوسلو بعد غيابه. حصل كل هذا برضا الاحتلال ومباركته، إذ عُيَّن حسين الشيخ، الأكثر التزاماً بنهج التنسيق الأمني، في منصب أمين سر اللجنة التنفيذية، ما يمهد الطريق أمامه لرئاسة سلطة أوسلو مستقبلاً. وهكذا، وصلنا إلى اختزال سلطة أوسلو أيضاً بفريق التنسيق الأمني، وتم ترتيب القيادة لمرحلة ما بعد محمود عباس برضا الاحتلال ومباركته!

لكن ما غاب عن حسابات الصهاينة في رهانهم على مجموعة التنسيق الأمني هو وجود شعبٍ فلسطينيٍ حيّ ضاق ذرعاً بسلطةٍ باتت نسخةً مكررةً من جيش “لحد” بصورةٍ مفضوحةٍ. ولا أدلّ على وصول الشارع الفلسطيني إلى هذه الحالة إلا عمليات إطلاق النار التي قام بها مؤخراً مقاومون من كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة “فتح” ذاتها، ناهيك بفصائل المقاومة الفلسطينية المتمسكة بخيار المقاومة في الأساس.

وكان البيان المشترك الَّذي صدر عقب اجتماع المجلس المركزي عن حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، والذي رفض الاعتراف بشرعية انعقاد المجلس المركزي وقراراته، ودعا إلى تشكيل قيادة موحدة للمقاومة الشعبية، مؤشراً على شكل المرحلة القادمة.

وغاب كذلك عن حسابات الصهاينة تبدُل أحوال الإقليم، واختلال موازين القوى فيه لمصلحة حركات المقاومة العربية والإسلامية في عدة ساحاتٍ، وتراجع السطوة الأميركية في الإقليم والعالم عموماً، ما يشكِّل رافعةً لحركات المقاومة في الداخل الفلسطيني، ويجعل الرهان الإسرائيلي على استمرار سلطة أوسلو بما وصلت إليه رهاناً خاسراً.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

القمة الصينية الروسية.. ولادة عالَمٍ جديدٍ

الثلاثاء 14شباط 2021

عمرو علان

القمّة الصينية الروسية الأخيرة جاءت استثنائيةً في توقيتها ومضامينها وبيانها الختامي، وهي تشير بما نتج عنها إلى تبلور معسكرٍ في مقابل معسكرٍ غربيٍ استعماريٍ تقليديٍ.

البيان الختامي للقمة تناول في 5000 كلمةٍ العديد من القضايا

عقب قمة الرئيسين الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين الثنائية، التي عُقِدت في 4 شباط/فبراير 2022، على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي تستضيفها الصين هذا الشهر، صدر بيانٌ ختاميٌ مشتركٌ، كما جرت العادة في القمم، لكنْ تميَّز هذا البيان الختامي في كونه جاء مفصلاً وشاملاً، إذ إنه أسَّس لمرحلة تعاونٍ صينيٍ روسيٍ مستقبليةٍ تمتدّ لسنواتٍ أو ربما لعقودٍ، فقد تناول في 5000 كلمةٍ عدة قضايا، كان من بينها:

صفقات استراتيجية في عدة حقول رئيسية، كالطاقة وتكنولوجيا الفضاء.

تنسيق مواقف البلدين تجاه قضايا الأمن الإقليمي الراهنة والمستقبلية في أوروبا ومنطقة الإندو باسيفيك.

أفكار وإشارات حول مرتكزات النظام العالمي ومستقبله، بحسب الرؤية الصينية الروسية.

صفقات استراتيجية

كشف الرئيس بوتين عن عدة مشاريع روسيةٍ صينيةٍ جديدةٍ في مجال الطاقة، من بينها صفقة تزود بموجبها روسيا الصين بعشرة بليون مترٍ مكعبٍ من الغاز سنوياً، وذلك عبر خطّ أنابيبَ جديد، ما يجعل الصين المستورد الأكبر للغاز الروسي، إضافة إلى تواتر أنباء عن أنّ شركة الطاقة الروسية العملاقة “روسنيفت” المملوكة للحكومة، ستصدّر 25% من مجمل إنتاجها النفطي للصين. 

