لو أنك كتبت أنت الرثاء وأعفيتنا جميعاً من هذا الحمل، لو أنك، أنت، قلت ما تحب أن يقال فيك، وأن يحجب عن اسمك ما كنت راغباً في محوه، لو أنك قلت لنا كيف تحب رسم صورتك في لحظة الغياب، لو أنك قلت دعكم من هذه الحكاية، وتلك الرحلة، ولا تقفوا عند هذا التل، وعودوا بي الى حيث رغبت في أن أكون في لحظة الوحدة. فمن منا يقدر على تخيّل ما كنت تفكر فيه أخيراً. لو فعلت ذلك لرسبنا جميعاً في امتحان الحديث عنك، وربما، لو أتيحت الفرصة لكل من يريد تذكّرك، أن تكشف فيه علامات الضعف إن قصّر أو بالغ في الكلام، وكان سيكون لضحكتك أن تسخر من كل ألاعيبنا. ونحن نحاول الآن، بعد فوات الأوان، التعرّف على ما كنت عليه أنت، في آخر الزمان. كنت ستمزق كل الأوراق التي كتبت، وربما احتفظت ببعضها، إن وجدت فيها الحب الذي تشتهيه، وكنت لعرفت من بيننا الأقرب الى عقلك أو قلبك أو من يقدر على الاقتراب من حقيقة أحلامك.
الراحل وحيداً
السبت 26 آب 2023
لو أنك كتبت أنت الرثاء وأعفيتنا جميعاً من هذا الحمل، لو أنك، أنت، قلت ما تحب أن يقال فيك، وأن يحجب عن اسمك ما كنت راغباً في محوه، لو أنك قلت لنا كيف تحب رسم صورتك في لحظة الغياب، لو أنك قلت دعكم من هذه الحكاية، وتلك الرحلة، ولا تقفوا عند هذا التل، وعودوا بي الى حيث رغبت في أن أكون في لحظة الوحدة. فمن منا يقدر على تخيّل ما كنت تفكر فيه أخيراً. لو فعلت ذلك لرسبنا جميعاً في امتحان الحديث عنك، وربما، لو أتيحت الفرصة لكل من يريد تذكّرك، أن تكشف فيه علامات الضعف إن قصّر أو بالغ في الكلام، وكان سيكون لضحكتك أن تسخر من كل ألاعيبنا. ونحن نحاول الآن، بعد فوات الأوان، التعرّف على ما كنت عليه أنت، في آخر الزمان. كنت ستمزق كل الأوراق التي كتبت، وربما احتفظت ببعضها، إن وجدت فيها الحب الذي تشتهيه، وكنت لعرفت من بيننا الأقرب الى عقلك أو قلبك أو من يقدر على الاقتراب من حقيقة أحلامك. لكن الحياة لا تسير على هذا النحو. هي قصة تعيد سرد ذاتها مع كل غياب. وليست عند البشر أدوات جديدة لقياس الإحساس بالألم أو لحظة ملامسة الموت. ليس عندهم سوى ما تخيّلوه من قبل، وهم يسيرون في جنازات الآخرين، حيث ينظرون الى الحسرة والتعب والإعياء على من بقي واقفاً ينتظر موعده الآتي. ولأن الجمع متى التمّ، سيذكرك كاتباً عن الآخرين ولأجلهم، فإن الجمع متى انفضّ يتخيّل أنه أخذ حصته منك، وفي حالتك، يأمل الخائفون أن تصيبهم العدوى منك، ولو كانت ألماً، لكن حظهم العاثر يعيدهم الى حقيقتهم، مجرد أنفس تخاف لحظة الرذاذ الأخير. ولأن الحياة تسير تاركة خلفها كل شيء، فإن الموت يمنح صاحبه فقط حظ السير غير ناظر الى الخلف أيضاً. لكنه موت لئيم، يلزم كل الباقين، بالنظر الى ما يتحرك من حولهم، لكنه لا يمنحهم فرصة التجربة. وبينما تمضي النساء باكيات على حيّ لا يقرأ في عقل من رحل، ويمضي الرجال حالمين براحل يعلمنا عن مكتشفه، ها نحن، وأنت الراحل وحيداً، وقد تركتنا جميعاً، ينظر بعضنا إلى بعض، ولا نعرف إن كنا نفحص صدق حزننا على من فقدناه أو على أنفسنا، قبل أن نبتعد غارقين في الأسى. في لحظتي القاسية هذه، أعود معك الى من كنت تهوى مآثره، ومن رغبت في أن تكون نديمه، ذلك الجواهري الحالم بمجده دوماً، وهو يعيد على مسامعنا درسه الأزلي: قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا عنه، فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا!
