العاهرة..

البناء

ينعتوني بـ»العاهرة» ويتمادون

يصفقون لـ»عهري» وعلى خاصرة ألمي يثملون

يرتشفون نشوى الذل وعليّ يتلهّفون

إن كُنتُم تروني «عاهرة» فقولوا عني ما تشاؤون

أنا «عاهرة « منذ مئة عام

منذ أن دفنتم رجولتكم وانتشلتم الذل سيفاً

حينما الوطن بعتم

وتقاعستم عن الحق

وبتم للجق والقيل والقال

صفات بلا فحوى الرجال..

عندما زاولتم مهنة الدجال

ونسيتم بأنكم رجال..

نعم أنا «عاهرة» منذ نعومة أظافري

منذ أن كانت أمي تشقى قبل الفجر

لعجن عجينة الأمل..

منذ أن كانت أختي تقصّ ضفائرها

لا تعي ما قاله ذاك الفتى المغوار في الحي..

منذ أن كان أبي يهتف لذاك السياسيّ في النهار

ويجلس في الليل يعدُّ ليرات الدَّين..

لا بل أنا «عاهرة» منذ أخبروا أمي أنت حامل بأنثى..

وكاد وجهها الكظيم يلامس الأرض

ولمَ لا وهي تحمل في أحشائها «عاهرة»..

ومنذ أن تلفظت بواء الحياة

تعلّمت «العهر» بتلك الصفات..

أتنعتونني بـ»العاهرة» لكوني

أحمل كتبي وأسير عكس المسير..

وأضيء شمعة لأنير مجلسي

وأترك لكم ذاك الضوء المثير..

وتتهامسون من حولي

يا لَـ»عهرها» تُدرك من الحياة الكثير..

تتبجّحون بالرجولة وتلصقون «العهر» في أسمائي..

ولكم ولعزّتكم وكرامتكم

كرّست ورسخت حياتي..

يا لَـ»عهركم» لا بل يا لَخبثكم

فـ»العهر» عفواً شرفي وأخلاقي..

فأنا «العاهرة» التي أنشدت البطولات..

وسجلت في التاريخ أساطير التضحيات..

أنا التي ما رضيت الذل يوماً

وتتلمذت على يد أمهاتي «العاهرات»..

أنا التي تألمت

وبكت

وضحكت

وأطعمت

وأشربت

وسهرت

وربت

وحضنت

وحملت

فأنا التي أنجبت رجالاً

لكنما ببغيهم

باتو «أشباه رجال»

لينعتوني بـ»العاهرة»

ويجرّدوني من ألف باء الحياة…

لكل إنسان في العالم وطنان، وطنه الأم وسورية لأن سورية أم الحضارات..

لكل إنسان وطنان.. أما للسوريين فلا
لكل إنسان وطنان.. أما للسوريين فلا
د. بشار الجعفري بالفرنسية: لكل إنسان وطنان.. بلده وسورية | محطة أخبار سورية

د. ادمون ملحم

قول باحث الآثار الفرنسي وعالم المسماريات الشهير، شارل فيرلو، وهو أول باحث آثار تولى فك رموز أبجديّة الأوغاريتيين المكتشفة في موقع أوغاريت في تل رأس شمرا قرب مدينة اللاذقية الساحلية، وهي أول وأكمل أبجدية في التاريخ وتعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. يقول: «لكل إنسان وطنان.. وطنه الأم وسورية».

وما دفع شارل فيرلو لإطلاق هذه العبارة هي معرفته بحضارة هذه البقعة الجغرافية المتميزة بخصوبة أرضها وإنسانها المصارع الذي كان سباقاً في اختراع الكتابة الأولى (الصورية ومن ثم المسمارية) وإنشاء المدرسة الأولى وإطلاق الشعاع الأول وممارسة الحياة الديمقراطية والإصلاح الاجتماعي وفي ابتداع أول برلمان..