من شأن هذه الاتفاقيات الطويلة الأمد والاستراتيجية تأمين الاستقرار في سوق الطاقة لكلا البلدين، الصين وروسيا على حدٍ سواء، وذلك في مواجهة تقلّبات سوق الطاقة العالمي التي تهدد أوروبا وآسيا. وفي هذا كلّه تدعيمٌ للتكامل الروسي الصيني في مجال الطاقة، الذي يعدّ أحد أهم المجالات الحيوية لدى الدول.

أما في مجال الفضاء، فقد وقَّعت كلٌ من الشركتين الصينية “بيدو” والروسية “جلوناسس” اللتين تديران “أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية” الصينية والروسية، على اتفاقيةٍ جديدةٍ تزيد مدى التعاون بين النظامين الصيني والروسي، ليصل إلى حدّ التكامل بينهما.

تأتي هذه الاتفاقية الجديدة لتبني على الاتفاقية المسماة “التعاون للأغراض السلمية لنظامي بيدو وجلوناسس” والتي وقَّعت عليها الصين وروسيا في العام 2018.

وتتيح الاتفاقية الجديدة للنظامين الصيني والروسي مزيداً من التكامل والاستمرارية في حالتي السلم والحرب، إذ سيتمّ استخدام النظام المتكامل للأغراض العسكرية والمدنية على حدٍّ سواء، ناهيك بكون التكامل بين النظامين الصيني والروسي يعطي دقّة لا يتجاوز فيها هامش الخطأ 1.2 متر فقط، على عكس نظام التموضع العالمي “<ج بي أس” الأميركي الذي يتراوح هامش الخطأ فيه بين 5 و10 أمتار.

تنسيق المواقف

أما تنسيق المواقف بين البلدين تجاه القضايا الأمنيّة، كما جاء في البيان الختامي، فكان أبرزه يتمثل برفض روسيا القاطع استقلالَ جزيرة تايوان عن جمهورية الصين الشعبية. في المقابل، رفضت الصين مساعي حلف شمال الأطلسي التوسع في أوروبا من دون مراعاة المخاوف الأمنية الروسية، وذلك في إشارةٍ إلى تأييد الموقف الروسي في الأزمة الروسية الأميركية الراهنة حول أوكرانيا. 

كما نسَّق البيان الختامي مواقف البلدين تجاه قضايا أمنيةٍ أساسيةٍ أخرى في منطقة الإندو باسيفيك والقارة الأوروبية، كالمواقف من حلف “أوكوس” ، والحوار الأمني الرباعي المسمى “كواد” (Quad)، وقضايا أخرى.

رؤية الصين وروسيا إلى النظام العالمي

ما تَقدَّم من أمثلةٍ على بعض ما جاء في بيان القمة الختامي من صفقات استراتيجية وتنسيق لرؤى البلدين حول قضايا أساسيةٍ راهنةٍ في الجغرافيا السياسية، يعطي فكرةً عن الخطوات العملية والملموسة التي اتفق عليها العملاق الاقتصادي الصيني مع شريكه العملاق العسكري الروسي، للدفع نحو تطبيق رؤيتهما للنظام العالمي، والتي تقوم على فكرة أنّ العالم يخرج من مرحلة الهيمنة الأميركية الأحادية الجانب وتسلُّط فكر العولمة الليبرالية على العلاقات الدولية، ليدخل مرحلة التعددية القطبية، واحترام سيادة الدول، وحقّها بتقرير مصيرها وصياغة نُظُمِها السياسية والاقتصادية بما يتماشى مع موروث شعوبها الحضاري، إذ ترى الصين وروسيا أنَّ العلاقات الدولية تدخل حقبة جديدة. وكانت هذه الرؤية واضحةً في عدة فقراتٍ في البيان، وفي روح اللغة المستخدمة فيه عموماً.

جاء في مقدِّمة البيان: “يمرّ العالم اليوم بتغيراتٍ بالغة الأهمية، فالبشرية تدخل مرحلةً جديدةً من التقدم السريع والتحولات العميقة، وترى هذه الظواهر في التعددية القطبية، وعولمة الاقتصاد، وحلول عصر المجتمع المعلوماتي، وتنوع الثقافات، وتحوّل بنية إدارة الشؤون العالمية والنظام العالمي، ويشهد العالم زيادةً في مستوى الترابط والتكامل بين الدول، وتوجهاً لإعادة توزيع القوة حول العالم”. وتبرز جلياً في هذه المقدِّمة الإشارة الواضحة إلى نظام عالمي يقوم على التعددية القطبية وإعادة توزيع القوة بين الدول على رقعة العالم. 