من ملف : يغيب ولا ينطفئ
صاحبنا ورئيس تحريرنا… وداعاً!
إشكاليات الغياب وتعقيداته من إشكاليات الحضور ومشكلاته. والقول بتناقضهما فحسب ينطوي على تبسيط مخلٍّ، من شأن الاكتفاء به أن يفاقم الإشكاليات ولا يحلّها. علاقة الأول بالثاني كالعلاقة بين وجهَي العملة الواحدة. فترافقهما المستتر هو الأساس الذي ينبغي التوقف عنده أو الانطلاق منه. ففي بعض الغياب حضور، وفي بعض الحضور غياب. وكما أن الغياب، في بعض الحالات، لا يعني الموت، فإن الحضور أيضاً، وخصوصاً الصاخب منه، لا يدلّ على الحياة. والأرجح أنها واحدة من المعضلات التي لا حلول حاسمة لها.
فكم من غائب حاضر، وكم من حاضر ميت. وعليه، فقد يحصل الغياب ولا يحصل الموت. وقد يحصل الموت ويمتنع الغياب. وطلال سلمان، في غيابه الموجع اليوم، مثال عن الموت الصعب وتأكيد على تعذّره. فالرجل صاحب أثر. والأثر هذا مقيم وعابر. ولأنه كذلك، لا يمحى ببساطة ولا يزول بسهولة.
ومن علامات هذا الأثر وعناوينه، تحضر «السفير» كتجربة سياسية وثقافية ومهنية رائدة. تجربة غنية عبّرت عن بعض معاني زمنها الناصري الناهض بالأفكار والعابق بالهمم والأحلام والتطلّعات. فكانت المثل والمثال في دفاعها عن قضايا الأمة واحتضانها لخيار المقاومة وتصدّيها للاستعمار ولأدواته الرثّة التي مثّلتها قوى الرجعية العربية. والأرجح أن هذه التجربة الفريدة ما كانت لتقوم، ولا كانت لتنجح لولا مواصفات صانعها ومهندس رحلتها طلال سلمان. فكان أن ارتبط بها وارتبطت به حتى صارا واحداً. فالصانع المجتهد صار صنيعة الفكرة. والصنيعة أمست جزءاً عضوياً من الصانع. ومعهما صُنعت حكاية كبيرة عبرت الحدود وتجاوزت السدود، حكاية كتب حروفها مناضلون ومناضلات تعاقبوا على مدّها بالذخيرة المعرفية والنضالية والثقافية والمهنية طوال عقود أربعة حافلة. فعندما يذكر طلال سلمان، تحضر «السفير» ومعها كوكبة من الأسماء التي يصعب أن تتكرر والتي ربما كان يصعب أن تجتمع لولاه، كما يتعذّر أن تلتقي إلا حوله ومعه. وأول هذه الأسماء وأبرزها جوزف سماحة، بسعة عقله وواسع معرفته وصلابة التزامه الوطني والقومي، وبلال الحسن، وناجي العلي ومحيي الدين اللباد وحازم صاغية وجهاد الزين وإلياس خوري وعباس بيضون ومصطفى الحسيني… فضلاً عن كوكبة الجنود المجهولين الذين تقدّمهم ياسر نعمة بإخلاصه وتفانيه وحسن إدارته، فضلاً عن كثيرين… وهذا هو أثر طلال سلمان الذي يصعب أن يمحى ويتعذّر أن يزول. ففي قدرته على الجمع، أتاح لصوت العروبة التي حمل لواءها أن يعلو وأن يصدح في كامل الخريطة العربية.
طلال سلمان، وبحقّ لا مبالغة فيه، أحد أعلام الصحافة العربية. وبرحيله تخسر المهنة صحافياً مناضلاً عاصر الأحداث ورافق الوقائع وتجاوز تقلّباتها محافظاً على جوهر الفكرة التي حفّزته على المغامرة الجميلة التي خاضها من ألِف المهنة إلى يائها رئيساً لتحرير «السفير»، قبل أن يقرر، في غفلة عن الجميع، الانسحاب من المشهد العام، تاركاً للقلق المهني ولأسئلته أن تتوالد وتتوالد.