أبجدية أوغاريتية

يحق للسوريين أينما كانوا أن يفتخروا ويعتزوا بأمتهم السورية لما أعطته للعالم من إسهامات حضارية إنسانيّة ولما يختزنه تاريخها الفكري – الثقافي –الروحي والسياسي والاجتماعي من فن وعلم وفلسفات وشرائع وملاحم وأساطير وعبقريات وبطولات وإنجازات.

يحق للسوريين أينما كانوا أن يعتزوا بأمتهم السورية التي كانت على مر الأزمنة والعصور، وما زالت، أمة معطاء، خيّرة، أعطت العالم العطاءات السخية من دون حساب وفتحت له دروب الخير والتعارف والتفاعل والسلام.

سورية، أمة العقل، وزّعت من حضارتها وأبجديتها ومعارفها وقيمها وجازفت بأبنائها ليكونوا رسل محبة وسلام ورواد علوم ومعرفة. جاءت بالرسالات السماوية والفلسفات الاجتماعية وإشعاعاتها الأولى: الشرائع التمدنية، ووزعتها على باقي الأمم لتكون منارات لها على دروب الفضيلة والعدالة والسلام. من رحمها ولدت المسيحية لتنسف صنميّتهم ووثنيّتهم الخرافية ولتفجّر ينابيع المحبة والرحمة والقيم الجديدة ومن أرجائها انطلقت المحمدية لتكمل رسالة الإسلام ولتحطم ما تبقى من أصنام وأوثان.

وتاريخ سورية القومي السياسي الثقافي حافل بالأمجاد والاكتشافات والمنجزات الحضارية.. وما أكثر الآثار التي اكتشفت في مناطق عديدة فيها (ليس في أوغاريت فقط، بل في إيبلا وماري وغيرها من الأماكن الأثريّة في لبنان وقبرص والعراق) التي تظهر إسهام أمتنا في الفكر الحضاري لا بل أسبقيتها على العالم في استنباط المآثر الحضارية في كافة شؤون الحياة ونشرها وتعميمها إلى سائر أصقاع الدنيا.

فقد شهدت بلادنا أقدم الحضارات وسبقت باقي الأمم في ممارسة الديمقراطية والمساواة بين البشر وفي وضع الشرائع والقوانين في كافة الأمور وتطبيقها (قانون أورنمو عام 2110 ق.م. وقانون لبت عشتار عام 1930 ق. م. وقانون ايشنونا عام 1850 ق. م. وتشريع حمورابي عام 1780 ق. م.) وفي ابتداع العلوم والفنون وممارسة الطب والعمليّات الجراحيّة ومسح الأراضي وحفر الأقنية وجرّ المياه وتخزينها في الآبار وإتقان الفنون الصناعية والخزفية وبناء القصور والمعابد والحصون ونحت التماثيل واعتماد الثورة وحروب التحرير والسعي الدائم لتحقيق وحدة جماعات البيئة الواحدة في دولة مركزية قوية وإنشاء المدارس والمعاهد التعليمية والمكتبات ووضع الفلسفات الاجتماعيّة المتسلّحة بالأدلة العقلية وممارسة مراسم وطقوس دينيّة تحمل في طياتها تفكيراً روحياً سامياً ودعوة الى المحبة والسلام.

ويكفي أن نقول إن أجدادنا السوريين كانوا رواداً في العديد من مجالات الحياة. فهم اكتشفوا النار والمعادن ودجّنوا الحيوانات والنباتات وابتكروا الزراعة واستصلحوا الأراضي واخترعوا الدولاب والمحراث والآلات وأنشأوا صناعات الفخار والخزف والأسلحة والغزل والنسيج والأصبغة وبدأوا الكتابة التي طوّروها من التصوير الى المسمارية الى اختراع الأحرف الهجائيّة التي علّموها لليونان ومن ثم نشروها في أوروبا وبقية العالم وأقدموا على دراسة الأجرام السماوية فوضعوا التقاويم وأسهموا في تأسيس «علم الفلك» وعرفوا التجارة ومارسوها في البر وفي البحر وأنشأوا العملة والأوزان والمقاييس وكانوا السبّاقين في طرح مشكلات فلسفيّة حول أصل الوجود وفي عبادة الإله الواحد «إيل» أو «بعل» أو أي اسم آخر نسبة الى المنطقة الجغرافية ولهجتها.