وتمضي مقدِّمة البيان ليتّضح المعنى أكثر، إذ يشير بعد ذلك إلى زيادة التحديات والمخاطر الأمنية على المستويين الدولي والإقليمي، ويضيف: “يستمرّ بعض اللاعبين الذين لا يمثلون سوى الأقلية على مستوى المجتمع الدولي بالتسويق للنهج الأحادي في معالجة القضايا الدولية، عبر اللجوء إلى القوة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، منتهكين بذلك حقوق تلك الدول ومصالحها المشروعة، ومثيرين القلاقل والخلافات، ما يعرقل تطور البشرية، في تحدٍ للمجتمع الدولي”، وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إلى الولايات المتحدة الأميركية ونهجها الذي يرتكز على الأحادية القطبية، لكن من دون ذكر اسمها صراحةً. 

وتتكرّر هذه الإشارات إلى الولايات المتحدة الأميركية، وإلى سعيها للهيمنة على دول العالم في عدة مواضعَ من البيان، فيشير البيان في إحدى الفقرات إلى عدم وجود وصفة واحدة لتطبيق الديمقراطية، بل إنَّ الشعوب وحدها تملك الحق بالحكم على نظامها السياسي إذا ما كان ديمقراطياً، ويعود لكلِّ شعبٍ حقّ اجتراح الطرق الأصلح له من أجل تطبيق الديمقراطية، بما يتماشى ونظامه السياسي والاجتماعي وخلفيته التاريخية وتقاليده وثقافته المميزة.

في المحصّلة، جاءت القمّة الصينية الروسية الثنائية استثنائيةً في توقيتها ومضامينها وبيانها الختامي، فكما عبَّر الرئيس بوتين عن أنَّ روسيا والصين تمران بمرحلة غير مسبوقة من الصداقة والتعاون في كلِّ المجالات من دون سقوف، يشير حجم الصفقات الموقعة وطبيعتها الاستراتيجية، إضافة إلى التصور الذي قدمته القمة حول مستقبل النظام العالمي الذي يتم العمل على ترسيخه، إلى تبلور معسكرٍ في مقابل معسكرٍ غربيٍ استعماريٍ تقليديٍ يضمّ “لاعبين لا يمثلون سوى أقليةٍ على مستوى المجتمع الدولي”، بحسب وصف البيان.

وغالب الظنّ أنَّ هذا المعسكر الناشئ سيكون جاذباً لأعضاء جددٍ، سواء أكانوا من العالم الإسلامي التواق إلى التخلص من الهيمنة الغربية، أم من بعض دول أميركا اللاتينية، أم من دولٍ أفريقيةٍ، حيث توسَّع النفوذ الصيني، كما الروسي، لكن بدرجةٍ أقل.

لكن لا يجب الخلط بين طبيعة هذا المعسكر الناشئ وما كان عليه حال المعسكر الاشتراكي إبان حقبة الاتحاد السوفياتي، فدينامية العلاقات الدولية وبُنية إدارة الشؤون العالمية الحاكمة لهذا المعسكر تنبثق من ركيزتين أساسيتين: تعددية الأقطاب، واحترام خصوصية كلّ شعب في تقرير شكل نظامه السياسي والاقتصادي بما يراه مناسباً.

إذاً، شيّدت الصين وروسيا الهيكلية لمعسكرٍ ناشئٍ وواعدٍ، وتبقى العِبرة في حُسْن التطبيق، وفي عدم تضارب المصالح بين القطبين الشريكين، جراء تبايناتٍ محتملةٍ في بعض الساحات، ولا سيما في منطقتي وسط آسيا وشرق أوروبا، لأنَّ روسيا تستمد حضورها الدولي من كونها عملاقاً عسكرياً، ما يمكن أن يجعلها تستخدم القوة لتثبيت موقعها الدولي في بعض الساحات، بما يتعارض ومصالح الصين التي ترتكز على كونها عملاقاً اقتصادياً.