العزاء للصديقة هنادي وللأعزاء: أحمد وربيعة وعلي. والمواساة لفؤاد اللبان الذي أخلص لـ«الأستاذ» ما وسعه الإخلاص، ولديانا قوصان التي أدارت يوميات «الأستاذ» بحنكة تركت أثرها تنظيماً وتدبيراً… ولكثر غيرهم فازوا بفرصة المرور بحياة مناضل عربي حمل اسم طلال سلمان.
من ملف : يغيب ولا ينطفئ
صفحة تطوى من تاريخ الصحافة اللبنانية: طلال سلمان «يغيب ولا ينطفئ»
مَن عايش مرحلة الاقتتال الداخلي في لبنان وحروب الآخرين على أرضه، وكلّ ما سبقها وتلاها من حقبة ما بعد «الطائف» وتحرير الجنوب للوطن والانتفاضات الفلسطينية، وصولاً إلى «الخريف» العربي وأفول أنظمة عربية مع دولها وبدايات الحرب على سوريا، لا يسعه إلا أن يذكر طلال سلمان (1938 – 2023) و«جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان» التي أصدرها طوال 42 عاماً. ورغم غياب «السفير» مع وداع الساعة الأخيرة من عام 2016 بعد محاولة احتجاب سابقة تأجّلت أشهراً، إلّا أنّ الراحل أكمل مسيرته «على الطريق» حتى انطفأ أمس تحت وطأة المرض.
لا تبدأ الحكاية في 26 آذار (مارس) 1974 يوم صدرت «السفير»، لكنّ هذه المحطّة المفصلية أعطت للعودة إلى البدايات نكهةً مغايرة، وربّما استعادت تأريخ المحطّات السابقة وترسيخ المحطّات اللاحقة؛ فنتخيّل فتى بعلبكيّاً ريفيّاً من شمسطار يحزم طموحاته وتطلّعاته وعروبته في حقيبة أحلامه، والدنيا زمن مدّ ناصري بعد نكبة 1948 وما استنسلته من قضايا، وزمن دوَل عربية استقلت وأخرى تناضل للاستقلال، وزمن العدوان الثلاثي على مصر، وزمن الانقسام كالعادة على محورَين متضادَّين وربّما أكثر، وزمن حلف بغداد لـ«صدّ المدّ الشيوعي»، وزمن الـ 1958 بوحدة مصرية – سورية وثورتَين عراقية ولبنانية ووصول قائد الجيش اللبناني العلماني المعتدل فؤاد شهاب إلى سدّة الرئاسة خلفاً للرئيس كميل شمعون المحسوب على حلف بغداد والغرب…
في زمن النضال وإعادة صياغة الشرق والحوادث العنقودية هذا، يقصد فتى ريفي مدينة كوسموبوليتية حبلى بإرهاصات القضايا، ويباشر إقامة طويلة في مهنة المتاعب يستهلّها في أواخر خمسينيات القرن الماضي، مصحّحاً في جريدة «النضال»، فمراسلاً صحافيّاً في جريدة «الشرق»، ثمّ محرّراً وسكرتيراً للتحرير في مجلّة «الحوادث» لصاحبها الصحافي الشهيد سليم اللوزي الذي اغتيل عام 1980، فمديراً للتحرير في مجلّة «الأحد» التي أسّسها نقيب الصحافة الشهيد رياض طه سنة 1950، محقّقاً قفزة صحافية مميّزة بملاحقها وتبويبها. وقد اغتيل طه في 23 تموز (يوليو) 1980 أيضاً، في السنة ذاتها التي تعرّضت فيها مطابع «السفير» للتفجير في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 1980، قبل أن يتعرّض طلال سلمان، بسبب صلابة موقفه، لمحاولات لتفجير منزله «تُوّجت» في 14 تموز 1984 بمحاولة اغتياله أمام منزله في رأس بيروت، ما ترك ندوباً في وجهه وصدره، بالإضافة إلى ملاحقته من السلطات وسجنه مرّات عدّة بسبب آرائه ومواقفه الجريئة.