وفي مراحل تاريخ أمتنا تأسست المدن – الدول التاريخيّة كسومر وأكاد وبابل وماري وأشور ونينوى وآرام وكنعان وأنطاكيا وغيرها من المدن المزدهرة والمشعّة على مَن حولها وبرز في أوساطها العديد من القواد والحكماء والفلاسفة النوابغ الذين كانت لهم أهداف أساسيّة وإسهامات كبيرة في تاريخ الحضارة الإنسانيّة. ومن هؤلاء القواد والعظماء نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، سرجون الأكادي الكبير موحّد بيئته الطبيعية لأول مرة في التاريخ والملك حمورابي العموري (1792-1750 ق.م.) مؤسس الدولة المركزية القوية وجامع الشرائع السورية الأولى في العالم وموحّدها في كتاب واحد. ونذكر آشور الذي امتاز بعبقريّته العسكرية ونبوخد نصر الكلداني الذي نقل زعماء اليهود الى بابل في محاولة منه لصهر جماعاتهم في البوتقة السورية.

ومن المدن – الدول الفينيقية المنتشرة على الساحل السوري الممتدّ من فلسطين في الجنوب حتى كيليكية في الشمال، من عكا وحيفا ويافا وغزة وبيسان وأريحا وصور وصيدون وبيروت وجبيل وطرطوس وأرواد وجبلة وأوغاريت والإسكندرون وغيرها من المدن والقرى انطلق الكنعانيون يمارسون حياتهم البحرية وينشرون ثقافتهم ومعارفهم في البحر السوري، المعروف بالمتوسط، لينتقلوا في ما بعد الى آخر آفاق المعمورة يكتشفون مجاهيلها ويملأون أجزاءها المعروفة والمجهولة بأمجادهم وعظماتهم ومحطاتهم ومدنهم الجديدة لتكون قواعد انطلاق حضاري توزّع أنوارها على العالم.

انطلقوا من صيدون ليؤسسوا محطات تجارية في بلاد مجهولة وبعيدة… فأظهرت الإثباتات الأركيولوجية أنهم وصلوا اميركا الشمالية والوسطى والجنوبية وكانوا المكتشفين الأوائل لهذه القارة قبل كريستوف كولومبس بقرون عديدة وقد تركوا فيها آثاراً واضحة وكتابات مدهشة نجدها على صخرة دايتون في الولايات المتحدة الأميركانية وصخرة غافيا في عاصمة البرازيل والصخرة العظيمة التي تسمى بالحجرة المنحوتة في ولاية براهيبا البرازيلية وعلى الصخور الواقعة على ضفاف نهر الأمازون والأنهر المنصبة فيه كما نجدها في جبال الأندس وبطاح الأرجنتين وفي لغة وعبادة قبائل التسندال في المكسيك.

وانطلقوا من صور بقيادة الأميرة الشجاعة أليسا (اليسار) إبنة الملك ميتينوس وبنوا قرطاجة عاصمة المجد وملكة البحار، تلك المدينة – الدولة الفينيقية التي امتازت بالحيويّة والبراعة والإبداع والتي حققت مرتبة ممتازة من الرقي والتمدن والازدهار في جميع الحقول مكّنتها من فرض سيطرتها على المستعمرات المغربية ولعب دور حضاري في شمالي أفريقيا وجزر البحر وإسبانية وبريطانية وغالية ومن اكتساب صداقات الشعوب وجعلهم حلفاء لها.

وفي عاصمة المجد ترعرع هاني بعل ابن هملقار العظيم وأعظم نابغة حربي في كل العصور وكل الأمم، هاني بعل الذي أعلن الحرب على رومية واجتاز جبال الألب الشاهقة والمغمورة بالثلوج لينقضّ على عدوّة قرطاجة التي هالها ما رأته من براعة الفينيقيين وانتشار حضارتهم فطمعت باحتلال ملكة البحار وبفرض سيطرتها على بلاد حوض البحر المتوسط. هذا القائد القرطاجيّ الذي رفض مصير الخنوع والعبوديّة واختار درب القتال ليرفع اسم قرطاجة عالياً تجسّدت في مواقفه الأصالة السورية وروح المواجهة والبطولة والصراع.