ورغم هذه التخوفات، ولمحاولة استشراف مستقبل كِلَا المعسكرين، يكفي النظر إلى حجم مخرجات القمة الصينية الروسية وطبيعتها، ومقارنتها بنتائج قمة جو بايدن “من أجل الديمقراطية”، التي جاءت باهتةً وهزيلةً بكل المعايير، ولا سيما بعد نفور الكثيرين حول العالم من الأيديولوجية الليبرالية التي ما انفكت تروج لكلِّ أشكال الموبقات، من ترويجٍ للشذوذ الذي يضرب المجتمعات عبر هدم مفهوم العلاقات الإنسانيّة والأسرة السويَّة، إلى استنزاف موارد كوكب الأرض، إلى الحدّ الذي باتت معه استمرارية الحياة البشرية موضع تساؤلٍ. يلخّص الفيلسوف ألكسندر دوغين نتائج القمة الصينية الروسية بالقول: “المستقبل بالتأكيد للتعددية القطبية… عالَمٌ جديدٌ قد وُلِد”.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

ديمقراطية أميركا بمثابة سلاح دمارٍ شاملٍ

الخميس 16 كانون الأول

المصدر: الميادين نت

لقد بشَّر بايدن الأميركيين والعالم بأنَّ “أميركا عائدة” في فترته الرئاسية

عمرو علان

كاتب وباحث سياسي في العديد من المنافذ الإخبارية العربية ، ومنها جريدة الأخبار ، وقناة الميادين الإخبارية الفضائية ، وعربي 21 ، وراي اليوم

في ظلِّ انشغال الأوروبيين بقضاياهم الداخلية الضّاغطة، إضافةً إلى تزامن قمة بايدن “للديمقراطية” مع المؤتمر الشعبي المؤتمر عن مستقبل أوروبا، تراجَع بشكلٍ عام الاهتمام الأوروبي بالقمة.

في مقاله الشَّهير “لماذا يجب على أميركا أن تقود مجدداً؟”، الذي نُشِر في آذار/مارس 2020 قبيل خوضه السباق الرئاسي، والذي رسم فيه جو بايدن معالم سياسته الخارجية في حال انتخابه، كان بايدن قد ركّز على فكرة كون العالم يخوض معركة “الديمقراطية” ضد “الأوتوقراطية”، بحسب فهمه. وكان من أبرز ما طرحه في مقاله ذاك، عزمه على عقد مؤتمر دولي بقيادة أميركا لدعم “الديمقراطية” وتعزيزها حول العالم.

ولعلّ القمة من أجل “الديمقراطية” التي عقدها في 9 و10 كانون الأول/ديسمبر 2021 هي ذاك المؤتمر الذي بشَّر به في مقاله المذكور، فهل جاءت قمة “الديمقراطية” ونتائجها كما بشَّر بها العالم إبان انتخابه؟

دعت الإدارة الأميركية أكثر من 100 دولة إلى قمة بايدن، لكننا نجد غياباً كاملاً لأي معايير في توجيه الدعوات، فحتى لو سلَّمنا للأميركي بمعاييره المفترضة وشهادات حسن السلوك التي خوّل نفسه توزيعها في “الديمقراطية” والحُكْم الرشيد من خلال مؤسسة “فريدام هاوس”، فإننا نجد تناقضاً واضحاً في قائمة المدعوين، فقد تمت دعوة العراق وباكستان والهند وأكرانيا مثلاً، بينما لم تتم دعوة سنغافورة، ولا تركيا وهنغاريا الأطلسيتين، ناهيك بعدم دعوة روسيا وإيران، رغم تنظيمهما انتخابات دورية وحقيقية. 

ولهذا، كان واضحاً من قائمة المدعوّين أنَّ الأميركي يتغطّى مجدداً بقضية “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” من أجل أهدافٍ جيوسياسيةٍ تتعلق بمواجهة الصين. أكّد هذا الاستنتاج الذي ذهب إليه غالبية المتابعين، دعوة تايوان إلى القمة، رغم أنها ليست دولةً مستقلةً. 