وضع الراحل الحجر الأساس في الإعلام العربي الحديث
في خريف 1962، غادر طلال سلمان لبنان إلى الكويت ليصدر مجلّة «دنيا العروبة» عن «دار الرأي العام» لصاحبها عبد العزيز المساعيد، إلا أنّ ذلك لم يدم أكثر من ستّة أشهر، عاد بعدها سلمان إلى بيروت ليعمل مديراً للتحرير في مجلّة «الصياد» لصاحبها سعيد فريحة، ومحرّراً في مجلّة «الحرية» الأسبوعية السياسية العربية التي كانت لسان حال حركة القوميّين العرب منذ 1959، وأصبحت بعد نكسة 1967 ناطقة باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ثم باسم «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» و«منظّمة العمل الشيوعي اللبناني» على إثر انشقاق 1969 في صفوف القوميّين العرب. هذه المجلّة انضمّ إليها الصحافي غسان كنفاني سنة 1961، وهو من بين شهداء الصحافة الجريئة الذين سقطوا أيضاً في بيروت وضواحيها، وقد اغتيل في 8 تموز 1972.
سنة 1974، وقد بلغ الشاب البعلبكي السادسة والثلاثين، أينعت تجربته التي بدأت أواخر الخمسينيات مغامرةً جريئة ستمتدّ حتى نهاية سنة 2016. ففي 26 آذار (مارس) 1974، أصدر العدد الأوّل من «السفير» في بيروت، ليبدأ بذلك النصف الآخر من حياته المهنية كما تجربة صحافية حدّثت معالم المهنة ومقارباتها. أُطلقت «السفير» على أنّها «يومية سياسية مستقلّة»، وحملت شعار «جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان» كما شعار «صوت الذين لا صوت لهم»، وحاول سلمان إظهار استقلاليتها قدر الإمكان. طوال أكثر من أربعة عقود، شكّلت الجريدة مرجعية إعلامية في الشؤون العربية واللبنانية تحظى بالتقدير وبالتأثير في الرأي العام. تضمّنت صفحاتها الأخبار والتغطية الميدانية للأحداث في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والرياضة والترفيه، بالإضافة إلى التحقيقات الميدانية والعلمية والبيئية.
أعطت «السفير» أهمّية للأحداث اللبنانية التي لم يتناولها الإعلام المهيمن، كما للقضية الفلسطينية، واشتهرت بنشرها كاريكاتورات «حنظلة» للرسّام الفلسطيني الكبير ناجي العلي. واستمرّت في حمل لواء شخصية «حنظلة» ومبدعها بعد استشهاد ناجي العلي، كما في حمل لواء قضية فلسطين وقضايا العرب في افتتاحيات سلمان كل اثنين وفي كل ثنية من ثنايا الصحيفة.
وكان لجيل الشباب إضاءة خاصّة، فحظي بملحق في الجريدة تحت اسم «شباب». الملحق الذي كان قوام فريق عمله شباباً جامعيّين، أعاد فتح النقاش حول قضايا منسيّة تتعلّق بالمهمّشين، منتجاً فورة في الأوساط السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما دأبت «السفير» لفترة على نشر ملحق «كتاب في جريدة» مع أعدادها، كان عبارة عن كتاب أسبوعي مجّاني ضمن سعيها لنشر الثقافة بيَد الجميع إيماناً منها بحقّ وصول مختلف طبقات المجتمع إلى المعرفة.
أفاق اللبنانيّون والعرب على عام 2017 من دون «السفير» بعد معاناتها من مشاكل جمّة، واعتبر ناشرها أنّها «تغيب… ولا تنطفئ». بعد مسيرة «السفير» الحافلة، خصّص وقته لخوض تجربة جديدة مع موقعه الإلكتروني الخاصّ الذي حمل اسمه، فنشر مع عدد من الزملاء وأصدقاء «السفير» مقالات أسبوعية تحت شعار «على الطريق»، واستمرّ في كتابة المقالات التحليلية حتّى الرمق الأخير. ويستمرّ الموقع تأكيداً على أنّ طلال سلمان يغيب ولا ينطفئ.
هكذا، تُطوى إحدى الصفحات الأخيرة لحقبة لن تعود من الصحافة اللبنانية والعربية. مع ذلك، وضع الراحل الحجر الأساس في الإعلام العربي الحديث، وسيبقى تأثيره حاضراً في أوساط المهنة مباشرةً أو مداورةً، بما ينفي نسبيّاً ما ذهبت إليه الجريدة في مانشيتها الأخيرة قبل احتجابها: «الوطن بلا السفير»، وينفي اليوم نسبيّاً ما قد يتبادر من تنويع على المانشيت المذكورة بالقول إنّ «الوطن بلا صاحب السفير».
من ملف : يغيب ولا ينطفئ
Related Videos
Filed under: "Israel", Lebanon, Palestine, Palestinian people | Tagged: Truthful Journalism | Comments Off on يغيب ولا ينطفئ