ومن إحدى المدن على سواحل آسية الصغرى انطلق طاليس الفينيقي (أول فيلسوف في العالم ويعرف بأبو الفلسفة) إلى جزر بحر إيجه ليبشّر بفكر فلسفي جديد وليؤسس أول مدرسة فلسفيّة في تاريخ الإنسان فيتلقف المجتمع اليوناني تعاليم هذه المدرسة «الأيونية» وروائعها الإنسانية والأدبية والفنية ليبدأ عهداً جديداً في امتداد العلم الصحيح والافتراضات المنطقيّة. ومن اكتويوم في قبرص الفينيقية، انطلق معلم الحياة زينون بن منسى السوري لينشر مبادئ فلسفته الرواقية الإنسانية في أثينا وليعلّم الفضيلة المطلقة والمواطنة الكونية. ولقد كان لفلسفته الأخلاقية الجديدة أثر كبير ليس على الفكر اليوناني فحسب، بل على الفكر الروماني والأوروبي من بعده.

وبالإضافة إلى الشرائع البابلية والعبقرية الأشورية والحضارة الفينيقية، أعطت سورية الثقافة الآرامية التي حلّت لغتها التي تكلّم بها السيد المسيح محل اللغة الكنعانية وتغلّبت حتى على اللغة العبرية لتتحوّل بعد ذلك إلى لغة عالمية ذات نفوذ وتأثير ثقافي كبيرين.

يحق للسوريين أينما كانوا أن يفتخروا بأصالتهم القومية وبأمتهم العظيمة لما أعطته عبر العصور من رجال عظماء وقواد خالدين ومن أدباء ومفكرين ومبدعين ظهروا في تاريخنا الحديث وتركوا آثاراً قيّمة في الحضارة والفكر والعلوم الإنسانية لا يمكن طمسها أو نسيانها. ومن بين هؤلاء نذكر المفكر فرنسيس المراش الحلبي، أحد رواد الأدب الرومانسي في القرن التاسع عشر، وعبد الرحمن الكواكبي، أحد رواد الفكر السياسي الإصلاحي، والدكتور خليل سعاده، رائد الفكر والأدب والسياسة والنضال القومي في العقود الأولى من هذا القرن، والأديب جبران خليل جبران صاحب الروائع الأدبيّة والفنيّة الذي ذاع صيته في العالم، والأديبة الكبيرة مي زيادة والمعلم بطرس البستاني والعبقري كامل الصباح الذي امتاز بعقل منتج وروحية مبدعة خلّاقة.

ويحق للسوريين ان يفتخروا بأروع ما أعطته سورية في تاريخها الحديث: رجلاً عظيماً امتاز بعبقريّته ونبوغه… رجلاً كانَ آية في المناقبِ الجديدةِ وكان فيلسوفاً وقائداً وهادياً، كرّس حياته لينقذ أمته من ويلاتها وأمراضها، فأسس مدرسة فكرية ووضع أسس نهضة قومية اجتماعية جاءت بنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن، نظرة أهدت أدباءنا وشعراءنا ومدرسة تربّى فيها المصارعون وتخرّج منها الأبطال والشهداء والمبدعون ومشاعل نهضوية في شتى الحقول. هذا الرجل العبقري المتفوق في الفكر والعطاء والبطولة، الزعيم الخالد، قال فيه الشهيد كمال جنبلاط: «إن سعاده هو رجل عقيدة ومؤسس مدرسة فكرية كبرى وباعث نهضة في أنحاء الشرق قد يندر لها مثيل».1

وبالرغم من هذا التاريخ المجيد، وللأسف، فنحن عاجزون عن إصلاح أوضاعنا وأنظمتنا السياسية..