على الأرجح، كان هذا الاستنتاج هو ما دفع باكستان إلى الاعتذار عن حضور قمة بايدن، إذ قال رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، في 9 كانون الأول/ديسمبر 2021، إنَّ باكستان غير راغبةٍ في الانضمام إلى أيّ تجمعٍ سياسيٍ ضد أحدٍ، وإنَّ العالم عانى الكثير من الحرب الباردة، وإن دولته لا ترغب في أن تجد نفسها جزءاً من حربٍ باردةٍ جديدةٍ. 

وجاء موقف روسيا والصين حازماً تجاه قمة بايدن، إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا: “تقوم الولايات المتحدة بتدمير نظام العلاقات الدولية المؤسسة على القانون الدولي والدور المركزي للأمم المتحدة، وذلك من أجل إنشاء منطقة راحة خاصة بها تنوي واشنطن أن تهيمن فيها بانفراد…”. ولهذا السبب بالذات، تنظّم الولايات المتحدة هذه الفعالية الجماعية في شكل “قمة الديمقراطية”، التي ستمنح المشاركين فيها شرف حق خدمة المصالح الأميركية.

أما الصين، فقال المتحدث باسم وزارة خارجيتها إن الديمقراطية أصبحت منذ فترةٍ طويلةٍ سلاح دمارٍ شاملٍ تستخدمه الولايات المتحدة للتدخل في الدول الأخرى، مشيراً إلى الثورات الملونة التي أثارتها أميركا في الخارج، وتابع كلامه بالقول: “إن القمّة نُظّمت لرسم خطوط تحاملٍ أيديولوجيةٍ، واستغلال الديمقراطية… والتحريض على الانقسام والمواجهة”.

إذاً، ما كان الهدف الحقيقي من قمة بايدن – كما بات واضحاً للقاصي والداني في دول العالم – إلا مواجهة صعود الصين في الدرجة الأولى، والتصدي لعودة روسيا إلى الساحة الدولية في الدرجة الثانية. 

عندها، لا حرج إذا قيل إنَّ القمة لم تحقق الكثير على هذا الصعيد، فاستبعاد دول مثل سنغافورة، التي تقع في المجال الحيوي للصين، والتي يمكن أن يكون لها دور كبير ضمن استراتيجية أميركا لمواجهة الصين، لا يبدو خطوةً أميركيةً في الاتجاه الصحيح.

ولعلَّ استبعاد سنغافورة كان في الأساس بسبب رفض رئيس الوزراء السنغافوري الدخول في تحالف من أجل “الديمقراطية”، يكون الهدف الحقيقي منه الدخول في حربٍ باردةٍ جديدةٍ ضد الصين، ولا يبدو كذلك استبعاد تركيا ومصر، الدولتين الإقليميتين المهمتين، خطوة أميركية محسوبة، فكما قال ستيفن وولت في مقاله بعنوان “قمة بايدن للديمقراطية يمكن أن تأتي بنتائج عكسية”: “إذا ما كانت الصين تعدّ التحدي المركزي للولايات المتحدة الأميركية في هذه المرحلة، فإن التركيز على الديمقراطية يمكن ألّا يكون الطريق الأمثل لمواجهة هذا التحدي”.

أما عن حضور أوروبا في هذه القمة، فرغم تصريحات ممثل السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوسيب بوريل، التي حثَّت الدول الأوروبية على المشاركة البنَّاءة في قمة بايدن، فإنَّ مصالح أوروبا لا تبدو متطابقة مع الولايات المتحدة الأميركية تجاه الصين في هذه المرحلة، ولا سيما في ظل جائحة “كوفيد-19” والتغيّر المناخي، إضافة إلى صعود الصين كقطب اقتصادي مهم لدول العالم، فكما أوضحت إيرين جونز وإليسا ليدو في مؤسسة كارنيغي للأبحاث: “تسود أوروبا تحفّظات على عودة أميركا لقيادة العالم، إذ يشير مصطلح “الاستقلال الاستراتيجي” الذي يُعد الأكثر رواجاً في أوروبا في هذه الحقبة إلى مَنحى أوروبيّ للخلاص من الخيار بين قيادة واشنطن أو بكين”.

وأضافت جونز وليدو أنَّ البعض في أوروبا يرى أنَّ تقسيم بايدن لدول العالم بين دول “ديمقراطية” يمكن التعامل معها، وأخرى “غير ديمقراطية” لا تصلح للتعامل معها، لا يأخذ بالحسبان تعقيدات العالم في هذه الحقبة.

وفي ظلِّ انشغال الأوروبيين بقضاياهم الداخلية الضّاغطة، إضافةً إلى تزامن قمة بايدن “للديمقراطية” مع المؤتمر الشعبي المؤتمر عن مستقبل أوروبا، تراجَع بشكلٍ عام الاهتمام الأوروبي بالقمة، في إشارةٍ إلى تراجع أهمية هذه القمة على المستوى العالمي.

لقد بشَّر بايدن الأميركيين والعالم بأنَّ “أميركا عائدة” في فترته الرئاسية، وكان العمل على تعزيز ما سمّاه “الديمقراطية” في العالم ومواجهة “الأوتوقراطية”، من خلال عقد قمّة عالمية لهذا الغرض، بحيث تكون فاتحةً لمسار جديد تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وكلنا يدرك أنَّ هذه العبارات تخفي وراءها هدف مواجهة صعود الصين كقطب عالميّ، واستعادة روسيا مكانتها كقطب دولي آخر، فإذا بنا نجد بايدن يعقد قمة عن بُعد، رأى فيها الكثيرون مجرد استعراض لقيادةٍ أميركيةٍ عالميةٍ لم تَعُدْ موجودةً بالفعل، وظهر أنها كانت موجهةً إلى الداخل الأميركي أكثر من الخارج، وذلك، كما يبدو، في محاولةٍ لطمأنة الداخل الأميركي إلى موقع أميركا العالمي.

ولكنَّ المفارقة كانت في عقد أميركا مؤتمراً من أجل “الديمقراطية” عقب شهورٍ قليلةٍ فقط على إعلانها فشل مشروعها المزعوم لترسيخ ديمقراطيتها في أفغانستان، وعقب تزايد الحديث عن تراجع “الديمقراطية” في الداخل الأميركي ذاته، وذلك في ظلِّ عدم اعتراف قطاعٍ واسعٍ من بين الجمهوريين بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة.

في ظلِّ تراجع الإمبراطوريات، يبدو أنَّنا سنبدأ بسماع الكثير من الجعجعة من دون رؤية الطحين. ولا أريد المبالغة كثيراً، لكنَّ قمة بايدن الأخيرة هذه تذكِّر بالقمم العربية التي لم يكن ينتج منها سوى البيانات، من دون أية نتائج عمليةٍ على أرض الواقع.إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

“حماس” في قائمة الإرهاب البريطانية.. فلماذا الآن؟

السبت 27 تشرين ثاني 2021

المصدر: الميادين نت

عمرو علان

كاتب وباحث سياسي في العديد من المنافذ الإخبارية العربية ، ومنها جريدة الأخبار ، وقناة الميادين الإخبارية الفضائية ، وعربي 21 ، وراي اليوم

يُثبت الغرب أنه في تعاطيه مع المنظمات الفلسطينية ينطلق من ثابتة مفادها محاولة تجريد الفلسطينيين من أيّ أوراق قوةٍ يتيسّر لهم الحصول عليها في مواجهة الكيان الغاصب.

جاء إعلان الحكومة البريطانية عزمها على تصنيف حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بكاملها “منظمةً إرهابيةً” أمراً مستغرباً وخارج السياق، في نظرة أوّلية. فرغم السياسات البريطانية المعادية عموماً للقضايا العربية، تاريخياً وحاضراً، ورغم كون بريطانيا قد صنّفت منذ حين الذراع العسكرية لحركة “حماس”، “منظمةً إرهابيةً”، جاء إعلان وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتل، عن سعيها لصبغ حركة “حماس” بكاملها بصبغة الإرهاب من دون أيّ مقدمات، فماذا إذن وراء الأكمة؟ وكيف ينبغي لحركة “حماس” وسائر فصائل المقاومة الفلسطينية عموماً التعامل مع هذه المسألة وشبيهاتها؟ 

يُعَدّ الإجماع الذي تَشكَّل فلسطينياً على إدانة المسعى البريطاني أمراً مبشّراً 

لنستذكر بدايةً المسعى الذي قاده رئيس الوزراء البريطاني الأسبق – السيّئ الذكر – توني بلير أواسط العَقْد الماضي مع حركة “حماس”، ذاك المسعى الذي حاول من خلاله انتزاع تنازلاتٍ من حركة “حماس” في الثوابت الفلسطينية، وإقناعها بإدخال تغييرات في نهجها المقاوم، وكان ذلك من خلال تقديم مغرياتٍ للحركة على شاكلة وعودٍ بفتح قنوات تواصلٍ مع مؤسساتٍ وشخصياتٍ برلمانيةٍ أوروبيةٍ، تفضي إلى فتح قنوات تواصلٍ مع الحكومات الأوروبية وحصول الحركة على اعترافٍ غربيٍ بها. 