1 –

الحزب السوري القومي الاجتماعي، استجواب جنبلاط التاريخي للحكومة حول استشهاد سعاده عام 1949، منشورات عمدة الإذاعة، ص 94-95.‏

مشروعان متناقضان… بينهما حرب وجود ونحن واثقون من انتصارنا

د. ادمون ملحم

ما نشهده في بلادنا من قتل ومجازر ودمار وتهجير في فلسطين والشام ولبنان والعراق والأردن ليس إلا مشاهد من حرب طويلة الأمد مفتوحة على أمتنا وعلى وجودنا الإنساني الحضاري. هذه الحرب فُرضت علينا منذ تأسست الحركةُ الصهيونيةُ العالميةُ بهدفِ إيجادِ وطنٍ قوميٍ لليهود في فلسطين مرتكزةً على فكرةِ «أرضِ الميعاد» الممتدةِ بين الفراتِ والنيلِ التي منحَها يهوه السمسارُ لشعبِه «المختار» من دونِ سائرِ الشعوبِ لتكونَ له ملكاً أبدياً كما جاء في قولِه لإبراهيم في سفر التكوين 7:17: «… أعطي لك ولنسلِك من بعدِك أرضَ غُربتِك، كلَ أرضِ كنعان، ملكاً أبدياً، وأكون إلهَهُم».

وهذه الحرب المصيرية أفرزت مشروعينِ متناقضينِ لا يمكنُ التسويةُ بينهُما:

المشروعُ الأولُ هو المشروعُ الصهيونيُ العدواني الذي يريدُ أن يُقوّضَ مُجتمعَنا من خلالِ طمسِ هويتِنا القوميةِ وتراثِنا المناقبيِ الإنسانيِ وتزويرِ تاريخِنا الحضاريِ وأساطيرِنا الجميلِة وسرقِة ثرواتِنا وكنوزِنا وآثارِنا الخالدةِ والحطِّ من قِيمِنا الأخلاقيةِ والدينيةِ الساميةِ وتشويهِ كلّ إنتاجِنا الحضاريِ ومسيرتِنا الثقافيةِ والسياسيةِ والإبداعية.

المشروع الثاني فهو المشروعَ القوميَ الوحدوي الواضح، مشروعُ سوريةَ الطبيعيةَ الحضاريةَ العريقةَ في جذورِها التاريخيةِ والغنيةِ في معطياتِها الإنسانيةِ والثقافيةِ الماضية.

المشروع الصهيوني هو مشروع استعماري سرطاني مدعوم من الغرب الرأسمالي ومتسلحٌ بأعنفِ الوسائلِ الماديةِ والعسكريةِ المدمّرةِ ويرتكز على مزاعم وهميّة خرافية.

أما المشروع القوميّ فهو مشروعٌ مجتمعيٌ إنسانيٌ راقٍ يرتكزُ على مبدأِ الاشتراكِ في الحياةِ والتفاعلِ الاجتماعيِ الطبيعيِ في البيئةِ الواحدةِ وعلى ملكيةِ الأمةِ التاريخيةِ لِوَطنِها وما فيه من ثرواتٍ وخيرات..

المشروع الصهيونيّ يعتمد البطش والإرهاب ولا يمثل إلا الباطلَ العنصريَ والنفسيةَ الهمجيةَ المتحجرةَ في مُعتقداتِها ومزاعمِها التاريخيةِ الخرافيةِ والمُفعمةِ بالحقدِ واللؤمِ والظلمِ والكراهيةِ والعداءِ للشعوبِ..

أما المشروع القومي فهو مشروعٌ حضاريٌ يمثّلُ النفسيةَ الجميلةَ الخلاّقةَ والمفعمةَ بالفضائلِ والقيمِ الساميةِ ويهدف إلى تحسينَ حياتِنا القوميةِ والمساهمة في رقيِ الإنسانيةِ جمعاء. وهذا المشروع تنهضُ به قوةٌ خلاَّقةٌ مؤمنةٌ بحياةٍ جميلةٍ تشعُّ فيها قيمُ الخيرِ والحقِ والجمالِ والحريةِ والسلام..