وعلى إثر مسعى بلير ذاك، كانت الحركة قد أصدرت ما بات يُعرف “بوثيقة حماس”، التي رغم تخفيف الحركة من حدّة لهجتها التقليدية فيها، واستخدامها في المقابل لغةً حمّالةَ أوجهٍ، لم تتضمن الوثيقة تعديلاً جوهرياً في مبادئ الحركة، وبهذا فشل مسعى بلير وجزَرتُه في تحقيق المراد الغربي والصهيوني منهما، ومن ثم عاد بعد ذلك الاحتلال إلى أسلوب العصا من أجل كسر شوكة المقاومة الفلسطينية، حتى جاءت معركة “سيف القدس” التي فاجأت فيها المقاومة الفلسطينية – وفي طليعتها كتائب الشهيد عز الدين القسام – العالم بمدى الاقتدار الذي وصلت إليه تسليحاً وتنظيماً وتكتيكاً، وحققت فيها المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة “حماس” نقلةً نوعيةً في مسار مجابهة المحتل، وفرضت فيها حركة “حماس” نفسها لاعباً رئيساً في الساحة الفلسطينية – وحتى في الإقليم بقدرٍ ما – لكونها الفصيل المقاوم الأكبر والأكثر انتشاراً في الشارع الفلسطيني. 

ويضع البعض مسعى الحكومة البريطانية المستجد في سياق معاقبة حركة “حماس” على هذا الإنجاز، وفي سياق المحاولات الصهيونية لتفريغ الإنجاز الاستراتيجي الذي تحقق في “سيف القدس” من محتواه؛ فما رشح من مسار المباحثات الراهنة حول إعادة إعمار قطاع غزة المحاصر، يشي بزيادة الضغوط على حركة “حماس” من ناحية، وبتقديم المغريات المادية لها في إطار إعادة الإعمار من ناحية مقابِلة، وذلك بالتنسيق مع بريطانيا وأميركا وبعض الدول العربية بكل أسف. فالمطروح اليوم على الشعب الفلسطيني وفصائله المقاوِمة لا يعدو كونه مقايضة الأرض والحقوق الفلسطينية المغتصبة بالغذاء والمساعدات المادية، وهذا أمرٌ جُرِّب مع الفلسطينيين في الماضي ولم ينجح، فهل ينجح اليوم بعدما بات للفلسطينيين سيفٌ ودرعٌ، كما ثبت عملياً في معركة “سيف القدس”؟

لكن في العموم، سواء أكانت دوافع بريطانيا من وراء مسعاها تصنيف حركة “حماس” بكليتها “منظمةً إرهابيةً” الالتفاف على نتائج “سيف القدس” الاستراتيجية كما سلف، أم كانت دوافع أخرى بريطانيةً داخليةً محضةً، ففي كل الأحوال فإنّ الخُلاصات والنتائج سيّان. 

مع كل منعطفٍ، يُثبت الغرب أنه في تعاطيه مع المنظمات الفلسطينية ينطلق من ثابتة مفادها محاولة تجريد الفلسطينيين من أيّ أوراق قوةٍ يتيسّر لهم الحصول عليها في مواجهة الكيان الغاصب، وتأتي المقاومة المسلحة المشروعة في رأس قائمة أوراق القوة الناجعة التي يمكن أن تمتلكها الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ويجيء المسعى البريطاني المستجد ضمن هذه الثابتة، واستمراراً لمساعي توني بلير السابقة، لكن بطريقة التهويل ورفع العصا هذه المرة، لذلك ينبغي على أي فصيل فلسطيني أخذ العبرة، وإدراك حقيقة أن الاعتراف الغربي لن يكون إلا بالتخلي عن نهج المقاومة سبيلاً للتحرير، وأن أيّ أثمانٍ أخرى يعرضها الفلسطيني لن تؤدي إلى قبول الغرب به، وهذه تجربة “م.ت.ف.” الكارثية على القضية الفلسطينية شاخصة أمامنا.

وبناءً عليه، تصير زيادة مراكمة القوة – كما حصل في “سيف القدس” – الطريق المفيد الوحيد أمام حركة “حماس” وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية لانتزاع حضورها في المعادلات الدولية، فمن يمسك بالأرض يفرض الشروط، بمعزل عن رضى الغرب عنه من عدمه، وهذه تجربة حركة طالبان التي حاربتها أميركا عقدين من الزمن، لتعود بعد ذلك إلى التفاوض معها بحسب معطيات الميدان، هذا بغض النظر عن تقييمنا لمسيرة حركة طالبان سلباً أو إيجاباً، وأيضاً أخذ العبرة ممّا جرى مع حركة المقاومة الإسلامية في لبنان، حزب الله، الذي يصنّفه الغرب “منظمةً إرهابيةً”، ولكن مع هذا وجدنا مبعوث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرغماً على لقاء ممثل الحزب، حينما أرادت فرنسا التوسط في تأليف الحكومة اللبنانية، وجرى اللقاء داخل حرم السفارة الفرنسية ذاتها في لبنان.

يُعَدّ الإجماع الذي تَشكَّل فلسطينياً على إدانة المسعى البريطاني أمراً مبشّراً يمكن البناء عليه، ولا ضير في التحرك الدبلوماسي الموسع الذي أعلن عنه رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية من أجل الحد من مفاعيل هذا التوجه البريطاني، لكن الردّ الناجع كان في عملية “باب السلسلة” الأخيرة، التي نفّذها الشهيد فادي أبو شخيدم، القيادي في حركة “حماس”، والتي كانت استمراراً لمعركة “سيف القدس”، كما وصفتها فصائل المقاومة الفلسطينية.

حماس تنعى الشهيد فادي أبو شخيدم منفذ عملية القدس المسلحة | البوابة

صحيحٌ أن هذه العملية لم تكن رداً مباشراً على مساعي بريطانيا مؤخّراً، إلا أن تصعيد العمل المقاوم في القدس والضفة الغربية، وتعزيز مفاعيل “سيف القدس” والبناء عليها، حتى الوصول إلى إشعال الانتفاضة الثالثة، بهدف إجبار الاحتلال على الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 من دون قيدٍ أو شرطٍ، تُعَدّ الطريق الأقصر إلى استعادة بعض من الحقوق الفلسطينية المسلوبة، وإبطال مفاعيل مثل هذه المساعي، من بريطانيا وغيرها. 

هذا كان على صعيد الداخل الفلسطيني، أما على مستوى الخارج، فعلينا الإقرار بأنَّ هذه الخطوة البريطانية الجائرة ستضيف تعقيدات جديدة أمام التحركات الشعبية البريطانية المناصرة للحق الفلسطيني، على غرار التحركات التي شهدناها خلال معركة “سيف القدس”، وذلك إذا ما أخذنا في الحسبان التعقيدات القائمة فعلاً بسبب قوانين “معاداة السامية”، تلك القوانين التي يجري استغلالها بصورة فاضحة لحماية كيان الاحتلال من أيّ انتقادات أو محاسبة عن جرائمه ضد الفلسطينيين. فهل يُعقَل التفريق بين أيّ دعمٍ ذي معنى لحقوق شعبٍ تحت الاحتلال، وبين دعم حقه المشروع والأصيل في مقاومة هذا الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، وعلى رأسها المقاومة المسلحة؟

لكن في المحصّلة، يمكن للخارج تقديم ما يستطيع من دعم للداخل الفلسطيني ضمن المتاح في بيئته، وضمن مدى استعداد كل فرد للتضحية، شريطة أن لا يطلب الخارج من الداخل الفلسطيني الالتزام بالسقوف المنخفضة، فتبقى مواجهة المحتل على أرض فلسطين المحتلة وعلى باقي الأراضي العربية المحتلة هي الأصل، سواء أكان الاحتلال صهيونياً أم أميركياً.