إنّ نتائج الحرب المصيرية تتوقف علينا نحن وعلى قدرة هذا المشروعُ القومي الطبيعي. فلكي ينهضَ هذا المشروع وينتصرُ يستوجبُ منا جميعاً الخروجَ من حالةِ الفتنِ المذهبيةِ والشرذمةِ والانقساماتِ إلى حالةِ الوحدةِ الاجتماعيةِ والتسامحِ القوميِ، حالةِ الوضوحِ واليقينِ والثقةِ بالنفسِ والعملِ بإرادةٍ واعيةٍ وخطةٍ نظاميةٍ واضحةِ الأهداف.

لا يمكنُ لنا أن نتغلبَ على الخطةِ الصهيونيةِ النظاميةِ الدقيقةِ ونحن نتبادلُ الأحقادَ الدينيةَ ونتقاتلُ على الجنةِ السماويةِ ونتخبطُ بقضايا الفئويةِ والمذهبيةِ والعشائريةِ والخصوصياتِ.. بل نتغلبُ عليها بعقيدةٍ جلّيةٍ واضحةٍ تُحيي حقيقتَنا التاريخيةَ الحضاريةَ وتعملُ لتأسيسِ مجتمعٍ مدنيٍّ ديمقراطيٍّ راقٍ يعي هويتَه وتاريخَه وقضيتَه القوميةَ ومقاصدَه الكبرى في الحياة.

لا يمكنُ لنا أن نتغلبَ على الخطةِ الصهيونيةِ بأنظمةِ الطائفيةِ والجهلِ والتخلفِ والفسادِ، أنظمةِ الهرولة وكبتِ الحرياتِ..

ولا نتغلَّبُ عليها بالسياساتِ الضيقةِ، بسياسةِ المماحكاتِ والخصوماتِ وبنهجِ التخاذلِ والتسكعِ والمساومات… بل نتغلبُ عليها بخطةٍ نظاميةٍ أشدُ نظاماً وأدهى، خطةٍ عقلانيةٍ واضحةٍ في الرؤيا والأهدافِ ودقيقةٍ في التخطيطِ والممارسةِ والإنجاز.. خطةٍ تعملُ لبناءِ الإنسانِ الجديدِ في فكرِه وقلبِه ووجدانِه، الإنسانِ الحرِ المؤمنِ بنفسهِ وإنسانيتِه، الممتلئ بقيمِ الحياةِ الساميةِ والمتسلحِ بقوةِ العلمِ والمعرفةِ والوجدانِ القومي، الإنسانِ – المجتمعِ الذي يعملُ لخيرِ مجتمعِه ورقيِه والذي يرفُضُ العيشَ الذليلَ ويحيا لقضايا الحياةِ العالية، حياةِ العزِ والشرفِ والانتصار.

ولا نتغلبُ على الخطةِ الصهيونيةِ بثقافةِ الهزيمةِ ولغةِ الإحباطِ، بنفسيةِ الخوفِ والصمتِ والخنوعِ وبأساليبِ الفوضى والتبعيةِ والاتكاليةِ والارتجالِ بل نتغلبُ عليها بخطةٍ ساهرةٍ وراصدةٍ وُمحرِّكةٍ إمكانياتِ المجتمع… خطةٍ هجوميةٍ ومصارعةٍ عواملٍ الضعفٍ والانحطاطٍ والفناء.. خطةٍ تُفكرُ برويةٍ وتستشرفُ المخاطرَ والتحديات.. تراهنُ على إرادةِ الحياةِ فينا وعلى ما يكمُنُ في نفوسِنا من قوةٍ مناقبيةٍ ومن خلقٍ وإبداع.. توقظُ النيامَ وتخاطبُ العقلَ والوجدان.. تنفخُ في الشعبِ روحَ البطولةِ والصراعِ والمقاومةِ وتُنَمِّي فيه روحَ الوعي والمعرفةِ العلميةِ والثقافةِ القوميةِ الصحيحةِ التي تزيلُ الغشاواتِ وتَقْضِي على المبادئ الفاسدةِ والثقافاتِ الرجعيةِ المسؤولةِ عن الكوارثِ القوميةِ التي حلَّتْ بنا.

في مواجهةِ المشروعِ الصهيونيِ لا خيارَ لنا إلا خيارَ المقاومةِ والصمودِ، خيارَ الصراعِ والبطولةِ المؤمنةِ دفاعاً عن الكرامةِ القوميةِ والوجودِ القوميِ والحقِ القومي. بفضلِ هذا الخيارِ فقط يمكن ان ننهي زمنَ الهزائمِ المتعاقبةِ على أمتِنا ونبدأ زمناً جديداً هو زمنُ الانتصاراتِ المشهودة، زمنُ المقاومينَ المؤمنينَ والشهداءِ الأبرارِ الذين بهم وحدهم نهزم المشروعَ الصهيونيَ – الأميركاني وسنهزمه حتماً لأن فينا قوة، كما يقول سعاده العظيم، لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ.

عندما يقول التاريخ كلمته…!‏

د. عدنان منصور

شهد عالمنا عبر التاريخ حكاماً، طغاة، مستبدّين، خونة، بأشكال وألوان، منهم العميل والمرتزق، ومنهم العبد والمأجور، ومنهم الخادم والمأمور، ومنهم الظالم والحقود.

لقد عرفت أمتنا على مدى تاريخها كلّ هذه الأنواع من الحكام، على فترات متقطعة، فكانت تتحكّم ولو لوقت بشعوبها، تستبدّ، تبيد، تخمد أفواه الأحرار، وتقتل كلّ إنسان متعطش للحرية، والكرامة، وحقه في حياة حرة كريمة، في ظلّ أمة يريدها موحدة قوية.

غالباً ما يظنّ الطغاة أنفسهم، أنهم يحكمون باسم الشعب، ولخدمة الشعب والأمة على السواء، حتى إذا ما ذهبوا، وذهب معهم طغيانهم، انقشعت الحقيقة، ليصبح الطغاة الذين بغوا وفجروا على ألسنة الأجيال اللاحقة، تلعنهم وهم في قبورهم، وتنشد وتغنّي فكر المناضلين الأحرار. فأين مانديلا من أيان سميث العنصري الباغي في جنوب أفريقيا؟! وأين سلفادور الليندي من بينوشيه في تشيلي؟! وأين فيديل كاسترو من الدكتاتور باتيستا في كوبا؟! وأين باتريس لومومبا من تشومبي وجوزيف موبوتو في الكونغو كنشاسا…؟!

وفي مشرقنا العربي، أين مفكر النهضة أنطون سعاده من حسني الزعيم؟! وأين قافلة الشهداء المناضلين المقاومين للاحتلال الصهيوني، والمناهضين لوجوده، من الحكام الطغاة العملاء الذين تآمروا على أمتهم وشعوبهم، وباعوا قضاياها في بازار السياسة الدولية؟!

في ذكرى يوم إعدام مناضل كبير، ومفكر بارز عمل من أجل نهضة المشرق، والتأكيد على ذاته ومستقبله، نتساءل: من بقيَ في ذاكرة الأحرار، أنطون سعاده الذي بقيَ حياً في نفوس من أراد الحياة الحرة الكريمة، واستشهد على يد الطغاة من أجل عزة أمة ووحدتها وكرامتها، أم زمرة القتلة والمجرمين، والسفاحين، وبائعي الأوطان والمساومين عليها على أعتاب الدول الكبرى؟!

في يوم رحيل أنطون سعاده، يردّد الأحرار في أمّته، من محازبين، ومتعاطفين، ومحبّين، ومعجبين، ومحترمين لفكره ومقولاته وحكمه، وهم في مواجهة العدو الصهيوني وخططه، الذي حذر منه الأجيال. أما القتلة والطغاة سيبقون وصمة عار، تصبّ عليهم لعنة الشعوب الحرة وهم في قبورهم، لعنة تتوارثها الأجيال من جيل الى جيل.

وحدهم المقاومون، المناضلون، الأحرار، الشهداء، يشرّفون تاريخ بلدانهم، لتبقى ذكراهم أنشودة تحيي النفوس وتنعشها، وتحرك ضمائر الجماهير، من اجل إحياء امة، وبعث نهضتها من جديد.

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق