سورية بين زلزالين: الطبيعة والحصار الأميركي اللاإنساني

الاربعاء 15 شباط 2023

 العميد د. أمين محمد حطيط

أكد الزلزال الكارثة الذي ضرب في الأسبوع الماضي تركيا وسورية، أكد على الصورة البشعة لسلوك الغرب عامة وأميركا خاصة حيال الإنسان عامة وضدّ من يستهدفه الغرب بعدوانه بصورة خاصة. حيث انّ هذا الزلزال الذي أوْدى حتى الآن بحياة أكثر من 25 ألف شخص، وأصاب أكثر من مئة ألف وشرّد أكثر من 5 ملايين، وانه على حدّ قول منظمة الصحة العالمية سيطال بأضراره المباشرة او غير المباشرة مصالح اكثر من 25 مليون إنسان، هذا الزلزال كان يجب منطقياً ان يشكل مدخلاً لتعاون دولي وهبّة عالمية يبادر فيها المقتدر الذي بقي خارج دائرة الضرر الى نجدة المنكوب الذي مسّه هذا الزلزال بضرر او أثر سلبي،

فمن المتداول المتواتر انّ المصائب تجمع وانّ مواجهة الكوارث الطبيعية تفرض تنحية الخلافات والصراعات البينية التي تعيشها القوى والكيانات الدولية والعالمية لتتقدّم أمامها النزعة الإنسانية الرامية بشكل أساس لإنقاذ الإنسان، أيّ إنسان، لإنقاذه من مفاعيل الكارثة او الحادث الطبيعي الطارئ والمشكل للقوة القاهرة التي لا يمكن توقعها أولاً يمكن ردّها او التفلت من آثارها. ولذلك ساد في التاريخ عرف عام هو الهبّة العالمية الجماعية لنجدة المنكوبين بكارثة كما هو الوضع مثلاً في حال الزلازل والفيضانات والأوبئة والجوائح الصحية العامة، حيث ينخرط العالم كله في المواجهة وفقاً لقاعدة «إذا كان يستحيل منع الكارثة من الوقوع، فمن الواجب توزيع أعبائها علي الجميع حتى نخفف من ثقل مساوئها».

هذا في العرف والمبادئ التي تحولت في بعض الحالات الى أعراف ملزمة او أدخلت في التشريعات المحلية او الاتفاقات والمعاهدات الدولية بصيغ إيجابية ملزمة او سلبية مانعة من التلكؤ او عدم الاكتراث والامتناع عن مساعدة الآخرين عندما تكون المساعدة ممكنة ودون ان تلحق الضرر المؤكد او تعرّض من مدّ يد العون للخطر،
وفي عالمنا المعاصر يشتدّ الحديث عن حقوق الإنسان وكرامته والتعاون او التضامن الدولي في سبيل الإنسان في أمنه وسلامته وكرامته، وتتقدّم الدول الغربية في هذا المجال إعلامياً الى حدّ يظهر فيه الغرب عامة وأميركا بشكل خاص بأنهم باتوا قيّمين على الإنسانية ومكلفين من الله بضبط سلوك البشرية للمحافظة على الإنسان وحقوقه تلك، هذا نظرياً أما في أرض الواقع فيبدو الأمر خلاف ما يدّعي هؤلاء، حيث انّ تاريخ الغرب وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية حافل بالجرائم بحق الإنسان أضراراً به وصولاً الى ارتكاب جرائم إبادة الإنسان بشكل جماعي سواء بالحروب وأسلحة الدمار الشامل لتي ابتكروه او بنشر الأوبئة والجوائح والأمراض التي صنعوا فيروساتها وميكروباتها،

وفي معرض مواجهة الزلزال السوري لم تكتفِ أميركا بأنها أحجمت عن تقديم أيّ مساعدة لسورية في نكبتها بالزلزال رغم أنها تعتبر نفسها الدولة الأغنى والأقوى والأقدر في العالم على تقديم هذه المساعدة وتتشدّق وتدّعي أنها تعمل من أجل الشعب السوري، الا أنها عبر منظومة ما تسمّيه «العقوبات» المترجمة حصاراً خانقاً لسورية منعت الآخرين الذين يخشون عقابها، ولا يجرؤون على مواجهتها، منعتهم من تقديم العون لسورية لانتشال إنسان من تحت الركام او إيواء ناج بنفسه بعد أن فقد أهلاً وأحبة أو بيتا ومأوى، الحصار الوحشي الذي تطبّقه أميركا بموجب تشريع أميركي أسمته «قانون قيصر» وادّعت كاذبة طبعاً أنها اعتمدته لمعاقبة الدولة السورية نصرة للشعب السوري.

لقد أكد زلزال 6 شباط/ فبراير 2023 على الوجه البشع للغرب الاستعماري والسلوك اللاإنساني واللاأخلاقي لأميركا التي رأت كارثة طبيعية تحلّ بشعب من الشعوب، وبدلاً من المسارعة لنجدتها فاقمت مفاعيل الكارثة بمنع هذه النجدة منها ومن الآخرين، ولما بادرت دول وكيانات تتحدّى أميركا ولا تنصاع لإملاءاتها أو لا تخشاها واشتدّ الضغط العالمي ضدّ السلوك الأميركي المشين، قامت أميركا بمناورة خادعة تحت عنوان الاستثناء الجزئي المؤقت من مفاعيل قانون قيصر، استثناء زعمت فيه انها تجمّد مفاعيل هذا القانون الإجرامي لمدة 180 يوماً في مواضيع محددة لها علاقة مباشرة بمسائل الإغاثة، ثم انها ادّعت انقساماً في الكونغرس حول الإعفاء الاستثنائي المؤقت هذا بين الجمهورين والديمقراطيين ما علق التنفيذ لأمد تتآكل فيه مهلة الـ 180 يوماً،

وفي مقابل الإجرام الأميركي والغربي المتمثل بالإحجام عن تقديم النجدة لسورية ومنع الآخرين من تقديمها سجلت مواقف شجاعة وصفحات مشرقة خطتها دول ومنظمات وكيانات بادرت الى أداء واجبها الإنساني والأخلاقي حيال سورية، غير مكترثة بالتهديد والعقوبات الأميركية ما مكن من التخفيف نوعاً ما من هول الكاارثة ومعالجة بعض آثارها ولو بشكل محدود.

أما في المحصلة نستطيع القول بانّ زلزال سورية الطبيعي كشف من جهة عن زلزال لا أخلاقي غربي من جهة أخرى أخوة وصداقة حقيقية تربط سورية بعالم من الصادقين الذين امتلكوا شجاعة رفض قرارات أميركا وهبّوا لمساعدة سورية غير عابئين بعقوباتها، وما يؤكد بأنّ سورية ليست معزولة كما تريد أميركا وتعمل له، وفي ذلك مشهدان متعاكسان أكدهما الزلزال الذي اكد أيضاً او كشف الحقائق التالية:

أولا ـ أميركا عدوة الإنسان، وتتشدّق بحقوق الإنسان وتعمل بعكس ما تعلن وتتظاهر، وبالتالي ان التعويل على العلاقة او السلوك الإنساني من أميركا إنما هو وهم وسراب
ثانيا ـ انّ قرارات أميركا ليست قدراً، وانّ امتلاك شجاعة التحدي في مواجهتها تمكن من تعطيل تلك القرارات ومن ثم إلزام أميركا بالتراجع عنها فأميركا لا تستطيع ان تعاقب كلّ العالم ولا تستطيع ان تحتلّ بجيوشها كلّ العالم، ولذلك فإنّ ظهور حركة دولية عارمة مناهضة للأجرام الأميركي المتمثل بسياسة الحصار والعقوبات من شأنه أن يعطل هذه السياسة، وبالفعل فإنّ ظواهر عجز تلك العقوبات عن تحقيق المراد الأميركي بدأت بالظهور على ارض الواقع.
ثالثاـ انّ انصياع دول عربية للإملاءات الأميركية وإحجامها عن نجدة سورية في محنتها يشكل لطخة عار على جبين أنظمة تلك الدول، وهي صورة توضع برسم شعوبها التي عليها ان تصحّح مسار حكوماتها، فلا يمكن القبول بسلوك شقيق يمتنع عن نجدة شقيقه في منحته.

وأخيراً نقول انه ليس من حق أميركا أصلاً ان تحاصر سورية وتعتدي عليها، وبالتالي فإنّ التجميد الجزئي لقانون قيصر تصرف غير كاف ولا يلبّي المطلوب وينبغي ان يتحوّل الى إلغاء كلي لهذا التشريع الأميركي الوحشي ويشكل عدواناً مؤكداً ينتهك حقوق الدول وسيادتها ويتدخل في شؤونها الداخلية والسيادية ويلحق أفدح الأضرار بالشعوب، خاصة الشعب السوري، حيث انّ هذا الحصار الأميركي لسورية فاقم من مفاعيل الزلزال الطبيعي وجعل سورية عرضة لزلزالين… زلزال الطبيعة وزلزال أعداء الإنسان، وإذا كان الزلزال الأول يمثل قوة قادرة لا يمكن ردّها او التلفت من مخاطرها، فإنّ الزلزال الثاني هو من طبيعة أخرى ويمكن التصدي له ومواجهته ومنع آثاره المدمّرة عبر تضامن الدول والشعوب في مواجهة الوحشية العدوانية الأميركية. وقد آن الأوان لوقف أميركا اعتدائها على سورية وإصراراها علي إطالة امد الصراع فيها ومنعها من العودة الى حياتها الطبيعية.

فيديوات ذات صلة

مقالات ذات صلة

عملية خيري علقم زلزال ضرب «إسرائيل» وكشف حقائق هامة

الثلاثاء 31 كانون الثاني 2023

 العميد د. أمين محمد حطيط*

عندما شكّل نتنياهو حكومته إثر الانتخابات الإسرائيلية الخامسة التي جرت في غضون سنتين وصفت تلك الحكومة بأنها الأكثر تطرفاً في تاريخ حكومات الكيان الصهيوني، خاصة أنّ أعضاءها يتبارون لفظاً وسلوكاً وأعمالاً لإيجاد وتنفيذ خطط تصفية القضية الفلسطينية والنيل من الفلسطينيين في وجودهم وأمنهم ومعيشتهم دون أن يُفسحوا بالمجال لتحقيق أيّ مقدار من حقوقهم، ومعظم الوزراء يتنافسون في ممارسة الوحشية والإجرام واغتصاب حقوق الفلسطينيين من غير وازع او رادع ذاتي او داخلي او إقليمي او دولي. فحكومة نتنياهو الحالية هي عصابة من اليمين المتطرف ومن المتوحّشين الذين لا يقيمون وزناً لحق او كرامة إنسانية.

لقد كان واضحاً منذ اليوم الأول لتشكيل تلك الحكومة انّ هذه الأخيرة اعتمدت «استراتيجية الرعب والقوة المفرطة» لحمل الفلسطينيين على الاستسلام دون أن ينالوا شيئاً من الفتات الذي وُعدوا به في اتفاقات أوسلو، وظنّت تلك الحكومة انّ الإفراط بالعنف والقتل والهدم سيحقق لـ «إسرائيل» ومن غير مقابل، الأمن الذي تدّعي أنه هدفها الاستراتيجي الأول نظراً لارتباطه الفاعل بوجودها واستقرارها واستمرارها.

لكن هذه الحكومة غفلت عن حقيقة كان يجب أن تتنبّه لها، وهي أنّ الشعب الفلسطيني الذي لم تنسِه العقود الثمانية المنصرمة، قضيته ولم يتنازل عن حقوقه رغم كلّ الضغوط، هو اليوم أشدّ تمسكاً بهذه الحقوق وأصلب إرادة وأمضى عزيمة على التصدي والمواجهة. وانّ «صفقة القرن» التي خطها ترامب ودخل فيها بعض العرب لتصفية القضية فشلت في تحقيق المبتغى بعد أن ووجهت بالرفض الفلسطيني المحتضن من قبل محور إقليمي قوي هو محور المقاومة الذي أفشل معظم خطط الصهاينة وأميركا معهم. لذلك كان منطقياً القول إنّ مزيداً من التطرف وممارسة الجرائم بحق الفلسطينيين لن يؤدّي الى الاستسلام بل على العكس تماماً سيؤدّي الى انفجار شعبي مقاوم يجهض آمال المتطرفين ويردّ على جرائمهم بما تستوجب.

وعلى المقلب الصهيوني اليهودي ظهر من الصهاينة من يرفض هذه الحكومة واستراتيجيتها بسبب خشية هؤلاء من ان تتسبّب هذه الحكومة باستفزاز الفلسطينيين ودفعهم لإعادة تزخيم المقاومة وإطلاق انتفاضة ثالثة تتقدّم في أساليبها ومفاعيلها على ما حصل في الانتفاضتين السابقتين، ولذلك خرجت المظاهرات الرافضة لحكومة نتنياهو في أكثر من مكان في فلسطين المحتلة تدعو لإسقاط هذه الحكومة.

لقد كان واضحاً لأصحاب المنطق السليم انّ هذه الحكومة وضعت فلسطين المحتلة والمنطقة أمام واحد من انفجارين او الاثنين معاً: انفجار شعبي فلسطيني مقاوم بكلّ ما أوتي او أتيح للفلسطينيين من قوة للحؤول دون نجاح هذه السلطة الصهيونية المجرمة في ضمّ ما تبقى من فلسطين والإجهاز على آمالهم باستعادة شيء من حقوقهم الوطنية، و/أو انفجار داخلي يتمثل بانفجار الحكومة من الداخل او انفجار صهيوني بوجهها لمنعها من فتح باب الشرّ على «إسرائيل»، وتهديد الكيان في أمنه ووجوده.

بيد أنّ هذه الحكومة لم تعر اهتماماً كما يبدو لتلك المخاوف والهواجس والتوقعات ولم تتأخر في إثبات عدوانيتها ونزعتها الوحشية والإجرامية ضدّ الفلسطينيين، إذ إنها ومن غير سبب مباشر او تبرير مقنع قامت باقتحام مدينة ومخيم جنين في عملية عسكرية وحشية يبدو أن حكومة نتنياهو شاءت منها ان تفتتح استراتيجية ما تسمّيه «الشدة والحزم» لا بل العنف المفرط الذي يزرع الرعب في نفوس الفلسطينيين لردعهم عن أيّ عمل يمسّ او ينتهك ما يسمّى «أمن إسرائيل»، وبالفعل نفذ الاقتحام بأقصى درجات الوحشية والعنف واستهدف الحجر والبشر معاً فهدمت المنازل وقتل وجرح او اعتقل فلسطينيون تجاوزوا في مجموعهم الـ 30 في أقلّ من 48 ساعة انسحبت بعدها قوات العدو مخلّفة وراءها الخسائر تلك وأهمّ منها ما خلّفته من النقمة والغضب الفلسطيني.

لقد ظنّت حكومة نتنياهو الشديدة التطرف أنها نجحت في افتتاح استراتيجية العنف والإجرام المفرط بحق الفلسطينيين، إلا انّ ظنّها خاب وانهار دفعة واحدة وبشكل مدوّ عندما نفذ شاب فلسطيني واحد مسلح بمسدس واحد فقط عملية بطولية انتقامية في شمال القدس المحتلة وعلى بعد أكثر من 100 كلم من جنين، حيث ارتكبت «إسرائيل» مجزرتها وجرائمها، فجاءت عملية البطل خيري علقم صاعقة مدمّرة لكلّ ما توخته «إسرائيل» من جريمتها في جنين. حيث إنّ مقاوماً واحداً استطاع ان يقتل او يجرح أكثر من ١٧ صهيونياً في أقل من 10 دقائق ولم يقوَ عليه أحد إلا بعد أن فرغت مخازن مسدسه من الذخيرة. لكن بعد أن أتمّ العملية البطولية بنجاح كلي مدوّ، العملية التي أحدثت زلزالاً في كيان الصهاينة وجعلتهم يشعرون بالعجز والهوان والذلّ أمام بطولة فلسطيني واحد قتل جدّه بيد صهيوني قبل ٢٥ عاماً أيّ قبل أن يولد بـ 4 سنوات فانتقم له ولشهداء جنين في عملية رسمت صورة بليغة تجهض مزاعم «إسرائيل» عندما قال ارباب الفكر فيها انّ «القضية الفلسطينية سيصفيها الزمن والوقت» حيث «إنّ الكبار يموتون، والصغار ينسون»، فإذا بالمشهد ينقلب خلافاً للظنّ، وانّ موت الكبير لم يترافق مع نسيان الصغير بل سيولد من الأصلاب وفي الأرحام الفلسطينية من هو أشدّ تمسكاً بالحقوق وأقوى مقاومة على استعادتها وأكثر عزيمة على الاستمرار في المواجهة حتى النصر.

لقد أكدت عملية البطل خيري علقم والتي تلتها عمليات أخرى في غضون 42 ساعة نفّذها أبطال آخرون منهم من لم يتجاوز الـ 13 ربيعاً، أكدت هذه العمليات حقائق هامة منها:\

اولا ـ عجز «إسرائيل» عن الوصول الى منظومة الأمن الوقائي الفاعل التي تحول دون تنفيذ مثل هذه العمليات النوعية الفريدة من نوعها، أو تحول دون النجاح في تنفيذها انْ وقعت، حيث تبيّن أنّ الشهيد «خيري» بطل فرد خطط وتجهز وتدرّب وأعدّ واستعدّ وقتل بمفرده وظهر أنه بمثابة «جيش في فرد» عصيّ عن الاكتشاف، عصيّ على المعالجة، وانّ عمليته تلك لا يمكن لأحد في الكون أن يكشفها او يمنعها او يفشلها.

ثانيا ـ فشل مبكر لسياسة حكومة نتنياهو القائمة على «العنف والإجرام المفرط»، أو لما تصحّ تسميته بـ «إرهاب الدولة» الذي تمارسه حكومة نتنياهو، فبدل أن يرتعب الفلسطينيون بعد مجزرة جنين حدث العكس حيث إنّ دماء شهداء جنين وأحجار منازلها شحذت الهمم ودفعت البطل خيري علقم الى الردّ السريع في أقل من 24 ساعة وقتل 9 صهاينة مقابل 9 فلسطينيين قتلهم الإجرام «الإسرائيلي» في جنين.

ثالثا ـ تأكيد وهن ما يُسمّى «أمن إسرائيل» الذي تدّعي حكومة نتنياهو أنه في رأس أولوياتها، ما يستتبع من تفشّي الشعور بالخوف لدى الصهاينة الذين ستتراجع ثقتهم بجيشهم وقواتهم الأمنية التي عجزت عن منع مثل هذه العمليات.

رابعا ـ التأكيد على أنّ الوقت لا يعمل لصالح «إسرائيل» وان مقولة «تصفية القضية بالموت والنسيان» مقولة غير واقعية، كما أنّ مقولة «فرض الاستسلام بالإجرام» مقولة عقيمة في ظلّ إرساء معادلة فلسطينية هامة مفادها «لا جريمة صهيونية بدون عقاب فلسطيني»، ما يعزز الردع الفلسطيني ويعطي زخماً للواقع الذي نشأ بعد معركة سيف القدس.

وبعد هذه الحقائق يبقى أن تستثمر النتائج بدءاً من الساحة الفلسطينية حيث يجب أن يلغى نهائياً التنسيق الأمني، وتتوحد الإرادة الفلسطينية حول المقاومة دون أيّ شأن آخر وتحتضن هذه الإرادة كما هو قائم من قبل محور المقاومة الذي تتحطّم على أسواره موجات العدوان بقيادة أميركية صهيونية.


*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي.

فيديوات مرتبطة

مقالات مرتبطة

هل اقتربت الحرب العالميّة الثالثة؟

الثلاثاء 21 حزيران 2022

العميد د. أمين محمد حطيط

كان لافتاً ما جاء في كلام قائد الجيش البريطاني الى جنوده غداة تعيينه في منصبه الجديد و»تنبيههم» لا بل «إنذارهم» بأنهم سيجدون أنفسهم قريباً في خضمّ حرب عالمية ثالثة بدأت تتوالد عناصر اندلاعها بسرعة منذ اللحظة التي اندلعت فيها نار حرب برية في أوروبا لأول مرة منذ العام ١٩٤١، تحذير او تنبيه يطلقه المسؤول العسكري البريطاني في لحظات أوروبية وغربية وعالمية حساسة وحرجة وفي ظلّ مشهد أوروبي عملاني بدأ بالتشكل مع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، مشهد يوحي تشكله بأنه يسير في غير الاتجاه الذي أراده أو شاءه المحور الانكلوساكسوني بقيادة أميركا ودفع أوروبا والحلف الأطلسي لاعتماده نهجاً وسلوكاً في مواجهة روسيا، فهل يصدق القائد الإنكليزي وينفجر الوضع الدولي حرباً عالمية ثالثة؟

في البدء لا يمكن لأحد أن يجادل في مسألة اتساع دوائر التوتر والاحتكاك في العالم، ولا يمكن أيضاً إغفال ما نجم على الصعيد الدولي من قواعد ومفاهيم جديدة بعد الحرب الكونية التي استهدفت سورية وأعقبت الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان والأهمّ بعد الصورة التي ارتسمت دولياً اثر العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا.

وإنّ مراجعة موضوعية شاملة لخريطة الاشتباك او النزاع الدولي تشي بأنّ منسوب التوتر العالمي بات في مستوى متقدّم بعد أن فشل الغرب بقيادة أميركية في تحقيق أهدافه التي اعتمدها وأعلنها منذ انحلال الاتحاد السوفياتي، ذاك الانحلال الذي أنهى الحرب الباردة لصالح أميركا التي خرجت منها منتصرة بغير كلفة تذكر، انتصار جعلها ترفع سقف طموحها وتتطرف في سياستها لتظهر كما قال رئيسها بوش الابن «بأنّ الرب اختارهم ليحكموا العالم ويسيروا به وفقاً للإرادة الإلهية». قول ترجم قاعدة جديدة في القانون الدولي أطلقتها أميركا واعتمدتها ضمناً الأمم المتحدة تقول بـ «الحق في التدخل الدولي الإنساني» الذي يستبيح سيادة الأمم والدول والشعوب، وتفرض أميركا إرادتها لأنها كما ادّعى رئيسها تترجم الإرادة الإلهية.

بيد أنّ أميركا ومعها الغرب الأطلسي عجزا عن تحقيق أهدافهما رغم ما اعتمدا في سبيلها من استراتيجيات متعددة بدءاً بـ «القوة الصلبة» مروراً بالقوة الناعمة، وصولاً الى القوة الناعمة الذكية والقوة الإرهابية المركبة، كلّ هذه الوجوه في استعمال القوة لم تؤدّ إلى إرساء النظام العالمي الأحادي القطبية، لا بل حدث شيء نقيض تمثل أولاً في الشرق الأوسط بقيام محور المقاومة الذي منع المحور الآخر من تحقيق أهدافه، وبشكل خاص أفشله في كلّ من سورية واليمن، وتبلور ثانياً في الجرأة الروسية في إطلاق العملية الخاصة في أوكرانيا والتي لها خصوصية تهز هيبة الأطلسي وفعاليته.

لقد أرادت أميركا ومعها الحلف الأطلسي الذي تحوّل بالسلوك العملي من حلف دفاعي، كما ينصّ ميثاق إنشائه الى تكتل عسكري هجومي عدواني تستعمله أميركا لتنفيذ سياساتها الاستعمارية وطموحاتها العدوانية ضدّ الدول والشعوب. أرادت أميركا أن تجرّ روسيا الى حرب تستنزف فيها قدراتها وتكسر هيبتها وتشلّ اقتصادها وتشطبها عن المسرح الدولي باعتبارها دولة من الصف الأول لتحوّلها الى دولة شبه إقليمية عاجزة محاصرة، فردّت روسيا بعمل عسكري مدروس يدفع عنها الخطر ويجنّبها الوقوع في الفخّ الذي نصبته أميركا لها في أوكرانيا.

لقد عرفت روسيا كيف تستغلّ الظرف الدولي وتتعامل مع نتائج الحروب الأميركية في العالم وبخاصة الحرب الكونية التي استهدفت سورية وعجزت أميركا عبرها عن إسقاط الدولة او تفكيكها أو جعلها في الموقع الذي تريده، عرفت روسيا كيف تقتنص الفرصة لتظهر قدرتها على المواجهة وشجاعتها في القرار وعدم تهيّبها أو خوفها من التهويل الغربي، ووضعت خطة التعامل مع التهديد الأطلسي من الباب الأوكراني تمكنها من العمل المسيطر عليه، وتمنع انزلاقها بعيداً الى حيث يريد العدو، وها هي بعد أربعة أشهر من بدء العملية وعلى أبواب نهاية المرحلة الثانية منها تستطيع، أيّ روسيا، أن تدّعي وبموضوعية أنها أنجزت معظم ما ذهبت الى تحقيقه هناك والأخطر مما في الأمر أنها فضحت العجز الغربي، وأسّست لواقع دولي لا يناسب في شيء أحلام أميركا وأتباعها من شركاء أو حلفاء.

لقد شكلت نتائج العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا حتى الآن صفعة للغرب وجعلته يعاني مما هدف الى دفع روسيا الى المعاناة منه، يعاني من الاستنزاف المتعدّد الوجوه، ومن الاختلال في دورته الاقتصادية، والتصدّع في علاقاته البينية حتى تشكل على الأقلّ محوران فيه المحور الانكلوساكسوني الذي يدعو الى إطالة أمد الحرب في أوكرانيا وإحداث بؤر توتر جديدة أيضاً مع التهويل بالحرب العالمية الثالثة، ومحور لاتيني جرماني يقرّ بالنتائج السلبية عليه للأزمة الأوكرانية وبعجزه عن الاستمرار في تغذية الصراع وتقديم المساعدات لأوكرانيا لمواجهة روسيا، ويدعو للتسليم بهذا الواقع والذهاب الى التفاوض الذي ينهي الحرب بعد الاستجابة للمصالح الأمنية والاستراتيجية الروسية.

ورغم واقعه غير المريح فإنّ المحور الغربي الانكلوساكسوني يرى انّ الأزمات الدولية تفرخ كالفطر وانّ حرباً عالمية ثالثة بات لا بدّ منها لحسم النزاعات وإرساء استقرار المنتصر في الحرب كما فعلت الحرب الثانية نوعاً ما، لكن هذا المحور الذي يهوّل بالحرب تلك ينسى او يتناسى انّ ظروف المواجهة العالمية لم تعد تخدم أهدافه في ظلّ متغيّرات أساسية ثلاثة تحكم أيّ مواجهة مستقبلية، أولها تنامي نزعة المقاومة القوية الفاعلة لدى الدول والشعوب المناهضة للغرب، وثانيها كسر احتكار الغرب لمصادر التسليح، وثالثها عجز الغرب عن التحكم بمصادر الطاقة العالمية. متغيّرات يقود الأخذ بها الى القول بعدم مصلحة الغرب في أيّ حرب ثالثة لأنها إذا وقعت لن تفضي رغم ما ستحدثه من تدمير هائل مع إمكانية تحوّلها الى مواجهات نووية، لن تفضي الى انتصار الغرب فيها.

وعليه نقول انّ بؤر التوتر الدولية رغم تعدّدها وتكاثرها من تايوان شرقاً الى الشرق الأوسط غرباً وأوكرانيا شمالاً مع ما يحتمل ظهوره من الجديد منها، فإنها تبقى دون مستوى القدرة على إحداث حرب عالمية ثالثة في ظلّ المتغيّرات الثلاثة التي ذكرت؛ ويضاف إليها التراجع الحادّ في الوضع الاقتصادي الدولي بشكل عام والوضع الأوروبي والأميركي بشكل خاص، لذلك نرى انّ البديل للحرب الثالثة هو النزاعات المتفرّقة والمتزامنة التي تتبادل التأثير دون أن تتطوّر الى صراع واسع يشمل المعمورة تحت عنوان حرب عالمية ثالثة. وانّ التحذير البريطاني الانكلوساكسوني جاء للتهويل وإظهار القوة والجهوزية وهما غير موجودين في عالم الحقيقة الفعلية الغربية.

وعلى هذا الأساس لن نستغرب كما لا نستبعد انفجاراً ميدانياً هنا او اندلاع نار هناك خاصة في قارات العالم القديم الثلاث، ولا نستبعد صراعاً أو حرباً محدودة على الطاقة او المياه او الغذاء لكن كلّ ذلك سيبقى تحت سقف السيطرة المعقولة، لأنّ الدول الأقوى عسكرياً في العالم والتي تملك السلاح النووي وتهدّد باستعماله حفاظاً على وجودها تعلم أيضاً حقائق ثلاث أوّلها حجم التدمير الهائل المتبادل في أيّ حرب عالمية شاملة، تدمير قد يكون من طبيعة الإفناء للبعض، وثانيها العجز عن الحسم وفقاً لإرادة المهاجم، وثالثها العجز عن السيطرة على دورة الاقتصاد العالمي. ومع استبعاد هذه الحرب والقول بتواصل النزاعات المتفرّقة لا بدّ من الانتباه الى انّ الخاسر في الشأن هو الذي كان يطمح للسيطرة الشاملة وسيجد نفسه في نهاية المطاف يفقد الجزء الأكبر منها مع تقدّم الدول والشعوب الصاعدة التي تكتب تاريخاً مناقضاً لتاريخ الاستعمار بوجهيه القديم والحديث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي.

هوكشتاين مغتبط بنجاحه في لبنان ويتّجه إلى المماطلة… فكيف نردّ؟


السبت 18 حزيران 2022

 العميد د. أمين محمد حطيط _

لم يكن هوكشتاين متحمّساً للمجيء الى لبنان لاستئناف الوساطة بينه وبين “إسرائيل” في مسألة ترسيم الحدود البحرية، ولم يكن الموفد الأميركي هذا يجد ما يدفعه لمواصلة العمل في إطار هذه الوساطة بعد أن علم بأنّ لبنان لم يوافق على مقترحه المتضمّن حلا لا يمتّ بصلة لأيّة قاعدة من قواعد القانون. والأهمّ في الأمر انتفاء حماسته أو أيّ دافع لديه للتوفيق بين الطرفين بعد أن باشرت “إسرائيل” العمل في حقل كاريش وبدأت بتشكيل أمر واقع لصالحها عبر الباخرة اليونانية انيرجين باور التي رست فوق حقل كاريش جنوبي الخط ٢٩ وجهّزت منصتها لتمدّ اليد إلى كامل محتويات الحقل على جانبي هذا الخط.

بيد أنّ طارئاً حصل وضع حداً فورياً لهذا التسويف والإهمال الأميركي، تمثل بكلمة السيد حسن نصرالله التي تضمّنت بشكل واضح إنذاراً جدياً بتدخل المقاومة لحماية الحقوق اللبنانية في الثروة البحرية وفقاً لما تحدّده الدولة اللبنانية، إنذار جاء معطوفاً على رسالة لبنان الى الأمم المتحدة، الرسالة التي اعتبرت المنطقة بين الخطين ٢٣ و٢٩ منطقة متنازع عليها، يمتنع على أيّ طرف العمل فيها قبل فضّ النزاع، فخشي الأميركي أن تنفذ المقاومة تهديدها وتضطر “إسرائيل” الى وقف أعمالها أولاً وأن تتدحرج الأمور الى مواجهة ميدانيّة تطير فرص الاستثمار “الإسرائيلي” للنفط وتفسد مسعى توفير الغاز البديل عن الغاز الروسي الذي تتحضّر أوروبا لوقف استيراده نتيجة الحرب الاقتصادية التي يشنّها الغرب على روسيا.

بعد ٩٦ ساعة من إطلاق المقاومة لتهديدها وصل هوكشتاين الى لبنان مستطلعاً الموقف الحقيقيّ المستجدّ دون أن يحمل أيّ عرض او مقترح جديد او أيّ تعديل لمقترحه العجائبي القديم الذي ليس فيه شيء يستدعي قبوله، جاء هوكشتاين الي لبنان خدمة لـ “إسرائيل” في مهمة ترمي الى الحصول على تنازل لبناني نهائي عن الخط ٢٩ ما يحرّر كلياً حقل كاريش ويطلق يد “إسرائيل” فيه ويقيد المقاومة التي التزمت بأن تكون خلف الدولة في الترسيم وجاهزة لحماية ما تحدّده الدولة من حقوق لها أصلاً ومدى، ولذلك كان هوكشتاين مهتماً وفقاً لمنهج الدبلوماسية الملتوية الاستنطاقية غير المباشرة مهتماً بالحصول على التزام لبناني بعدم اللجوء الى القوة والتمسك بوساطة أميركا وما يحصل منها ليس على أساس الحق والعلم والقانون بل بمنطق التسوية والسياسة التي تعتمدها أميركا لحماية وتأمين كامل مصالح “إسرائيل”، مع وعد بتقديم جوائز ترضية للبنان تتصل باستجرار الكهرباء والغاز من الأردن ومصر.

وفي اللقاءات التي عقدها الموفد الأميركي مع المسؤولين اللبنانيين وعلى كلّ المستويات بدءاً بمدير عام الأمن العام وصولاً الى رئيس الجمهورية مروراً ببعض النواب ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، يبدو أنه كان حريصاً على الاستماع والإيحاء فقط، لإفهام من يلتقيهم بأنه ليس هنا من أجل تطبيق القانون والعمل بالاتفاقيات ورسم خطوط الحدود وفقاً للقواعد القانونية، فـ “لبنان الآن لا يملك شيئاً وانّ أيّ شيء يحصل عليه أفضل من هذا الحال”، ولا فائدة من التمسك بالقانون ولا أهمية للمركز القانوني القويّ بنظره ولا جدوى عملية له. فالأهمية تكمن في ما يمكن الحصول عليه عملياً وليس في ما يعطينا القانون نظرياً، وأكد على سلوكه في حديثه الى التلفزة الأميركية (قناة الحرة) عندما سخر من القواعد والمعادلات التي يرفعها ويتمسّك بها لبنان واعتبرها شعارات لا جدوى منها وأنه هنا من أجل تأمين كامل مصالح “إسرائيل” والجزء المهمّ من مصالح لبنان.

أما الأطراف اللبنانية التي توحدت مواقفها خلف رئيس الجمهورية فقد أكدت على المطالب اللبنانية في الصيغة الراهنة والتي تتضمّن…

أولاً: توقف “إسرائيل” عن العمل في حقل كاريش وإخراج الباخرة اليونانية منه حتى يفضّ النزاع والتوصل الى الحلّ.

ثانياً: تعديل المقترح الأميركي السابق واعتماد الخط ٢٣ بالشكل المستقيم مع جيب فيه يحمي حقل قانا.

ثالثاً: رفع الحظر الغربي الضمني عن التنقيب اللبناني في البلوكات ٨-٩-١٠.

رابعاً: رفض فكرة شركة الاستثمار والعمل المشترك او التنسيق الاستثماري بين لبنان و”إسرائيل”.

من مجمل المطالب اللبنانية فهمَ هوكشتاين انّ مهمته نجحت لا بل حققت أقصى ما يمكن فيها حيث لمس انّ لبنان دفن الخط ٢٩ ولم يعُد هذا الخط له أيّة صفة رسمية او تفاوضية يعوّل عليها، وانّ حقل كاريش بكليته بات خارج منطقة النزاع، وبالتالي يمكن لـ “إسرائيل” متابعة العمل فيه بعيداً عن تهديد المقاومة التي ليس لممارسة القوة من قبلها مبرّر بانتفاء الذريعة بعد أن تنازل لبنان ضمناً عما حققه من رسالته الى الأمم المتحدة والمعمّمة بتاريخ ٢\٢\٢٠٢٢. حصل هوكشتاين على كلّ ذلك دون أن يلتزم بشيء اللهمّ الا ما ذكره من وعد بأنه سيعرض المطالب اللبنانية على “إسرائيل” ويترك لها القرار وفقاً لمصالحها، أما عودته التي استعجلها الطرف اللبناني فإنه لم يحدّد لها تاريخاً ولم يعد بشيء حولها.

وفي الاستنتاج بشكل موضوعيّ يكون هوكشتاين حقق أهدافه لمصلحة “إسرائيل” التي ستمضي قدماً في التنقيب والإنتاج ولن تكون قلقة من اضطراب ميداني يدفع شركات التنقيب الى الهرب من حقول الغاز والنفط بعد أن سحبت الذرائع من يد المقاومة، ولذلك لن يجد هوكشتاين ما يلزمه بتلبية مطلب لبنان بالعودة السريعة مع الإجابة علي المقترح اللبناني. وهنا تخشى مجدّداً المماطلة والتسويف وهدر الوقت لبنانياً في الوقت الذي تستثمره “إسرائيل” وتعقد الاتفاقات مع مصر وأوروبا لتسويق الغاز الذي ستحصل عليه من مناطق متنازع عليها مع لبنان.

لكن ومن جانب آخر، نجد انّ لبنان ورغم كلّ ما قيل في مواقفه من تساهل فقد احتفظ بيده حتى الآن بأوراق هامة قابلة للاستعمال واذا استعملت تجهض وبسرعة الأحلام “الإسرائيلية” والآمال الأميركية، فلبنان لم يسكب مطالبه في صكّ مكتوب يمكن أن يتحوّل الى وثيقة خطية تؤكد ما استنتجه الأميركي في مباحثاته في لبنان، وحتى الآن لم يعط لبنان إجابه خطية، وهذه نقطة مهمة وجوهرية. وبالتالي بإمكان لبنان إذا لمس أو تأكد من التسويف والمماطلة من الأطراف الأخرى وامتناعهما عن السير قدُماً وفي مهلة معقولة للوصول الى حلّ يحفظ القسم الأكبر من حقوقه، فبإمكانه ان يلجأ الى ردّ يتضمّن…

أولاً: تعديل المرسوم ٦٤٣٣ \٢٠١١ وإيداعه المراجع المختصة في الأمم المتحدة.

ثانياً: إعلان المنطقة ما بين الخطين ٢٣ و٢٩ منطقة متنازعاً عليها وإنذار الشركات الأجنبية ومنعها من العمل فيها وفي الحقول التي تتصل بها كلياً او جزئياً وحقل كاريش ضمناً.

ثالثاً: التمسك بالرسالة الموجّهة الى الامم المتحدة في شباط الماضي للتأكيد على ما تقدّم.

رابعاً: إطلاق يد الجيش والمقاومة لحماية حقوق لبنان وفقاً لما تقدّم.

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

ماذا يجب أن يسمع هوكشتاين من لبنان؟

الثلاثاء 14 حزيران 2022

العميد د. أمين محمد حطيط*

بعد أن أفشلت «إسرائيل» وبدعم أميركي المفاوضات غير المباشرة التي جرت عدة جولات منها في الناقورة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، وبعد أن وجد لبنان أنه من المستحيل قبول عرض آموس هوكشتاين «الإسرائيلي» ـ الأميركي الذي قدّمه الى لبنان بنتيجة المفاوضات المكوكيّة التي قادها بين لبنان و»إسرائيل» وأرادها بديلاً لمفاوضات الناقورة التي عجز فيها الوفد «الإسرائيلي» عن مقارعة الحجة اللبنانية بالعِلم والمنطق والقانون فلجأ الى التعطيل. بعد كلّ ذلك أقدمت «إسرائيل» على الانتقال الى الميدان العملي في الاستثمار واستقدمت باخرة يونانية لإنتاج الغاز من حقل كاريش الذي يقطعه الخط اللبناني المسمّى خط ٢٩ ويجعل قسماً منه واقعاً بين الخطين ٢٣ و٢٩ أيّ ضمن المنطقة التي طالب لبنان بها في مفاوضات الناقورة وأكد على أنها منطقة متنازع عليها في الرسالة التي وجّهها الى الأمم المتحدة وعمّمت في 2/2/2022.

لقد أرادت «إسرائيل» من فعلتها الأخيرة أن تضع لبنان أمام الأمر الواقع وتدعه بمسؤوليه يتخبّطون في البحث عن جنس الملائكة ويختلفون حول مدى الحقّ اللبناني في البحر ويتنازعون حول أيّ خط حدودي للمنطقة الاقتصادية الخالصة، نعم أرادت «إسرائيل» أن تفرض على لبنان قرارها وتستخرج الغاز والنفط من المنطقة التي أعلنت من قبله منطقة متنازع عليها «مطمئنة» الى انّ هوكشتاين الذي «استجار» به لبنان ليخرجه من الورطة التي وقع فيها، لن يقوم بما يزعج «إسرائيل» او يريح لبنان خاصة أنه يأتي هذه المرة الى لبنان ليس ليطلب كما كان يأتي سابقاً بل «ليرجو منه» وشتان ما بين الوضعين.

في ظلّ هذا المشهد الذي تجنّب فيه لبنان حتى الآن استعمال أوراق القوة التي يملكها خوفاً على المفاوضات، وفي ظلّ الخشية من ضياع الثروة مع الإدارة غير المريحة لملف الترسيم البحري منذ العام ٢٠٠٧، ومن أجل حماية حقوق لبنان وجّه السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله كلمته المتلفزة التي يصحّ تسميتها بـ «كلمة الدفاع عن حقوق لبنان في الثروة البحرية»، وجّه الكلمة التي وضع فيها النقاط على الحروف والتي أكد فيها ومع الحرص على موقع الدولة ومسؤوليتها عن الملف وعدم تجاوزها في الأمر، أكد جهوزية المقاومة وقدرتها على منع تشكل الأمر الواقع الذي تستثمره «إسرائيل» ويهدر حقوق لبنان، وشكلت كلمة السيد قبل أقلّ من ٩٦ ساعة من وصول هوكشتاين ورقة قوة أساسية بيد الطرف اللبناني في مواجهة الأميركي المدّعي أنه «وسيط نزيه»، وقد أفهم السيد بكلمته تلك ذاك المبعوث أنه لن يكون طليق اليد في الضغط على لبنان أو استباحة حقوقه أو الاستخفاف بمطالبه.

فهمت «إسرائيل» القصد من كلام السيد ولذلك سارعت في الردّ وعلى طريقتها من أجل تحصين مهمة هوكشتاين «الاستعلائية في لبنان»، ولهذا خرج رئيس أركان جيش العدو الصهيوني كوخافي ومن أجل إعادة التوازن التفاوضي الميداني العسكري، خرج مطلقاً التهديدات ذات السقف العالي جداً ضدّ لبنان مهوّلاً بحرب بتدميرية غير مسبوقة يحضر العدو لشنها على لبنان في حال تشكل الظروف التي تستدعيها، مهدّداً بتدمير شامل سينفذه جيشه في لبنان يستهدف البنى التحتية وأماكن السكن ومنصات الصواريخ ومراكز القيادة والاتصال وكلّ شيء بعد ذلك له صلة بحياة السكان.

إذن الأميركي «مرتاح» على وضعه، و»الإسرائيلي» لا يزعجه إلا موقف المقاومة في لبنان، والمقاومة تنتظر موقف الدولة اللبنانية لتبني على الشيء مقتضاه، وبدقة أكثر تؤكد المقاومة أنها لن تحلّ مكان الدولة في ترسيم الحدود ولن تحلّ مكانها في تحديد الحق اللبناني وجوداً ومدى، وهي تنتظر موقف الدولة في هذا التحديد لتستعمل قدراتها في الحماية، و»الإسرائيلي» يعرف انّ المقاومة قادرة على منعه من الإنتاج وقادرة على منع تشكل الأمر الواقع لصالح «إسرائيل»، ولذلك يستبق الأمر بالتهويل بالحرب الواسعة التدمير والتهجير والقتل ويبقى الكلّ ينتظر موقف الدولة اللبنانية التي تنتظر هوكشتاين ومسعاه، فما عساه حاملاً وما عسى لبنان فاعلاً؟

بعد الرماديّة والضبابيّة وعدم الحزم والصلابة في الموقف اللبناني، لا نتوقع أن يأتي هوكشتاين بشيء جديد أو ان يطرح ما قد يفتح ثغرة يعبر منها المفاوض اللبناني بأمان يبعده عن تهمة التنازل عن الحقوق، والأمر قد يتغيّر إذا تغيّر الموقف اللبناني جدياً وأظهر لبنان «جرأة» واستعداداً لاستعمال ما يملك من أوراق القوة وأن يشعر الموفد المزدوج الجنسية الأميركية مع «الإسرائيلية»، جهوز لبنان لاتخاذ القرار بتعديل المرسوم ٦٤٣٣ وإعلان كامل المنطقة ما بين الخط ٢٣ و٢٩ كمنطقة متنازع عليها واعتبار كامل الحقول التي تقع كلياً أو جزئياً في داخلها منطقة محظور العمل فيها حتى فصل النزاع، وجهوز لبنان لمنع ذلك بالقوة ولن يثنيه التهديد «الإسرائيلي» بالحرب عن ذلك.

أما ظهور لبنان بمظهر «الضعيف اللاهث وراء هوكشتاين أو المستجير به من أجل تحصيل حقوقه» فإنّ هذا من شأنه ان يجعل أميركا و»إسرائيل» أكثر تعنّتاً وأشدّ استخفافاً به وبحقوقه، وقد يكون منتجاً لبيئة تتدحرج فيها الأمور الى ما لا تحمد عقباه على أكثر من صعيد.

 وعليه فإنّ نتائج مهمة هوكشتاين لن تكون لمصلحة لبنان انْ لم يسمع هذا الموفد ويلمس وحدة الموقف اللبناني وصلابته وجدّيته ووضوحه في السعي الى المحافظة على حقوقه ويتسلّم طرحاً لبنانياً متماسكاً لآلية ناجعة لفضّ النزاع تتضمن المواقف والإجراءات التالية:

ـ التمسك بالمفاوضات غير المباشرة والعمل المتواصل حتى فضّ النزاع وترسيم الحدود البحرية في الجنوب.

ـ التمسك بمرجعيّات ترسيم الحدود البحريّة والتي هي في حالنا الراهن قانون البحار واتفاقية «بوليه نيوكمب» واتفاقية الهدنة والأحكام القضائية الدولية.

ـ قيام كلّ طرف بتعيين حدوده وفقاً لتفسيره وتطبيقه لتلك المرجعيّات وعرضها للتفاوض وفقاً للأصول، وهنا يكون على لبنان أن يعدّل المرسوم ٦٤٣٣ ليعتمد رسمياً الخط ٢٩، وليعتبر كامل المنطقة بين خطوط الأطراف مناطق متنازع عليها.

ـ وقف كامل الأعمال من أيّ طرف في الحقول الواقعة كلياً او جزئياً في المناطق المتنازع عليها ما يعني وجوب أن تخرج منها السفينة اليونانية العاملة في حقل كاريش.

ـ عقد المفاوضات غير المباشرة بحضور الوسيط الأميركي ومناقشة مطالب الأطراف وفقاً للمرجعيات أعلاه وعدم القبول بمنطق الرفض المسبق لمناقشة أيّ طرح.

في حال رفضت «إسرائيل» العمل بهذه الآلية فعلى لبنان ان يمنعها من العمل في كامل المنطقة المتنازع عليها في الحقول المتصلة بها، وهو يملك القوة الكافية لذلك. أما إذا استمرّ لبنان بتعطيل أوراق قوته او إهمالها وانتظار الفرج الأميركي والخضوع للأمر الواقع والتهديد والتهويل «الإسرائيلي» فإنه سيستمرّ في هدر الثروة وتضييع فرصة الولوج من الباب الوحيد المتاح للخروج من جهنم السياسة والمال والاقتصاد التي سقط فيها بفعل فساد الطبقة السياسية الداخلية والحرب الاقتصادية الخارجية التي تشنّها عليه أميركا منذ نيّف وسنوات ثلاث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي.

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

لبنان: مقاومة من أجل السيادة و«معارضة» تستبيحها!


الجمعة 3 حزيران 2022

 العميد د. أمين محمد حطيط _

من أبشع ما يعتمد في السياسة في لبنان هو تقليب الحقائق وتحريف الكلام عن مواضعه، واستعمال العبارة والمصطلح بعكس ما وضعا له أصلاً. نقول هذا وفي ذهننا ما يدّعيه البعض من أنه يعمل من أجل السيادة الوطنية وتنظر في فعله فتراه ينتهك السيادة ويعادي لا بل يقاتل من يعمل حقيقة من أجلها ثم يجعل نفسه أداة بيد الخارج المنتهك لهذه السيادة.

فللسيادة كما هو مستقرّ عليه مفهوم فلسفيّ وفقهيّ وقانونيّ، يوكد أنها امتلاك السلطة العليا على الذات بحيث لا يعلوها سلطة، فتكون الذات السيدة مقرّرة لنفسها وبنفسها بشكل مطلق لا يحده قيد ولا تنازعها سلطة أخرى ولا يفرض عليها إملاء صادر عن آخر.

وعندما نقول الذات فإننا نعني أيّ ذات وبمراتبها الأساسية الثلاث بدءاً بالذات القدسية العليا أيّ الله سبحانه وتعالى مروراً بالذات الإنسانية الطبيعية الفردية أيّ الإنسان الفرد، وانتهاءً بالذات المتشكلة اعتبارياً او معنوياً من جماعات أو إرادات وكيانات وعلى رأسها الشخصية الاعتبارية العليا التي تمثل الدولة.

والدولة كما هو متفق عليه في المبادئ السياسية والقانونية حتى والفلسفية هي الكيان الذي ينشأ نتيجة توفر عناصر ثلاثة هي الشعب والأرض والسلطة، والسيادة في الدولة هي أصلاً للشعب وتمارسها السلطة. فالشعب سيد نفسه ويختار او يقبل بسلطة تمارس هذه السيادة بحيث لا يكون في الدولة إلا سلطة واحدة هي السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة والتي تقرّر للدولة ما تراه مناسباً لها دون ان يفرض عليها أحد قرار، وعندما نتحدّث عن السلطة فإننا لا ننسى تعدّد الأنظمة الدستورية التي بموجبها تتشكل السلطة ومدى ارتباط او انبثاق هذه السلطة عن الشعب او قبول الشعب بها او فرضها عليه او إذعانه لها.

إذن هناك تمييز بين صاحب السيادة ومن يمارسها. هكذا أجمعت دساتير الدول الحديثة بأن تضمّنت النص على انّ الشعب هو صاحب السيادة والسلطة هي من يمارس هذه السيادة بتفويض من الشعب، تفويض تفسّره نظرية العقد الاجتماعي الذي التقت عليه الفلسفة السياسية لتبرّر كيفية تنازل الفرد عن جزء من حريته وحقوقه لصالح المجتمع والسلطة الوحيدة القائمة فيه من أجل حماية ما تبقي له من حقوق وفي طليعتها الحق بالوجود والأمن.

بيد أنّ الفرد يتنازل للدولة أو بصيغة أدقّ للسلطة في الدولة عن بعض حقوقه من أجل أن تضمن له او توفر له كلّ ما تبقى له من حقوق. فالتنازل هذا هو تنازل مشروط، والشرط الرئيس هو امتلاك الدولة او السلطة في الدولة الطاقة والقوة والقدرة على حماية هذا الجزء المتبقي من الحقوق فإنْ قصرت السلطة في سعيها جاز لمن فوّضها او تنازل لها عن حقّ ان يستعيد بعض او كل ما تنازل عنه حتى يمارس بنفسه تلك الحقوق وبشكل خاص حق الدفاع المشروع عن النفس الذي ضمنته كلّ المواثيق.. هذه هي القواعد والمبادئ التي ترعى السيادة وممارستها. فأين لبنان من ذلك؟

في نظرة على الواقع اللبناني نجد أمرين هامين: الأول ضعف الدولة وعجز السلطة القائمة فيها عن توفير ما يتطلبه الوجود الآمن والعيش الكريم للشعب، والثاني استباحة لبنان وانتهاك سيادته من الخارج. فإذا أردنا ان نفصّل اكثر في هذا فإننا نتوقف عند نماذج صارخة لهذا الانتهاك ومنها:

ـ التدخل الأجنبي في تشكيل السلطة في لبنان وسير أعمالها،

حيث اعتاد لبنان على التدخل الأجنبي في تشكيل سلطته وبدل أن تكون السلطة نتاج إرادة شعبية كما يملي مفهوم السيادة الصحيحة، فقد اعتاد اللبنانيون علي التسليم والخضوع للقرار الأجنبي في اختيار من يلي الحكم بدءاً من انتخاب رئيس الجمهورية وصولاً الى انتخاب النواب وكذلك التدخل في تعيين الوزراء وتشكيل الحكومة. وقلّ ان تجد دولة في العالم يتصرف فيها السفراء الأجانب بالشكل الذي يتصرفون فيه في لبنان، حيث يكاد يظهر السفير الأميركي والفرنسي والسعودي وغيرهم من سفراء الغرب والعرب في لبنان يظهرون بمظهر المرجعية النافذة القرار والتعليمات والتوجيهات التي تعلو سلطة الدولة وتطيح بسيادتها.

ـ الفيتو الغربي على إقامة لبنان علاقات دولية مع الشرق.

إنّ من وجوه أعمال السيادة، كما هو متفق عليه هو حق الدولة في إقامة العلاقات الخارجيّة مع من تشاء من الدول الأخرى، لكن لبنان الخاضع للإملاءات الغربية وبشكل خاص للأميركية منها لا يستطيع أن يقيم علاقات مع الشرق خاصة الصين وإيران وروسيا لسدّ حاجاته ودعم اقتصاده، وفي الوقت الذي تشتدّ الحاجة اللبنانية لتلك العلاقات تشتدّ الضغوط الأميركية لمنعها وتنصاع السلطة في لبنان لتلك الضغوط في دليل إضافي على انّ فوق سلطة لبنان سلطة أخرى أجنبية تقرّر لها وتلزمها في أبشع صورة من صور انتهاك السيادة.

ـ منع لبنان من حلّ مسألة النازحين السوريين.

من المنطقيّ والطبيعيّ أن يقوم لبنان بالتنسيق مع سورية لتنظيم عودة النازحين السوريين الى وطنهم، خاصة بعد ان انتصرت سورية وأفشلت الحرب الكونية التي استهدفتها، ومن مصلحة لبنان أن يتخفف من عبء مليون ونصف مليون لاجئ سوري اليه، خاصة أنّ وجودهم يفاقم الأعباء على الوضع الاقتصادي اللبناني المنهار، إلا انّ الغرب وبقيادة أميركية يمنع السلطة اللبنانية من القيام بذلك ليستعمل النازحين ورقة لابتزاز سورية وترضخ السلطة لهذا الإملاء.

ـ العدوان “الإسرائيلي” وانتهاك السيادة بوجوهها المتعددة.

منذ قيامها مغتصبة لفلسطين دأبت “إسرائيل” على الاعتداء على لبنان في كلّ الميادين براً وبحراً وجواً. وقد بات العدوان “الإسرائيلي” المستمر والمتمادي يشكل وجهاً من أبشع وجوه انتهاك السيادة اللبنانية، حيث إنّ “إسرائيل” تحتلّ أرضاً في لبنان منذ العام ١٩٦٧ ووصلت باجتياحها الى بيروت في العام ١٩٨٢ وتسيطر على الأجواء اللبنانية التي حوّلتها الى فضاء تدريب لطيرانها ومنصات اعتداء على سورية، وكذلك فإنّ تصرفاتها البحرية ومنعها الشركات الأجنبية من التنقيب عن الثروات النفطية في المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة، كلّ ذلك يشكل انتهاكاً صارخاً للسيادة اللبنانية، انتهاكاً وقفت الدولة اللبنانية عاجزة أمامه، لا بل انها خضعت في العام ١٩٨٣ للإملاء الأميركي ووقعت مع “إسرائيل” اتفاقية ١٧ أيار التي تتنازل فيها الدولة عن سيادتها في الجنوب لمصلحة العدو، وتقف الآن مكتوفة امام ملف الحدود البحرية واستخراج النفط والغاز.

في مواجهة هذا الانتهاك “الإسرائيلي” المتمادي والعجز الرسمي اللبناني، بادرت فئة من اللبنانيين للدفاع عن سيادة لبنان حيث عجزت السلطة اللبنانية، وبالتالي انّ هذه المبادرة المقاومة للانتهاك تعتبر تعبيراً صحيحاً عن ممارسة حق ووجهاً من وجوه الدفاع عن السيادة التي انتهكها العدو وقصرت سلطة الدولة عن حمايتها ولا يكون في هذا التصدي انتهاك للسيادة، كما يدعي المرجفون، بل يكون خدمة وطنيّة لحماية السيادة التي عجزت سلطة الدولة عن صيانتها.

إنّ قيام المقاومة بالمدافعة عن الأرض والحقوق والثروة يكون فعلاً من أجل صيانة السيادة في ظلّ عجز الدولة عن ذلك، بينما يكون التقاعس عن ممارسة الحقّ المشروع بالدفاع عن النفس بعد عجز سلطة الدولة عن ذلك يكون تفريطاً بالسيادة خلافاً لما يدّعيه البعض من أدوات السفارات في لبنان والذين يطلقون على انفسهم زوراً تسمية “سياديين” وهي تسمية معاكسة للحقيقة. ويكون التصويب على المقاومة تفريطاً بالسيادة وخدمة للعدو وانصياعاً للخارج. فالمقاومة هي بصدق “مقاومة من أجل السيادة” في مقابل مدّعي السيادة الذين هم في الحقيقة أتباع وعملاء للسفارات ومرتزقة لدول أجنبيّة تهدف الى تجريد لبنان من عناصر قوته واستباحة سيادته.

إنّ لبنان من دون المقاومة يعيش وللأسف العجز والعدوان وانتهاك السيادة، واقع لا يمكن أن يعالج إلا عبر إقامة الدولة المدنية القوية العادلة القادرة التي تؤمّن للشعب حقوقه وفي طليعتها الوجود الآمن والعيش الكريم عبر إلغاء الطائفية السياسية واعتماد قانون انتخاب وطني خارج القيد الطائفي ثم بناء الجيش القوى الذي يستطيع ان يواجه الأخطار الداخلية والخارجية وتأكيد تقييد السفراء الأجانب بحدود صلاحياتهم وفقاً لاتفاقية فيينا..

نعم نقول إنّ لبنان في واقعه القائم هو دولة منتهكة السيادة ولا يوجد فعلياً ومضة مضيئة في أفقها لحفظ هذه السيادة إلا المقاومة التي امتنعت عن ممارسة السلطة وركزت على مواجهة العدوان الخارجي، يساندها في ذلك قسم كبير من الشعب هو الأكثرية الوطنية الواضحة وتتكامل مع الجيش اللبناني ليكتمل عقد ثلاثية قوة لبنان “شعب وجيش ومقاومة” في حماية السيادة، ثلاثية تشكل حاجة للبنان حتى بناء الدولة القادرة دون التوقف عند نعيق الناعقين.

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ

يوم القدس العالميّ ومعادلات نهاية الكيان الصهيونيّ المؤقت

 العميد د. أمين محمد حطيط _

أظهر الإمام الخميني بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 انّ هذه الثورة ليست لإيران وحدها بل إنها ثورة من اجل حقوق الأمة الإسلامية ومن أجل حقوق المظلومين والمضطهدين في العالم. وبصيغة أخرى هي ثورة من اجل نشر الحرية وتأكيد سيادة الحق في العالم. ومن هذا المنطلق أطلق في مواجهة الكيان الصهيوني جملة من المواقف تلتقي جميعها على هدف واحد هو وجوب إزالة هذا الكيان، لأنه قائم على الظلم والطغيان وسلب حقوق الآخرين.

وفي سياق المواقف الإيرانية في ظلّ الثورة، من هذا الكيان، كانت عملية إغلاق السفارة «الإسرائيلية» في طهران وتسليم مبناها للفلسطينيين ليكون مقراً لسفارة فلسطين التي يجب أن تقوم دولتها على كامل أراضيها المغتصبة من قبل الكيان منذ العام 1948 وكان أيضاً إطلاق يوم القدس العالمي الذي حدّد موعده في يوم الجمعة الأخير من رمضان من كلّ عام وتكون فيه دعوة للمسلمين وللعالم أجمع للتوقف عند مأساة اغتصاب القدس والعمل على إنهائها.

وفي تحليل للإعلان الأخير هذا نجد أنه في جوهره يتعدّى الشأن السياسي الإعلامي الاحتفالي ليصل الى المفهوم الاستراتيجي العميق للمسألة في ما يفرز رزمة من المعاني والرؤى تبدأ بوضع عنوان صارخ جامع للقضية الفلسطينية هو القدس التي تحرّك إثارتها المسلم والمسيحي على حدّ سواء نظراً لما فيها من رمزية دينية وما تحتويه من أماكن مقدسة تخصهم، رمزية ومحتوى تمكن إثارتها من التأكيد علي الظلم الواقع وعلى وجوب فرض نهاية له. فإحياء يوم القدس العالمي الذي دعا إليه الإمام الخميني يعني بكلّ بساطة رفضاً للجريمة وتذكيراً بوقوعها واستمرارها وإنكاراً لأيّ قبول او تسليم بها عملاً وتحشيداً لوضع حدّ لها وإنتاجاً لبيئة عدم استقرار عالمي مع استمرارها وأخيراً ومع موجة التطبيع التي احدثتها اتفاقات ابراهام مع العدو الصهيوني فإنّ ليوم القدس في هذا الوقت بالذات أهمية خاصة من حيث الفرز الذي يحدثه بين معسكرين، معسكر نصرة الحق الذي يحتضن فلسطين ويحمل قضيتها ومعسكر التطبيع الذي يعمل بالباطل الذي تقوم «إسرائيل» عليه.

بيد انّ هذا الإعلان الذي بدأت الاستجابة له خجولة يوم أطلق ومقتصرة على دولتين او ثلاث وبعض الأحزاب الحديثة النشأة بات اليوم يظهر في شكل مختلف وبات بالفعل يوماً عالمياً يحتفل به ويشارك في فعالياته تمهيداً او في يومه بالذات، مكونات متعددة من دول وأحزاب لا تقتصر على محور المقاومة بل وتتعداه الى دول وشعوب أخرى خارج منطقة غربي آسيا والشرق الأوسط، ثم انّ هذا الإعلان وفي هذا العام ومع ما آل اليه العالم من المستجدات والمعادلات يؤكد أهمية اعتماده قبل أربعة عقود ويثبت بأنّ فكرة إنهاء الكيان الصهيوني المؤقت ليست وهماً وطموحاً من غير أساس بل انها مبنية على ما يبرّرها ويؤكد وقوعها بشكل أكيد.

ففي العام المنصرم استطاعت المقاومة الفلسطينية القائمة في غزة ان تفرض معادلة دفاع عن القدس لم تكن تخطر ببال الصهاينة، معادلة فاجأت العدو الصهيوني بمضمونها وبمفاعليها، حيث إنها قامت على فكرة ان «القدس تحمى من داخلها ومن خارجها». وهذا هو المضمون الحقيقي لأهداف عملية سيف القدس التي ترجمت ناراً تنطلق من غزة لتحمي حي الشيخ جراح في القدس وتمنع تهويده وتثبت أهاليه فيه، وقد رضخ العدو الصهيوني للمعادلة تلك والتي أعيد التذكير بها في الأسابيع الأخيرة من شهر رمضان الحالي حيث ان مجرد التلويح بها كان كافيا ليدفع العدو الصهيوني الى وقف الاستفزاز حول الأقصى ويمنع مسيرة الأعلام التلمودية إليه وبعده في كنيسة القيامة يوم سبت النور.

وبعد سيف القدس كان بالغ الأهمية الموقف والدعوة التي وجهها السيد حسن نصرالله في ٢٥ أيار ٢٠٢١ لإرساء معادلة جديدة في مواجهة العدو مضمونها انّ «المسّ بالقدس يعني حرباً إقليمية شاملة»، ونحن نرى أنّ هذه الدعوة ـ الإعلان تشكل ترجمة استراتيجية وميدانية للهدف من إعلان يوم القدس العالمي أساساً، وفيها اعتبار مسؤولية الدفاع عن القدس لا تقع حصراً على المقدسيين او الفلسطينيين او العرب او المسلمين او المسيحيين، بل انها مسؤولية المنطقة بكاملها وان على شعوبها ان تسعى الى أمنها واستقرارها وازدهارها بإخراج العامل المنتهك لحقوقها منها وذلك باقتلاع الغدة السرطانية المسماة «إسرائيل».

انّ ما أحدثته عملية سيف القدس ٢٠٢١ من مفاعيل وما ترمي اليه الدعوة الى إرساء معادلة الحرب الإقليمية الشاملة دفاعاً عن القدس وما ترمز اليه وما تخفيه في ثنايا قضيتها من شأنه أن يجهز على استراتيجية إسرائيلية ثابتة اعتمدتها «إسرائيل» منذ اغتصابها لفلسطين، استراتيجية تقوم على التفتيت والتجزئة والاستفراد وقضم حقوق الأخيرين لقمة لقمة دون السماح لهم بالتوحد او العمل الجماعي لمشترك ضدّها.

وعملاً بهذه القاعدة الصهيونية رفضت «إسرائيل» في العام ١٩٤٨ التفاوض مع وفد عربي مشترك لتوقيع الهدنة وأصرّت على توقيع الهدنة ثنائياً مع كلّ دولة عربية بمفردها وكررت السلوك في مؤتمر مدريد في العام ١٩٩٢. اما في عقيدتها العسكرية فإنها تعتمد مبدأ «العمل على جبهة واحدة وتثبيت الجبهات الأخرى»، كل ذلك لأنها تخشى من وحدة موقف الأعداء ضدها وقد اختبرت عقيدتها اكثر من مرة ونجحت وكانت حرب الـ ١٩٧٣ الاختبار الساطع حيث إن العرب فتحوا جبهتي الشمال والجنوب معاً في الجولان وسيناء فانهزمت «إسرائيل»، ولكن عندما توقفت جبهة الجنوب عوّضت «إسرائيل» هزيمتها في الشمال.

وعملاً بهذا الشأن نجد منطقياً القول بانّ نهاية «إسرائيل» تقترب مع اعتماد اعدائها لاستراتيجية العمل الجماعي المنسق ومنطق واستراتيجية الحرب الشاملة، شمولاً في الجبهات ما يفرض العمل على جبهات متعددة في الداخل الفلسطيني وعلى الحدود مع الجوار وشمولاً في الأطراف المشاركة ما يمنع «إسرائيل» من استفراد أي طرف منها مهما كان حجمه القتالي وشمولاً بأساليب القتال بين حرب من الجيل الثالث أو الرابع أو الخامس.

وبهذا يكون في مضامين يوم القدس العالمي الدعوة للإعداد للحرب الشاملة تلك وتحشيد الطاقات للانخراط بها من اليمن في الجنوب الى لبنان وسورية في الشمال والى العراق وإيران في الشرق ويبقى العامل والمكوّن الفلسطيني هو الجوهر والمحور والأساس في المواجهة في هذه الحرب الشاملة التي اطلق الدعوة لاعتمادها وإرساء معادلتها السيد حسن نصرالله.

وأخيراً لا بد من الإشارة الي انّ إنهاء «إسرائيل» قد لا يستلزم خوض الحرب فعلياً، وقد يكتفى بالإعداد لهذه الحرب والاستعداد لخوضها بشكل جدّي وفاعل ما يحمل العدو على الانهيار الإدراكي والهروب من المواجهة حتى قبل ان تبدأ. والمهمّ أولاً وقبل كلّ شيء اعتناق عقيدة العمل الجماعي المشترك والموحد في مواجهة نظرية التجزئة والاستفراد التي تعتمدها «إسرائيل» وستكون النتائج إيجابية لمصلحة حقّ الأمة في فلسطين من غير شكّ او تردّد.

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

متغيّرات الموقف الروسيّ من “إسرائيل” وانعكاسه على سورية…؟

الثلاثاء 19 نيسان 2022

 العميد د. أمين محمد حطيط*

في الأيام الأولى للعملية العسكرية الخاصة التي بدأتها روسيا في أوكرانيا ومع مناشدة اليهودي زيلينسكي لـ «إسرائيل» التدخل ومساعدته للمواجهة للاحتفاظ بموقعه في رئاسة أوكرانيا وعمله كممثل للغرب الأوروبي الأميركي ضدّ روسيا، في تلك الأيام الأولى حرصت «إسرائيل» على التظاهر بأنها اتخذت موقفاً وسطاً بين روسيا وأوكرانيا لأنها لا تريد ان تضحّي بمصالحها مع روسيا، وبطبيعة الحال لا يمكنها ان تجازف في الوقوف ضدّ الغرب الى جانب روسيا، فكان التظاهر بالوسطية أو شبه الحياد بين الطرفين هو الحلّ الأفضل المتاح لـ «إسرائيل» للتملص من الإحراج، وسطية قادتها إلى عرض الوساطة واستضافة المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا إذا توافقتا على «تل أبيب» لتكون مكاناً لها.

بيد أنّ هذا الموقف «الإسرائيلي الوسطي المحايد» لم يدم طويلاً في ظلّ ما سجّل في مسار المواجهة وتطورات المواقف الدولية حيث انحازت «إسرائيل» كما هي الحقيقة لأميركا وصوّتت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ضدّ روسيا وكانت من الـ ٩٣ صوتاً التي طالبت بإخراج روسيا من مجلس حقوق الإنسان، ثم فتحت أبوابها للمعارضين الروس والمتموّلين من يهود وسواهم الذين أخرجوا الثروات الطائلة من روسيا إضراراً بالاقتصاد الروسي، يُضاف الى ذلك ما زوّدت به «إسرائيل» أوكرانيا من قدرات وخبرات وأسلحة بشكل ظنّت أنه سيبقى بعيداً عن العين الروسية، وفي المحصلة بات الكيان الصهيوني في موقع عدائيّ واضح ضدّ روسيا وضدّ عمليتها العسكرية الخاصة ومصطفاً كما هو في حقيقته مع المعسكر الغربي الذي تقوده أميركا.

لم تفاجئ المواقف «الإسرائيلية» مَن يعرف هوية «إسرائيل» وطبيعتها وعلاقاتها الدولية، ومع هذا شكلت هذه المواقف صدمة لروسيا التي كانت قد وصلت في معمعة المواجهة مع الغرب الى درجة احتساب أيّ موقف دولي حيالها مهما كانت درجة سلبيته والاستعداد للردّ بما هو مناسب، ولذلك فإنّ أوائل الموقف الروسية ضدّ «إسرائيل» متمثلة في ما صدر عن الخارجية الروسية من إدانة للأداء «الإسرائيلي» ضدّ الفلسطينيين في الأرض المحتلة، والتذكير بأنّ هذا الاحتلال يشكل «أطول احتلال في التاريخ»، موقف طرح علامات استفهام حول ما سيكون من مواقف روسية حيال الاعتداءات التي تستهدف سورية وهي الاعتداءات التي بدأت مع بدء الحرب الكونيّة على سورية في العام ٢٠١١ واستمرت مع تمركز القوات الروسية في الميدان السوري بناء لطلب من الحكومة السورية في مهمة مساعدة الجيش السوري لمواجهة العدوان الإرهابي على سورية.

لقد أثار السكوت الروسي عن الاعتداءات «الإسرائيلية» الكثير من الانتقادات في صفوف من يدعم سورية ويتمنى وصولها الى حدّ منع العدو «الإسرائيلي» من الاعتداء عليها، وكان الردّ دائماً انّ روسيا في سورية لمحاربة الإرهاب وليست لمواجهة «إسرائيل» وانّ المصلحة الروسية العليا تفرض إبقاء قدر عالٍ من العلاقة الإيجابية مع «إسرائيل» لاعتبارات مختلفة منها الروسي الداخليّ والمتعلق بفعالية اليهود في قطاعات الأعمال والمال والإعلام في روسيا، ومنها إقليميّ ودوليّ ويتعلق بقوة ودينامية «إسرائيل» في شبكة العلاقات الدولية وعدم مصلحة روسيا في معاداتها حتى لا تتسبّب بإحداث نوع من العرقلة أو إنتاج الصعوبات التي تعيق استعادة موقعها على الخريطة الاستراتيجية بعد أن كانت فقدتها إثر تفكك الاتحاد السوفياتي وفرضت أميركا عليها الجلوس في المقاعد الخلفيّة دولياً،

أما اليوم ومع خوض روسيا مواجهة عنيفة مع الغرب، فإنّ أشياء كثيرة تغيّرت، وباتت ملزمة بتوزيع العناوين التي اختارتها بدقة على كلّ الدولة التي لها علاقة أو تأثير ما على مسرح المواجهة وعناوين تتراوح بين العدو والصديق والحليف وبينها أيضاً عنوان «دولة غير صديقة» أو تعبير ملطّف يستعمل بدلاً من تعبير «الخصم» أو العدو، فروسيا تجنّبت في معرض تصنيف الدول حيالها تجنّبت ما وقع به الرئيس الأميركي من تصنيف ثنائي للدول، حيث قال إنّ «من ليس معنا فهو ضدنا» أيّ من لم يكن صديقاً وحليفاً لأميركا فهو عدوّ لها وتعامله على هذا الأساس، أما روسيا فقد وسّعت مروحة التصنيف وأدخلت عبارات جديدة غير مألوفة أو مستعملة سابقاً في العلاقات الدولية.

ومع هذا التحوّل ستكون «إسرائيل» بعد سلسلة التصرفات التي قامت بها ضدّ المصالح الروسية أقرب الى التصنيف بأنها «دولة غير صديقة»، وهو تصنيف سيستتبع من التصرفات ما يناسبه في أكثر من مجال. وهو تصنيف فهمت تركيا أبعاده حتى الآن والتزمت حدوداً تبعدها عنه الى حدّ ما. ومع هذا الاحتمال وتوقع تصنيف «إسرائيل» على أنها كيان غير صديق سيطرح السؤال حول ما قيل من تنسيق وتفاهمات والتزامات روسية حيال «إسرائيل» في الميدان السوريّ، حيث ستكون الأسئلة كبيرة وذات طبيعة عملانية من جهة واستراتيجية من جهة أخرى، وتبدأ بالسؤال عن موقف القوات الروسية حيال الاعتداءات «الإسرائيلية» على سورية او الموقف من مطالب «إسرائيل» حيال إيران وحزب الله وفصائل محور المقاومة الأخرى في سورية عامة وعلى جبهة الجولان خاصة.

إننا نرى أنّ المواقف من العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا فرضت خلطاً للأوراق الدولية ووضوحاً في هوية وطبيعة تلك المواقف وهي ستضع حداً للزئبقية فيها، وانّ الميدان السوري سيشهد بداية هذه المتغيّرات. وهنا لنا أن نتوقع سلوكاً روسياً متطوراً أولاً في مواجهة «إسرائيل» وتالياً في مواجهة تركيا وأخيراً في مواجهة الاحتلال الأميركي وأداته الانفصاليّة «قسد».

وعليه يكون لنا أن نتوقع زخماَ سورياَ بدعم روسي ومن محور المقاومة لمواجهة هذه الأضلاع الاحتلالية والعدوانية الثلاثة أميركا وتركيا و»إسرائيل»، ولا نستبعد أن يشهد الميدان السوري تكثيفاً لاستهداف الإرهابيين في البادية أو تفعيلاً لعمل المقاومة في مواجهة الاحتلال الأميركي أو بحثاً عن مخرج لتركيا يُخرجها من الأرض السورية من غير الاضطرار للمواجهة العسكرية التي ستكون مخصصة بشكل أساسي للإجهاز على ما تبقى من جماعات إرهابية في إدلب وصولاً الى الحدود مع تركيا.

فمسرح العمليات المتعدّدة في سورية الذي شهد نوعاً من الاسترخاء خلال السنتين الماضيتين على موعد كما يبدو مع تطورات مرتقبة ستسقط استراتيجية أميركا القائمة على قاعدة «إطالة أمد الصراع» ومنع سورية من «إطلاق عملية إعادة البناء» والحؤول دون استثمارها لانتصاراتها ولثرواتها الطبيعة. وإذا كانت دوائر الغرب بدأت تتآلف مع استعمال عبارة «الحرب السورية انتهت والأسد انتصر»، فإنّ المتبقي هو استكمال الانتصار والعودة الى الحياة الطبيعية الآمنة. وهذا ما يبدو انّ التطورات المحلية والإقليمية والدولية تتيحه بشكل أفضل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ.

ما الخطة العسكريّة الروسيّة التي اعتمدت في أوكرانيا… ونتائجها؟

 العميد د. أمين محمد حطيط _

خطّطت أميركا وخلفها الغرب الأوروبي لاستدراج روسيا الى أوكرانيا وإغراقها في مستنقع لا تستطيع الخروج منه أو لا تخرج منه إلا بعد إنهاكها والقضاء على اقتصادها لا بل والنيل من وحدتها وتفكيكها الى دول متناحرة تضيع بين حدودها المكانة النووية استراتيجياً وتفقد حق الفيتو في مجلس الأمن دولياً وهما الميزتان اللتان كانتا للاتحاد السوفياتي وورثتهما روسيا بعد تفككه، واليوم تريد أميركا شطبهما من الكينونة الروسية بشكل نهائي. كلّ ذلك تقدم عليه أميركا من أجل إسقاط المثلث الاستراتيجي المشرقيّ الذي يرفض ويعمل من أجل الإجهاز النهائي على فكرة الأحادية القطبية التي حلمت بها أميركا وخاضت من أجل إرسائها الحروب المتتالية والمتنوّعة، فكرة لا تزال تدغدغ أحلامها رغم ما واجهته من عوائق وما مُنيت صاحبتها من هزائم.

وحتى تنفذ خطتها لجأت أميركا الى تدابير استفزازية دفعت اليها أوكرانيا الدولة الجار لروسيا ذات الـ ٤٥ مليون نسمة (ما يعادل ربع سكان روسيا) وذات المساحة التي تتجاوز الـ 600 الف كلم2، ومنذ العام 2014 بدأت أميركا بخطتها الجهنمية ضدّ روسيا بالانقلاب الذي أطاح بحكومة أوكرانية وطنية تقيم علاقات حسن جوار طبيعية مع روسيا، انقلاب جاء الى الحكم بدمية بيد الغرب وفئة من القوميين والنازيين الجدد المعبّأين بعميق الكراهية ضدّ روسيا، ما فرض على روسيا اتخاذ الوضع الدفاعي عن مصالحها ومستقبلها والأهم حاضراً عن أمنها القومي وأمن الأشخاص الروس او الذين هم من أصل روسي ويقيمون في أوكرانيا بصفتهم مواطنين بعد ان ضمتّ القيادة السوفياتية السابقة ارضاً روسية الى أوكرانيا لتشكل منها دولة في الاتحاد السوفياتي احتفظت بالأرض الروسية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.

حاولت روسيا جاهدة التفلت مما ينصب لها في أوكرانيا من كمائن او فخاخ، وعرضت بأكثر من طريقة ووسيلة وأسلوب حلولاً لما تخشاه خاصة على صعيد الأمن القومي وامن الأشخاص الروس، وكان الرفض الأميركي بصلافة وتعنّت هو الردّ دائماً وكان هذا طبيعياً من أميركا التي تخطط بالشكل الجهنّمي ضدّ روسيا، ووصلت الأمور في نهاية المطاف الى وضع روسيا أمام خيارين: اما السكوت على الاستفزاز وتآكل الموقع والقدرات والوصول الى يوم لن يكون بعيداً تضطر فيه للدفاع عن الدولة على أبواب موسكو وتتذكر يومها الغزو الغربي لها أكثر من مرة وما خلفه من قتل ودمار، او المبادرة بعمل عسكري استباقي ووقائي يقيها من هذه الأخطار دون أن تدخل النار أرض الدولة الروسية. بين الأمرين اختارت الحلّ الثاني رغم ما فيه، من مخاطر وما ينطوي عليه من الوقوع في الفخ الأميركي، ويحقق رغبة أميركا في اقتياد روسيا الى حرب استنزاف قاتلة،

بيد انّ روسيا ومع اختيارها للعمل العسكري النوعي الاستباقي، الذي اضطرت عليه كخيار بين السيّئ والأسوأ. واختارت السيّئ، بادرت الى وضع خطط تنفيذية تجنبها قدر الإمكان او الى الحدّ الأقصى الانزلاق الى حرب استنزاف أو عمليات قتل المدنيين كما تشتهي أميركا ومن أجل ذلك اختارت للتنفيذ استراتيجية الضغط المتدرّج الذي أملت منها حمل القيادة الأوكرانية على التفاوض تحت وطأة الميدان والضغط العسكري فيه من أجل الاستجابة للمطالب الروسية ذات الصلة بالأمن القومي الروسي وأمن الأشخاص الروس.

وفي التنفيذ ترجمت هذه الاستراتيجية عسكرياً بما يؤدي الى تدمير القدرات العسكرية الأوكرانية وتجفيف مصادر القوة، ونزع الانياب والأظافر وحرمان أوكرانيا من الإمكانات العسكرية الذاتية او التي تمنح لها من الخارج لتتمكن من إدارة حرب استنزاف ناجحة وطويلة الأمد تحقق لأميركا اهدافها. ومن أجل ذلك التزمت ونفذت روسيا ميدانياً بما يلي:

ـ الاقتصاد بالقوى مع تخصيص جزء بسيط من قواتها المسلحة وقواتها العسكرية وإناطة مهمة العملية العسكرية النوعية به، ولذلك لم تزجّ في الميدان وتدفع عبر الحدود أكثر من ١/١٣ من قواتها المقاتلة وهي نسبة متدنية جداً كما يعلم العسكريون لا يكون من شأنها ان ترهق الجيش مهما طال أمد العمليات.

ـ التخطيط للحرب الطويلة غير المرهقة حتى لا يكون طول المدة أداة ضغط عكسية على روسيا.

ـ التوجه لتدمير القدرات العسكرية الأوكرانية شاملاً الأسلحة والذخائر في الميدان وفي المستودعات وفي مصانع الإنتاج بما يحرم الجيش الأوكراني من الوسائل العسكرية المحلية التي تلزمه للقتال والمواجهة والصمود.

ـ اعتماد استراتيجية الحصار  للإنهاك النفسي والميداني الذي يفرغ المدن من سكانها ما يقود الى إسقاطها في نهاية المطاف مع تجنب حرب الشوارع ومعارك الالتحام وخسائرها او قتل المدنيين في بيوتهم، وفي هذه النقطة قلبت روسيا الاتجاه حيث تجنّبت حرب الاستنزاف ودفعت الخصم اليها وهو برأينا إبداع روسي.

ـ الاندفاع البدئيّ السريع للعملية عبر الحدود مع تعدّد محاور العمل (٣ محاور رئيسية ومحورين ثانويين) بما يحقق الصدمة والرعب ويقود الى الانهيار الإدراكي والإخراج من الميدان دون قتال لأنّ هدف روسيا لم يكن القتل بل التحييد عن القتال،

ـ رسم الخطوط الحمراء الصارمة بوجه التدخل الغربي الأطلسي وتجلى ذلك بـ ٣ مواقف الأول التلويح بالسلاح النووي الرادع، والثاني اعتبار قوافل الإمداد العسكري أهدافاً  مشروعة أينما كانت، والثالث اعتبار فتح مراكز التدريب والتحشيد وتجنيد الأجانب عملاً يستوجب التدخل لتدميرها.

ـ الارتقاء التصاعدي في استعمال الاسلحة بشكل يحقق مصالح روسية مركبة من عملانية ولوجستية واستراتيجية مع التقيّد بقاعدة “التناسب والضرورة” حسب المستطاع والحاجة والإمكان، ومن هنا نفهم كيف لجأت روسيا الى استعمال صاروخ “كنجال” ذي الرأس عالي الدقة والخارق للتحصينات من أجل تدمير مستودعات الأسلحة والذخائر، او إطلاق صاروخ باستون من قطعة بحرية في البحر الأسود ليدمّر أهدافاً في البر الأوكراني رغم أنه في الاصل معدّ للاستعمال ضدّ السفن، ففي هذه النقطة يبدو انّ روسيا تتجه الى عرض واستعراض القوة والقدرات العسكرية العالية المستوى وتأكيد قرارها الاستراتيجي بالمضيّ حتى النهاية لتحقيق أهدافها مهما استلزم ذلك من بذل.

ـ الإمساك بورقة المصانع البيولوجية والجرثومية التي أقامتها أميركا في أوكرانيا والتلويح بفضح الخطط الأميركية بصددها.

وبالنتيجة وفي اقلّ من شهر تمكنت روسيا من تحييد اكثر من ٧٥٪ من الجيش الأوكراني وفرض الحصار على ٣ مدن رئيسية منها العاصمة كييف كما وإحكام حصار بحري كامل على أوكرانيا فحرمتها من التجارة عبر البحرين الأسود وآزوف، كما أنها دمّرت المصانع العسكرية في معظم أوكرانيا ووضعت اليد على قاعدتين نوويتين أساسيتين في تشيرنوبيل وزاباروجيا متجنبة الى الحدّ الأقصى المواجهات الميدانية المباشرة ومعتمدة بشكل رئيسي على القدرات النارية براً وجواً وبحراً وعلى قدرات الصدم المناسبة.

وعلى هذا الأساس نستطيع القول من الوجهة العسكرية إنّ روسيا التي تعمل مع هوامش أمان كثيرة بعيداً عن ضغط الوقت، تجنّبت حرب الاستنزاف لا بل دفعت الخصم اليها وصاغت أسس معركتها بشكل يمكنها من تحقيق أهدافها بشكل مؤكد ما يعني أنّ أوكرانيا ستكون ميدان فشل إضافي للسياسة الأميركية التي حصدت فشلاً مركباً والأخطر فيه هو الفشل الاستراتيجي المتمثل بسقوط نهائي للأحادية القطبية.

أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

هل تنزلق قمة النات إلى مواجهة روسيا عسكريّاً ومباشرة؟


الجمعة 18 آذار 2022

 العميد د. أمين محمد حطيط _

حرصت روسيا في عمليتها العسكرية الخاصة التي أطلقتها في أوكرانيا بهدف الدفاع عن الأمن القومي الروسي وأمن الأشخاص الروس في إقليم الدونباس غربي الحدود مع أوكرانيا، على إظهار تحركها منجزاً في إطار أحكام القانون الدولي العام، حيث إنها لم تبدأ عمليتها إلا بعد أن اعترفت باستقلال الجمهوريتين المنفصلتين عن أوكرانيا ثم توقيع معاهدة تعاون ودفاع مشترك معهما ثم قيام الجمهوريتين بطلب تقديم الدعم العسكري للدفاع عنهما. ثم انها ودعماً لحقها في تنفيذ العملية أظهرت الكثير من الوثائق والحجج التي تثبت أنّ أوكرانيا كانت تعدّ لعدوان على روسيا بأسلحة تقليدية وغير تقليدية، وبالتالي فإنّ العملية برمتها يمكن تصنيفها تحت عنوان «الحرب الاستباقية»، وانها عمل من أعمال الدفاع المشروع عن النفس ضدّ خطر تخطى الاحتمال ووصل الى درجة التحقق الفعلي.

وفي هذا التحليل تقدّم روسيا عمليتها او تبرّر أعمالها العسكرية بأمرين الأول استجابة قانونية لطلب دولة حليف متعاقد منعها عسكرياً والثاني دفاع مشروع عن النفس ضدّ خطر تأكد قرب وقوعه، وبالتالي تسقط روسيا من التداول فرضية العدوان التي تتمسك بها مجموعة الغرب الأطلسي وتؤمّن لنفسها الغطاء القانوني الذي يوفره لها التفسير المتقدّم لأحكام القانون الدولي العام وبشكل أدقّ لأحكام الحقّ بالدفاع المشروع عن النفس وإغاثة الحليف المهدّد المعتدى عليه العاجز عن دفع العدوان عنه، ولا تكترث لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يرى غير ذلك وبأكثرية ١٤١ صوتاً، بل تقدّم تفسيراً جديداً لمدى حقّ الدفاع عن النفس تفسيراً سيكون محلّ نقاش من قبل خبراء القانون.

 واستنادا لما تقدّم خططت روسيا لعمليتها العسكرية الخاصة وحدّدت أهدافها بأنها دفاعية محضة وانها لا ترمي فيها لاحتلال او اقتطاع أرض بل ترمي الى منع أوكرانيا من تشكيل تهديد جدي مستقبلي للأمن القومي الروسي ولأمن السكان من أصل روسي في الدونباس، أمن يتحقق بشكل عملي وميداني وواقعي لا يكتفي بالمعاهدات والالتزامات القانونية بل يتخطاها الى الحالة والسلوك العملي والسبب في ذلك عائد الى انّ أوكرانيا التي كانت قد التزمت في اتفاقيتي مينسك ١ و٢ بما يؤمّن طلبات روسيا حول الأمن نكثت بالتعهّدات تلك واندفعت في تقديم نفسها مسرحاً لأميركا وللحلف الأطلسي يقيم فيها المختبرات البيولوجية ويتحضر للعبث بالأمن القومي الروسي، ورأت انّ هذه الأهداف لا تتحقق بشكل أساسي إلا بإعلان حياد أوكرانيا ونزع سلاحها وتأكيد استقلال جمهوريتي الدونباس فضلاً عن الاعتراف بنهائية عودة شبه جزيرة القرم الى الدولة الأم روسيا كما سبق وأعلن في العام ٢٠١٤.

بيد انّ اميركا التي امتهنت الاستخفاف بالقانون الدولي العام ومارست الحروب العدوانية ضدّ الشعوب بذرائع مختلفة منها بدعة حقّ التدخل الإنساني المتقدّم على السيادة الوطنية، او إنقاذ العالم من خطر سلاح الدمار الشامل إلخ… وكلها بدع وذرائع تثبت كذبها والخطأ في إطلاقها، انّ أميركا هذه أنكرت على روسيا حقها بالدفاع المشروع عن النفس واعتبرت فعلها عدواناً وأعلنت عليها الحرب الشاملة ووصل الأمر بها الى الحدّ الذي اطلق فيه الرئيس الأميركي بايدن على الرئيس الروسي بوتين صفة «مجرم حرب» وتوعّده بأنه سيدمّر الاقتصاد الروسي ويعزل روسيا عن كامل العالم.

وفي المقابل كان الردّ الروسي وعلى لسان بوتين نفسه مؤكداً الحقّ الروسي بالدفاع المشروع عن النفس ومظهراً إصراره على المضيّ في العملية العسكرية التي أطلقها حتى تحقيق أهدافها المحددة والمعلنة وموجها بشكل صريح او ضمني رسائل واضحة لكلّ معني بالأمر بانّ روسيا لن توقف عمليتها قبل تحقيق أهدافها، وانّ هذه الأهداف يمكن ان تتحقق بالتفاوض إذا استخلصت حكومة كييف العبر من مجريات العملية حتى الآن وانّ تقديم الدعم العسكري لكييف لن يمكنها من الصمود أمام الآلة العسكرية الروسية الماضية قدماً في أعمالها العسكرية حتى النهاية. وأخيراً انّ من حقّ روسيا ان تتصرف وفقاً لمصالحها الدفاعية مع مقدّمي تلك المساعدات وقوافل الإمداد التي تحملها، والمتطوّعين الذين يجندهم الغرب من المرتزقة للقتال في أوكرانيا وبالتالي بات الصراع في أوكرانيا محكوماً باستراتيجيتين:

ـ أولى روسية وتتمثل بالضغط العسكري للوصول الى التفاوض، دون التوسع باحتلال الأرض والاكتفاء بتدمير القدرات العسكرية لحكومة كييف بما يدخلها في الانهيار الميداني ويحملها على الدخول في تفاوض جدي والاستجابة لطلبات روسيا ذات الطبيعة الدفاعية عسكرياً واستراتيجياً وسياسياً، وبما يحول دون تحوّل أوكرانيا مستقبلاً الى منصة تهديد للأمن القومي الروسي.

ـ الثانية أميركية غربية أطلسية وترمي الي إطالة أمد الصراع وجرّ روسيا الى حرب استنزاف لسنوات طويلة لإنهاكها واستنزاف قدراتها وإشغالها عن علاقتها الدولية والمشاركة في حلّ الازمات والمسائل الدولية ومنعها من التكامل الاستراتيجي مع الصين وإيران في إطار المجموعة الاستراتيجية العاملة لمنع أميركا من التسيّد على العالم في ظلّ نظامي دولي أحادي القطبية.

هما استراتيجيتان إذن تحكمان المواجهة في أوكرانيا التي باتت مسرحاً لصراع دولي ينظر إليه من الوجهة الروسية بأنه صراع وجودي ترى انّ الهزيمة فيه تعني نهايتها كدولة بصيغتها القائمة، لأن الهجوم الغربي سيتمدّد ليصل الى تفكيك روسيا ذاتها وشطبها كدولة اتحادية ذات موقع متقدّم في النظام الدولي، وترى فيه أميركا جسراً تعبر عليه ليخرجها من دائرة هزائمها ويمكنها من استعادة القبض على قرار العالم ومتابعة إحكام السيطرة على أوروبا وعلى مصادر الطاقة لتتفرّغ بعد ذلك لمواجهة الصين لاحتوائها.

اما في الميدان، فإنّ روسيا تسعى الآن لممارسة الضغط العسكري بأقصى ما يمكن، مع الاستعداد لتوسيع الاشتباك إذا اقتضى الأمر وزجّ قدرات جديدة ولا تبعد من حساباتها إمكانية الاشتباك مع الناتو إذا وصلت الى وضع لا يكون فيه مفرّ من هذا الاشتباك. أما أميركا فإنها خططت في الأصل لحرب بالوكالة تستعمل فيها كلّ ما هو بمتناول يدها شاملاً الإعلام والسياسة والاقتصاد والفن والرياضة إلخ… من دون ان تقحم قواتها العسكرية أولاً ودون استبعاد اللجوء اليها عند الاضطرار، مع التركيز على مسألتين الأولى منع كييف من الاستسلام والتوجه الى مفاوضات لتوقع فيها اتفاق إذعان مع روسيا، والثاني منع التراخي الأوروبي في مواجهة روسيا مهما كانت الظروف، وهنا يُطرح السؤال عن احتمالات المستقبل وعن نهاية الحرب، حيث يمكن تصوّر حصول واحد من ثلاثة احتمالات:

الأول: تمكن روسيا من تصعيد ضغوطها العسكرية في الميدان وإطلاق مفاوضات جادة مع أوكرانيا تفضي الى التسليم بالمصالح الروسية وتحقق أهداف العملية العسكرية بشكل مؤكد، وهو احتمال لا يبدو قريباً في الظرف الراهن انما ستستمر روسيا بالسعي وفقاً له.

الثاني: خشية روسيا من الثمن الباهظ في حال الانزلاق الى حرب استنزاف وفقاً للخطة الأميركية ما يحملها على التراجع التكتي عسكرياً والتوقف عن محاصرة المدن الكبرى مع الاحتفاظ بكامل السيطرة على كامل الدونباس وفرض الحصار البحري على أوكرانيا الى ان تتهيأ فرص الاتفاق على حلّ وسط يلبّي الأهداف الروسية الأساسية.

الثالث: تغيّر في استراتيجية روسيا او الناتو ما يؤدّي الى توسيع ميدان الحرب خارج حدود أوكرانيا وسقوط فرضيتي حرب الاستنزاف والحرب البديلة او الحرب بالوكالة. وهنا سيكون العالم كلّ العالم على اعتاب مرحلة صراع عالمي غير مسبوق ولم تعرفه حتى الحربين الأولى والثانية، وان انعقاد قمة الناتو في الأسبوع المقبل وبحضور بايدن شخصياً يؤشر الى أمر لا يمكن إهمال خطورته وهو الاحتمال الذي يبقى الأبعد تحققاً الآن.

أما فرضيات الدخول في حرب استنزاف كما تشتهي اميركا، او تراجع روسيا دون تحقيق أهدافها، فإننا نرى انهما فرضيتان لا يُعتدّ بهما الآن، لأنّ في ذلك انتحاراً روسياً من المستحيل ان تقدم روسيا عليه خاصة أنها تملك من القدرات والطاقات التي تمكنها من العمل في أيّ من الخيارات الثلاثة أعلاه وكلها تحقق لها مصالحها وإنْ تفاوتت سقوفها وحجم التضحيات والأثمان فيها.

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

مواطن الضعف الغربيّ في المواجهة في أوكرانيا

 العميد د. أمين محمد حطيط

عندما خسر الغرب حربه الكونية على سورية وعجز عن تفكيكها لإعادة تركيبها بما يناسب المشروع الصهيوأميركي الذي يخدم نظرية الأحادية القطبية العالمية بقيادة أميركا، اتجه الى اعتماد استراتيجية بديلة تقضي بإطالة أمد الصراع في سورية لمنعها من استثمار إنجازاتها والحؤول دون عودتها الى حياتها الطبيعية من غير مسّ بوحدة أراضيها وسيادتها التامة عليها، وتوجيه ضربة استراتيجية كبرى لروسيا لمنعها من استثمار الإنجاز في سورية وحرمانها من موقعها في العلاقات الدولية والحؤول دون اكتمال ظروف تشكل نظام عالمي جديد قائم على التعددية في الأقطاب والتحالفات والتفاهمات والمجموعات الدولية الاستراتيجية.

لقد انصرف الغرب منذ العام 2019 ـ تاريخ تأكد هزيمته في سورية الى وضع الخطط الهادفة لتحقيق ما يريد في الميدان الشرق أوسطي وعلى الحدود مع روسيا لمحاصرتها ثم إسقاطها وشطبها من المعادلة الدولية وكانت استراتيجية الاحتواء والتطويق هي المسلك المفتوح أمام الغرب بقيادة أميركية لتحقيق الغرض، ولهذا كانت عملية أذربيجان ضدّ أرمينيا حليفة روسيا وكان مشروع الثورة الملونة في كازاخستان ضدّ النظام الموالي لموسكو والمنتظم معها في منظمة الأمن الجماعي، ثم كانت السلوكيات الأخطر والأدهى من حيث الاستفزاز والاستدراج في أوكرانيا التي تحوّلت بشكل واضح الى رأس رمح في الخاصرة لا بل في القلب الروسي.

فهمت روسيا مبكراً وعميقاً ما يخطط لها وقرأت جيداً أهداف الغرب بقيادة أميركية ضدّها ولم تهمل العبارات الغربية التي تتضمّن علانية او ضمناً مفهوم العداء الغربي لروسيا سواء في ذلك على صعيد الناتو أو على صعيد دول الغرب الكبرى التي جاهرت بأنّ «روسيا عدو»، لكنها التزمت في الردّ أقصى درجات ضبط النفس وابتلاع المشاعر السلبية مع الاستمرار في تطوير العلاقات الاقتصادية التي فيها مصالح للطرفين بشكل متبادل وشبه متوازن لا بل فيها أرجحية لصالح روسيا. لكنها في الوقت ذاته اتجهت الى بناء المجموعة الاستراتيجية الدولية التي تتقاطع مع أطرافها في السعي لإقامة التوازن الدولي والنظام التعددي على أنقاض النظام العالمي الأحادي الذي تعمل أميركا لإرسائه وتثبيته، فكان التطوير الهامّ للعلاقة مع الصين وايران وإقامة المثلث الاستراتيجي المناهض للهيمنة والسيطرة الغربية على العالم المثلث الذي شكل إنجازاً استراتيجياً للدول الثلاث أرفدته روسيا بإنجازها في أذربيجان وكازاخستان حيث أفشلت مهمة تطويقها من الجنوب والجنوب الغربي وراكمت به انتصاراتها الى جانب محور المقاومة في سورية.

بيد انّ الغرب بقيادة أميركية وبوقوفه على ما تقدّم، شعر باختلال في المشهد الدولي والاستراتيجي لصالح روسيا وحلفائها وقرّر جرّ روسيا الى ميدان يستنزفها فيه لسنوات تنتهي بشطب روسيا من المعادلة الدولية، ولما كان الطوق الأميركي كسر في أذربيجان وكازاخستان، وانّ الميدان السوري مهما تعاظم أمره لا يشكل مدخلاً كافياً لإدارة حرب استنزاف ضدّ روسيا حتى ولو نجح الأمر في ان تكون العمليات فيه كافية لاستنزاف سورية وفقاً للتقدير الغربي فقد وقع الاختيار على أوكرانيا لتكون ميدان الاستنزاف القاتل لروسيا، استنزاف تنفذه قوى عسكرية وشبه عسكرية وميليشيات وجماعات إرهابية لا تتضمّن مباشرة في صفوفها قطعات من الجيوش النظامية الغربية المنضوية او غير المنضوية في الـناتو، استنزاف تخدمه وتواكبه حرب شاملة يشنها الغرب على روسيا من كلّ الأبواب السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والرياضية، حرب تشمل كلّ شيء باستثناء العمل العسكري القتالي المباشر الذي تقوم به الجيوش النظامية.

لقد رأى الغرب في ساحة المعركة في أوكرانيا منفذه الأخير لتعويض ما فاته او ما خسره او تعذر عليه تحقيقه في مواجهة أعدائه في العقود الثلاثة الماضية، وخاصة في العقد الأخير الذي تبلورت فيه أكثر وجوه خسائر الغرب وتقدّم خصومه، ولذلك كانت أميركا ملحة ومُصرّة على تفجير الوضع بوجه روسيا واستدراجها الى الميدان الأوكراني، حتى أنها وصلت الى درجة وضع الخطط التنفيذية لاجتياح إقليم الدونباس وشبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا اليها قبل ٨ سنوات وصولاً الى الاستعداد للتحرّش بروسيا داخل أراضيها.

في مواجهة الإصرار الغربي قرّرت روسيا الدفاع لثني الغرب عن خطته بكلّ السبل، بدءاً بالتمسك باتفاقيتي مينسك ١ و ٢ اللتين تضمنان أمن السكان في إقليم دونباس، ثم بتحشيد ١٠٠ ألف عسكري على الحدود لإظهار القوة وحمل الخصم على التراجع، ثم كشف أسرار السلوكيات الغربية العدائية ضدّ روسيا والسكان من أصل روسي، إلا أنّ كلّ ذلك لم ينجح في ثني الغرب عن خطته العدائية وإصراره على جرّ روسيا الى حرب استنزاف وتدمير شاملة، حيث اضطرت روسيا إليها في نهاية المطاف فحرّكت قواتها غرباً تحت عنوان «عملية عسكرية خاصة» لحماية الأمن القومي الروسي وأمن الأشخاص الروس عبر الحدود،

والآن وبعد أسبوعين من انطلاق العملية التي ظنّ الغرب في البدء وبخاصة أميركا انه نجح في استدراج موسكو اليها، وانّ الفخ أطبق على الدب الروسي وفقاً لما يشتهي الغرب، بعد أسبوعين من العمليات العسكرية يتبيّن للغرب سوء تقديره ويكتشف انّ الفخ المزعوم لا فعالية له بالشكل المرتجى، لا بل انّ الآثار السلبية للمواجهة القائمة تطال الغرب عامة وأوروبا خاصة بأضرار تفوق ما كانوا يتوقعون إنزاله بروسيا، وتنكشف مواطن الضعف الغربي في أكثر من عنوان نذكر منها:

أولاً: خشية الناتو بقيادة أميركا من المواجهة العسكرية المباشرة مع الجيش الروسي ما حمل الناتو على تجنب التدخل المباشر والإعلان صباح مساء انّ أوكرانيا ليست جزءاً من الناتو الذي هو «حلف دفاعي لا يبادر الى هجوم» بزعمهم، وهم في الحقيقة يخشون مواجهة القوة النووية الثانية في العالم، وكان للإنذار الروسي بعد تجهيز قوات الردع الاستراتيجي أثره الكافي في هذا المجال،

ثانياً: الارتداد السلبي للحرب الاقتصادية علي الغرب وخاصة أوروبا في مجال الطاقة وظهور وهن الاقتصاد الأوروبي المعتمد علي الغاز والنفط الروسي ما جعل الحرب الاقتصادية ذات مفعول بالغ التأثير على أوروبا ما ينذر بسقوط الاقتصاد الأوروبي لا بل بتدميره في بضعة شهور لا تتعدّى الستة ان لم يوجد حلّ لأزمة الطاقة ولا يبدو انّ في الأفق حلاً.

ثالثاً العجز عن تنظيم مقاومة وطنية أوكرانية فاعلة والاضطرار الى الاستعانة بمرتزقة الخارج ما سيحول البوابة الشرقية لأوروبا ومن أوكرانيا بالذات الى مجمع للإرهاب العالمي ما سيرتدّ أيضاً على الامن الأوربي بوجهيه القومي والفردي وينعكس سلباً على دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية بشكل خاص.

رابعاً: تفلت روسيا من مكامن استهدافها بحرب الاستنزاف، ما يجعل الغرب يتحمّل من أعباء هذه الحرب مع طول المدة فوق ما يتحمّله المستهدف خاصة أننا نسجل لروسيا تعاملها الذكي مع الموضوع كما يلي:

ـ اعتمادها استراتيجية الضغط المتدرّج الصاعد بدل استراتيجية السيطرة والاحتلال،

ـ استعمالها قدراً لا يتجاوز ١/١٣ من مجمل قدراتها العسكرية بحيث تغدو العمليات العسكرية في أوكرانيا بمثابة مناورات بسيطة تسطيع القيادة إبدال القوى فيها شهرياً او مرة في الشهرين.

ـ تجنب الدخول الكثيف الى المدن وخوض حرب الشوارع.

ـ تجنب الانتشار والانفلاش العسكري الواسع الذي يتيح للإرهاب فرص الاستهداف السهل.

ـ الأداء الإنساني الراقي مع السكان المدنيين وتجنّب المسّ بهم ما يقلبهم الى خانة العداء.

ـ الاعتماد المكثف علي أسلحة عالية الدقة في تدمير الأهداف العسكرية والاستراتيجية دون المسّ بالسكان والتقيّد المتقن بقاعدة التناسب والضرورة المعتمدة في القانون الدولي الإنساني.

ـ وأخيراً عدم العمل تحت ضغط الوقت لا بل استعمال المناورة المتقلبة بين الشدة والاسترخاء وفتح الممرات الإنسانية لتحييد السكان وخدمة لاستراتيجية الضغط.

لكلّ ما تقدّم نستطيع القول بأنّ روسيا عرفت متى تطلق عمليتها لتجعلها عملاً عسكرياً استباقياً في معرض الدفاع وعرفت كيف تتملص من فخاخ العدو وعرفت كيف تناور في الميدان وعلى المسرح الاستراتيجي العام، وبالتالي عرفت كيف تستعمل أوراقها لتكتب نصرها بقدم ثابتة ونفس واثقة بقدراتها.

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

ماذا يعني العرض «الإسرائيليّ» لمساعدة الجيش اللبنانيّ؟

الجمعة 4 فبراير 2022

 العميد د. أمين محمد حطيط 

في موقف مفاجئ أو تراءى أنه فاجأ الكثيرين أعلن وزير الحرب «الإسرائيلي» انّ «إسرائيل» عرضت على الجيش اللبناني المساعدة ولكن الجيش رفضها، ولم يكن الإعلان كما بدا من التداول الإعلامي مرحباً به من قبل فرنسا وأميركا الدولتين اللتين تتصرفان بأنهما المسؤولتان عن لبنان بشكل عام، وبشكل خاص عن الجيش اللبناني ومؤسسات رسمية هامة أخرى.

لقد صدم الإعلان البعض خاصة، وهو يتأمّل وضعاً وصلت فيه «إسرائيل» في نظرتها الى لبنان وجيشه الى الحدّ الذي تسمح لنفسها معه ان تعرض على جيشه المساعدة ليتجاوز الصعوبات التي يعانيها. طبعاً انّ أحداً ممن يعرف الجيش اللبناني لم يكن يتوقع موقفاً غير الذي اتخذته القيادة بالرفض القاطع وحتى عدم الاكتراث به الى الحدّ الذي جعلها لا تصرّح او تعلن عن الأمر شيئاً، وكأنّ الأمر لم يحدث أو أنّ عرضاً لم يكن.

فالجيش اللبناني الذي عانى منذ تأسيسه في العام 1945 على يد فؤاد شهاب، عانى الكثير من التحديات والصعوبات ما لم يعرفه جيش آخر، ورغم ذلك أعيد جمعه وتشكيله على أساس وطني على يد العماد إميل لحود، تشكيل أخرجه قوياً متماسكاً وأقول على أساس وطني مؤكد يعتنق ويعمل بعقيدة عسكرية وطنية تقوم على تحديد العدو وحصره في «إسرائيل» التي تحتلّ من لبنان أرضاً وتنتهك سيادته براً وجواً وبحراً وتهدّد ثروته، وتحديد الصديق بأنه كلّ من يمدّ الجيش بدعم ومعونة وتأييد في مهمته الأساسية التي هي الدفاع عن الوطن بوجه العدو وتمكين الجيش من حفظ الأمن والنظام في الداخل في كلّ ما يتجاوز قدرات قوى الأمن. وكان من الطبيعي جداً أن جيشاً هذه عقيدته أن يرفض من عدوّه أيّ مساعدة، ولن نناقش في الموضوع أكثر بل يكفي أن نقول بالمختصر إنّ الذي يؤمّن وحدة الجيش ويحفظ تماسكه هو تمسكه بعقيدته العسكرية الوطنية بعيداً عن الانزلاق الى متاهات وفخاخ تنصب له بعيداً عنها.

وبالفعل وخلال العقود الثلاثة الماضية نجح الجيش في مهامه وحفظ تماسكه رغم كلّ الهزات التي تعرّض لها بدءاً من العام ١٩٩٣، حيث رفض الجيش ان يتحوّل الى سور يحمي الاحتلال «الإسرائيلي» في الجنوب ويواجه المقاومة التي تتصدّى له. وفي العام ١٩٩٦ نجح الجيش في تأمين ظهر المقاومة وتناغَمَ أداؤه مع أدائها بما منع العدو من تحقيق أهداف عدوانه وأجبره على القبول بتفاهم نيسان الذي فتح الطريق الى التحرير في العام ٢٠٠٠ حيث برع الجيش في التعامل مع طرد «إسرائيل» من الجنوب ولعب الدور المميّز في التحقق من خروجها وحفظ الأمن المرن في المناطق المحررة. وفي العام ٢٠٠٦ كان الجيش متماسكاً ومنيعاً في تعامله مع الأخطار التي شكلها العدوان «الإسرائيلي» عليه وعلى لبنان. ويستمرّ الجيش في مهامه بنجاح رغم قلة الإمكانات وشحّها، الشحّ الذي تفاقم خلال السنوات الثلاث الأخيرة ما أفسح المجال للعدو بأن يعرض المساعدة، العرض الذي يجب ان يتوقف عنده كلّ معني بشأن لبنان وشأن جيشه.

قلت انّ الرفض اللبناني للعرض بالمساعدة من «إسرائيل» هو أمر بديهي وطبيعي لكلّ من يعرف الجيش اللبناني ويعرف عقيدته العسكرية الوطنية. فالجيش اللبناني هو جيش وطني يعرف كيف يتخذ قراراته وكيف يؤدّي وظائفه بما يحفظ الوطن. وطبعاً هو يختلف جذرياً عن فئة من اللبنانيين ادّعت الحاجة الى مساعدة فذهبت الى «إسرائيل» للحصول عليها وانخرطت بهذه المساعدة في حرب أهليّة لا يزال لبنان يعاني من آثارها. والجيش اللبناني هو جيش منبثق عن شعب انبثقت منه مقاومة فاعلة وقويّة استطاعت أن تحرّر الأرض وتمنع احتلالها والجيش اللبنانيّ هو جيش عرف كيف يواجه الإرهاب منذ العام ٢٠٠٠ وكيف يبقي الدولة واحدة لا ترسم فيها خطوط الحدود التي تقسمها، ولكن رغم كلّ هذا نجد العدو يملك الوقاحة التي تدفعه الى عرض المساعدة على هذا الجيش!

قد لا يستغرب البعض العرض «الإسرائيلي» الذي يأتي في زمن باتت فيه «إسرائيل» موجودة علانيّة أو سراً في كلّ عاصمة عربية باستثناء ثلاث او أربع عواصم، وقد لا يستغرب العرض في زمن تجري فيه «إسرائيل» مناورات عسكريّة مع عدة جيوش عربية، وفي زمن يطير فيه رئيس كيان العدو فوق مكة والمدينة في الحجاز، وفي زمن يشكل التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية أساساً لدعم الاحتلال في الضفة الغربية، فـ «إسرائيل» رغم خيباتها في لبنان تظن أنها بما حققته مع العرب الآخرين تستطيع أن تحتوي الجيش اللبناني او تبدي حياله مراسم الودّ والصداقة بما يجعله يرتاح إليها، أو تظنّ اّن الحاجة قد تجعلها في موقع يستخفّ بهذا الجيش فتعرض مساعدته رغم أنه عدو لها.. وهو ظنّ او اعتقاد نراه حتماً خاطئاً اذ رغم كلّ ما يقول بعض اللبنانيين او ممّن يحملون الهوية اللبنانية ورغم ما تدفع اليه فرنسا وأميركا، فإننا نراه ظناً بعيداً عن الحقيقة؛ لا بل هو أمر مستحيل التحقق. لكن يبقى ان نتوقف عند الجانب او الوجه الآخر من العرض وهي أمور لا بدّ من الإضاءة عليها نذكر منها:

ـ على المسؤولين اللبنانيين ان يتوقفوا عند العرض الإسرائيلي ويتذكروا انّ الذي تسبّب بصدور هذا العرض لا بل أنتج البيئة التي استجلبته هو أداؤهم الذي قاد الى حرمان الجيش وأفراده ومن كلّ الرتب من مقتضيات العيش الكريم، ما جعل راتب العسكري لا يكفي لانتقاله الى مركز عمله، وحرمهم من الكثير من مستلزماتهم الطبية، وحمل عناصر من هذا الجيش الى الفرار والسفر خارجاً، عدد بلغ كما ذكر وزير العدو الـ ٥٠٠٠ عنصر.

ـ انّ الجيش الذي يعوّل عليه لحماية لبنان في وحدته وسيادته وصل الى مستوى صار فيه العدو يعرض عليه المساعدة، وبالتالي إنّ مجرد صدور العرض من العدو يشكل إهانة ومسّاً بمعنويات الجيش المولج بالتصدّي لهذا العدو في انتهاكه للحقوق الوطنية، وإنّ هذه المعنويات لا تستقيم الا بعمل عاجل يسدّ حاجات الجيش الفردية والشخصية والعسكرية العملانية.

ـ إنّ مَن يدّعي الحرص على الجيش من الدول الغربية خاصة أميركا هي أيضاً ساهمت في تحقق هذا الوضع، عندما منعت الجيش وانصاع المسؤولون في الدولة لإملاءاتها برفض المساعدة العسكرية غير المشروطة من أصدقاء مثل روسيا والصين وإيران، دون أن تقدّم هي المساعدة المكافئة البديلة.

وفي الخلاصة ندعو المسؤولين في الدولة الي التوقف عند هذا العرض المسموم والفعل الخطر وتشكيل هيئة طوارئ وطنية من شأنها الوقوف على حاجات الجيش مؤسسة وأفراداً والعمل على توفيرها لمعالجة الوضع الذي جعل العدو يعرض المساعدة.

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ

«ثورة» كازاخستان: خطر تمّ احتواؤه حتى الآن… ولكن؟!

2022 الثلاثاء 11كانون ثاني

 العميد د. أمين محمد حطيط*

عندما اشتدّت حدة التوتر بين روسيا وأوكرانيا حتى بلغت حدّ التكهّن بقرب إطلاق روسيا عملاً عسكرياً واسعاً داخل تلك الدولة التي ترشح نفسها للانضمام الى حلف الناتو لتضع الحلف ملاصقاً لروسيا عند حدودها الغربية، عندها صرّح بايدن أنّ أميركا لن تكون على استعداد للتدخل العسكري ضدّ روسيا في أوكرانيا، لكنها ستتخذ من التدابير بحقها ما يجعلها تتألم او تندم اذا نفذت تهديدها بالاجتياح؛ موقف جاء بعد أشهر من قرار بايدن الانسحاب السريع من أفغانستان وإعلان أميركا عن تفاهم مع العراق يضع حداً لانتشار قواتها القتالية فيه ويحوّله الى وجود من طبيعة عسكرية استشارية ولوجستية من أجل تدريب ودعم القوات المسلحة العراقية من أمن وجيش. ترافق ذلك مع رفع درجة الاهتمام الأميركي بمسألة الصين والاتجاه الى «احتواء» خطرها المتعاظم ضدّ أميركا، اهتمام أطلق عليه وصف «الانزياح الأميركي نحو الشرق الأقصى».

هذه المواقف وغيرها مما هو معلن أميركياً بشأن اليمن والسعودية وغيرهما حملت البعض على القول بأنّ أميركا بصدد اعتماد استراتيجية جديدة تنسحب بموجبها من الشرق الأوسط لتتفرّغ للشرق الأقصى بعد فشلها في الحرب الكونية التي استهدفت بها سورية وكامل محور المقاومة، قول لم يتقبّله فريق آخر من الباحثين ونحن منهم، حيث كان من الصعوبة بمكان القبول الآن بفكرة تخلي أميركا عن الشرق الأوسط ذي الأهمية الاستراتيجية التي تفرض على من يتطلع الى الإمساك بقرار العالم أو التأثير فيه أن يكون ممسكاً بقرار هذه المنطقة أو له موقع مؤثر فيها، وأنّ أميركا لا تزال ورغم النكسات والفشل في أكثر من جبهة وميدان، لا تزال تطرح نفسها قائدة للعالم، وأنها لا تزال ترفض فكرة النظام العالمي الجديد القائم واقعياً على تعدّد الأقطاب والتنوّع في المجموعات الاستراتيجية التي تشكلت وتتشكل في سياقه.

ربطاً بما تقدّم من وقائع ومفاهيم وتناقضات في السلوكيات الأميركية حيال المنطقة التي تسمّيها أميركا وفقاً لتقسيمات انتشار جيوشها وأساطيلها في العالم تسمّيها «المنطقة الوسطى» كان لا بدّ من أن تكون أميركا تخفي شيئاً كبيراً يمكنها من البقاء الفاعل في آسيا الوسطى وغربي آسيا، وجوداً تواجه به أعداءها الأساسيين الأخطر على سياستها في العالم والمتمثلين بشكل أساسي بثلاثي الصين وروسيا وإيران.

ولهذا فإنه عندما انفجرت أعمال الاحتجاج في شوارع مدن كازاخستان الرئيسية بهذا الشكل، احتجاجات انقلبت بسرعة هائلة الى أعمال عنف دمويّة أوْدت خلال ٤٨ ساعة بحياة ١٦٤ مواطناً كازاخياً، كان لا بدّ من البحث عن يد خفية أعدّت وحرّكت هذه الأعمال بمثل هذا التأثير والشدة، وكان أيضاً من المُلحّ أن تدرس الظاهرة من قبل المعنيين من الدول المهدّدة بهذه الأعمال، أو التي يمكن أن تتأثر بتداعياتها.

فكازاخستان دولة ذات أهمية استراتيجية قصوى في آسيا الوسطى، أهمية تستمدّ من موقعها الجغرافي وثرواتها الطبيعية وتأثيرها الفاعل على المستهدفين الأساسيين الثلاثة بالسياسة الأميركية باعتبارها منطقة الوسط بينهم (الصين وروسيا وإيران). فهي تتشارك مع روسيا بحدود هي الأطول بين دولتين في العالم (٧٠٠٠ كلم)، وتتصل بالصين من الشرق بما يجعلها الممرّ الإجباري لطريق الحرير الجديد المعبّر عنه بمشروع «الحزام والطريق» الواعد، وهي تقع شمالي إيران التي يعنيها أكثر من أمر من أمورها المشتركة مع كازاخستان ديمغرافياً وانتماء وعقيدة وأمناً.

وكان من المنطقيّ أن يكون البحث عن اليد الأميركية في أحداث كازاخستان التي سرعان ما أسميت في الإعلام الغربي «الثورة»، وربطت بالثورات الملوّنة التي اعتمدتها أميركا لقلب أنظمة الحكم في أكثر من دولة في العالم ووضع اليد عليها والإمساك بقرارها، وبالفعل تبيّن بعد بعض من بحث وتمحيص انّ أحداث كازاخستان كان بدأ الإعداد لها منذ العام ٢٠١٩ بقيادة أميركية ومشاركة بريطانية وتمويل سعودي ودور تركي.

ومهمّ أن نتوقف عند العام ٢٠١٩ أيّ مباشرة بعد أن تأكد لهؤلاء فشل الحرب الكونية على سورية ومحور المقاومة ونجاح روسيا في التقدّم لإشغال موقعها في الصف الأول دولياً وتأكد نجاح الصين في التعامل مع التدابير الأميركية ضدّها واحتواءها كما ينبغي.

ولهذا أدركت روسيا حجم الخطر المتشكّل عند حدودها الجنوبية، والذي شرعت أبوابه عليها من كازاخستان وهي ما برحت تعالج المسألة الأوكرانية وتداعياتها، لذلك كان عليها وبدون تردّد او إبطاء أن تسارع إلى عمل دفاعيّ جوهري وفقاً لما تتيحه لها «معاهدة الأمن الجماعيّ» التي ينتظم فيها الى جانبها كلّ من كازاخستان، وتركمانستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، والتي تتيح للأعضاء في هذه المنظومة تبادل المساعدة العسكريّة للحفاظ على الأمن والسيادة على أراضيها، فوجهت قوة عسكرية قتاليّة يناهز عديدها الـ ٢٠ ألف جندي وضابط انتشروا في مدن كازاخستان الرئيسيّة لحماية البنى والمقار الرسمية والعامة ولقطع الطريق على الفوضى التي خطط لها لإسقاط النظام ونقل البلاد إلى الضفة المعاكسة وإقامة حكومة تديرها أميركا وبريطانيا.

لقد أنقذت روسيا بتدخلها العسكري السريع والمشروع في كازاخستان، أنقذت نفسها وحلفاءها ومنطقة آسيا الوسطى من مشروع فوضى وعدم استقرار وأخطار لا تُحصى وأجهضت خطة غربية خبيثة كان من المقدّر لها لو نجحت ان تعوّض خسائر الغرب في العقد الأخير في ميادين وساحات الشرق الوسط وآسيا الوسطى، وأن تحجب التقدّم الروسي على الصعيد الدولي، وتشغل روسيا عن الخطر الأوكراني، وان تقطع الطريق على الصين في خطة «الحزام والطريق»، وان تجبر إيران على الاهتمام شمالاً وتخصيص جهد لا بأس به لاتقاء الخطر من الجمهوريات الإسلامية التي تتغلغل فيها اليد الصهيوأميركية وذلك على حساب ملفات أساسية استراتيجية تهتمّ بها عادة.

لقد قطعت الطريق حتى على مشروع كارثي في أوراسيا وآسيا الوسطى وصولاً الى غربي آسيا، ومع ذلك فإنّ الموضوع لم ينته بعد والخطر لم يستبعد كلياً طالما انّ هناك جمراً وناراً يمكن ان تنبعث في الشوارع الكازاخية رغم انّ الدولة ومع المساعدة الروسية أمسكت بزمام الأمور وسيطرت على الوضع، لكن التجارب تعلّمنا انّ أميركا من طباعها الاستمرار في المحاولة وطالما انها تلعب بدماء الغير وأمنه وماله دون ان تمسّ هي بجندها ومالها فإنها لا تتوقف عن العدوان والعبث بأمور الغير، من هنا تبدو أهمية بلورة موقف دولي إقليمي متماسك يكون الى جانب كازاخستان ليدافع عنها تكون نواته منظمة معاهدة الأمن الجماعي ويستفيد من قدرات دولية أخرى خاصة الصين وإيران.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي.

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

غوتيريش واليونيفيل: فشل في تغيير قواعد الاشتباك؟ ماذا عن الحدود؟

 العميد د. أمين محمد حطيط*

عندما تحققت أميركا في العام 2006 من أن «إسرائيل» لن تحقق أهداف عدوانها على لبنان، وتأكدت أن المقاومة صمدت واستعصت على جيش العدوان «الإسرائيلي» الذي شنّ ما أسماه «حرب لبنان الثانية» التي هدف منها إلى تفكيك المقاومة وتجريدها من سلاحها وفرض علاقة مع لبنان، وفقاً لأحكام تشبه اتفاقية 17 أيار للعام 1983، أقول عندما تأكدت أميركا من استحالة تحقق شيء في الميدان مما أرادته «إسرائيل»، سارعت مع فرنسا لوضع مشروع قرار قدّمته إلى مجلس الأمن، توخت بموجبه إعطاء «إسرائيل» في السياسة ما عجزت عن أخذه بالسلاح في الميدان. ولذلك تضمّنت مسودة مشروع القرار بنداً (البند 10) تنشأ بموجبه قوات متعددة الجنسيات للعمل في الجنوب تحت الفصل السابع، بما يشكل سياجاً يحمي «إسرائيل» ويعطل أو يمنع أيّ عمل مقاوم ضدّ احتلالها.

كانت أميركا متيقنة يومها من أن الضغوط المتعددة الأشكال، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، التي تمارس على المقاومة وجمهورها في الداخل ومن الخارج سترغم قيادتها على القبول بوقف الحرب، وفقاً للشروط الأميركية «الإسرائيلية»، التي تعطي المهزوم ما يشاء وتحرم المنتصر ما حقق من مكاسب، وكانت مرتاحة جداً لأداء الحكومة اللبنانية يومها التي اجترح رئيسها السنيورة بدعة ما أسمي «النقاط السبع»، التي تضمّنت في نقطتها الرابعة نزع سلاح المقاومة، ولذلك لم تتردّد أميركا ومعها فرنسا من تقديم مشروع القرار الذي يتضمّن كلّ ذلك إلى مجلس الأمن، الذي رأى أن يستحصل على موافقة الحكومة اللبنانية «وهي مضمونة كما قيل لهم» قبل إقرار القرار.

وهنا كانت الصدمة لأميركا ومن معها من أوروبيين وعرب، ولحكومة السنيورة برئيسها وأغلبية وزرائها، صدمة أحدثها رفض رئيس الجمهورية العماد إميل لحود لهذا التنازل الفظيع، رفض عّبر عنه بقوله في مجلس الوزراء «لا يُعقل أن نعطي «إسرائيل» في السياسة ما عجزت عن أخذه في الميدان»، ومنع الرئيس لحود مجلس الوزراء من الموافقة على العرض، وتمسكت المقاومة بمكتسباتها رافضة أيّ قرار يمسّ سلاحها، ما أدى إلى تعديل مشروع القرار والتحوّل إلى صيغة أقلّ عدائية ضد المقاومة، فكان القرار 1701، الذي صدر تحت الفصل السادس واحتفظ بقوات اليونيفيل بعد أن زاد من عديدها وأدخل عليها قوات بحرية وحدّد مهمتها بـ: «مؤازرة الجيش اللبناني لبسط سيادة الدولة على أراضيها في الجنوب»، بعد أن تتحقق من «إخلاء «إسرائيل» لكلّ أرضٍ لبنانية دخلتها»، كما أناط بالأمين العام للأمم المتحدة مهمة «السعي لإيجاد حلّ لمسالة مزارع شبعا اللبنانية التي تحتلها «إسرائيل»».

وهكذا ولد القرار 1701 الذي، على رغم ما تضمّنه من ثغرات لمصلحة «إسرائيل» ومن عدم توازن، وعلى رغم ميله الفاضح لتحقيق مكاسب «إسرائيلية» على حساب لبنان، لم يعط قوات يونيفيل الحق بالقيام بمهمات أساسية تريدها «إسرائيل»، لم يعطها الحق بالعمل منفردة استقلالاً عن الجيش اللبناني، ولم يعطها حق التفتيش والتعقب داخل وخارج بقعة العمليات المحددة في جنوب الليطاني، ولم يعطها الحق بممارسة أي نوع من الأنواع القتالية وحفظ الأمن، وبالتالي قيّد لجوءها إلى اطلاق النار وحدّده بحالتين فقط: حالة الدفاع المشروع عن النفس، وفقاً لقاعدة التناسب والضرورة، وحالة مؤازرة الجيش اللبناني بناء لطلبه عند قيامه بمهمة عملانية داخل بقعة العمليات.

هذه القيود منعت تحوّل قوات يونيفيل إلى قوات قتالية في مواجهة المقاومة وجمهورها والشعب اللبناني في الجنوب، وفقاً لما تريد «إسرائيل»، ما جعل أميركا غير راضية على الصيغة النهائية للقرار 1701، ولكنها قبلت به وهي تضمر تطويرها بالأمر الواقع الميداني المستتبع لاحقاً بتعديل للنص في مجلس الأمن، وبالفعل حاولت الوحدات العسكرية الجديدة التي التحقت باليونيفيل لتعززها، حاولت فرض الأمر الواقع المطلوب، فاصطدمت بالأهالي وجمهور المقاومة وبالقوى والشخصيات الوطنية، فتراجعت، لكن أميركا بقيت على اصرارها للتعديل الذي تطمح إليه في كلّ مرة يعرض فيها أمر التجديد لليونيفيل. اصرار كان ولا يزال يصطدم برفض لبناني وعدم تأييد دولي كاف لتمريره في مجلس الأمن فيسقط.

لكن أميركا لم تيأس واستمرت منذ العام 2006 قائمة على محاولة التعديل، وعلى رغم الفشل فأنها تكرّر المحاولة، وأخيراً حاولت استغلال الوضع اللبناني الواهن والمتردّي سياسياً ومالياً واقتصادياً، وأوحت للأمين العام للأمم المتحدة بزيارة لبنان حاملاً مطالب ورسائل ظاهرة، وأخرى باطنة وهي الأهم، أما الأولى فتتعلق بالاصلاحات وضرورتها والانتخابات وحتميتها، وبالوضع الاقتصادي ومدى الإلحاح في معالجته لتوفير احتياجات المواطن، وكانت هذه المسائل القناع الذي يخفي الطلبات الحقيقة لأميركا و»إسرائيل»، التي حملها غوتيريش إلى لبنان وتتضمّن:

تعديل قواعد الاشتباك لليونيفيل بما يحقق رغبة إسرائيلية أميركية عمرها 15 عاماً، وقد عبّر غوتيريش عن الأمر بقوله «وجوب أن تتمتع اليونيفيل بحرية الوصول والعمل الكامل ومن دون عوائق في جميع أنحاء منطقة عملياتها بموجب القرار 1701»، وهو يقصد تمكين اليونيفيل من القيام بالمهام الثلاث التي حجبت عنها بموجب القرار 1701، كما سبق وذكرنا أعلاه «العمل المنفرد المستقل عن الجيش، التفتيش والتعقب، اللجوء إلى القوة لمعالجة ما ترى ضرورة التدخل فيه وفقاً لاستنسابها».

القفز فوق مزارع شبعا التي قصّر الأمين العام في إيجاد حل لها حتى الآن، وفصلها عن الحدود اللبنانية ومعالجة الوضع على الحدود البرية في شكل يسقط حدود بوليه نيوكمب، ويتمسك بالخط الوهمي المسمّى «الخط الأزرق»، وهو الخط الذي تعمل به الأمم المتحدة خلافاً لقواعد القانون الدولي، من دون أن يقدم أيّ ضمانات حول انسحاب «إسرائيل» من المناطق الـ13 التي تعتدي عليها شمال هذا الخط والحدود.

معالجة ملف الحدود البحرية بما يلبّي الإملاء الأميركي والمطالب «الإسرائيلية»، وذلك بتراجع لبنان عن خط الـ29 والتفاوض حول الخط 23 مع الإيحاء بامكانية إعطاء لبنان بعض المساحات جنوبي هذا الخط، ليضمن له حقل قانا مقابل ضمان كامل حقل كاريش لـ»إسرائيل».

وقد سرّبت أوساط قريبة من الأمم المتحدة أن غوتيريش سمع إجابات ايجابية من بعض المسؤولين اللبنانيين حول عروضه، من دون أن تصل تلك الاجابات إلى حدّ التزام موثق ومكتوب، بسبب الوضع السياسي المعقد الذي يمرّ به لبنان، لكنه تلقى نوعاً من ضمان أو التزام هذا البعض بتسهيلات ما مستقبلاً.

ويبدو أن غوتيريش أراد أن يختبر جدية ما سمع، أو أراد أن تفرض اليونيفيل وبوجوده في لبنان أمراً واقعاً يحاكي ما تتمناه في النقطة الأولى أعلاه، فأطلقت دورية عملانية إلى شقرا إحدى بلدات الجنوب من دون تنسيق مع الجيش، في مهمة تثير الريبة، ما حمل سكان البلدة على التصدي لها ومنعها من إكمال المهمة، فاضطر الجيش اللبناني للتدخل لإخراج الدورية الإيرلندية من أزقة البلدة وتأمين سلامتها، في مشهد أفهم غوتيريش أن ما ظنه أو ما قد سمعه من بعض المسؤولين لن يصرف في الميدان، حيث أكد الأهالي أن ما لم تستطع مناورات أميركا أن تفرضه في عقد ونصف لن يحققه غوتيريش في يوم ونصف.

أما عن الحدود بشقيها البري والبحري فإنني أعتقد أنّ أحداً من المسؤولين لا يثق بأنه يملك «القدرة أو الامكانية أو حتى النية»، لتلبية مطلب أميركا الذي حمله غوتيريش، وأن حالها عندما يحين وقت التنفيذ الجدي، لن يكون أفضل من حال محاولة تغيير قواعد الاشتباك، إذ أنه على رغم كل ما هو قائم من سوء في لبنان على الصعد الاقتصادية والسياسية والمالية، يبقى هناك عناصر ثلاثة تشكل ضمان الحقوق اللبنانية، في طليعتها الجيش والمقاومة والقوي الوطنية من هذا الشعب، الذي على رغم الجوع والفقر والإذلال لا يزال يحتضن تلك القوى التي تحتضن حقوقه، ما يقود إلى القول إن مهمة غوتيريش في دوافعها ومقاصدها الأصلية لم ولن تتوصل إلى إعطاء «إسرائيل» ما تريد، ولكن يبقى الحذر واجبا فمحاولاتهم لن تتوقف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أستاذ جامعي – باحث استراتيجي

كيف تحاسَب أميركا على جرائمها بحق المدنيين؟

الثلاثاء 21 12 2021

العميد د. أمين محمد حطيط*

في كلّ مرة كانت أميركا تطلق بها أكذوبة أو تلفق فيها مسرحية تتهم بها جيشاً من جيوش الخصوم والأعداء بأنه خرج في الميدان عن قواعد القانون الدولي الإنساني، أو تتهم فيها مكوناً مسلحاً يقاوم احتلالها المباشر أو غير المباشر تتهمه بأنه فصيل إرهابي، في كلّ مرة تطلق فيها أميركا ذلك نجدها تخفي جريمة ارتكبتها، أو تحضر المسرح لجريمة سترتكبها منتهكة قواعد الحرب وقواعد القانون الدولي. فأميركا خلافاً لجيوش المعمورة تمارس في الميدان القتل للإرهاب وأحياناً القتال للتدمير، بينما وظيفة الجيوش عادة هي القتال دفاعاً أو هجوماً من أجل تحقيق هدف وطني أو قومي ما.

وفي احتلالها لمناطق في الشرق الأوسط بخاصة في كلّ من أفغانستان والعراق وسورية، لم تخرج أميركا عن هذا السلوك النمطي الاجرامي في أدائها الميداني، ففي الوقت الذي كانت تدّعي فيه مثلاً أن الجيش العربي السوري استعمل الأسلحة الكيماوية ضدّ «المواطنين السوريين الأبرياء» وقتل منهم الكثير، كانت طائراتها النفاثة أو المسيّرة ترتكب المجازر غير المبرّرة بحق المدنيين السوريين، على حدّ ما أوردت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، التي ذكرت أنّ هناك أكثر من 1300 تقرير سرّبت من البنتاغون تتضمّن إحصاء لحجم الخسائر الهائل في صفوف المدنيين التي أوقعتها الطائرات الأميركية، التي تدّعي أنها تملك أرقى تقنية في العالم لتحديد الأهداف وضبط النار ومنع الخطأ.

والسؤال المركزي الذي يُطرح هنا هل أن الجيش الأميركي يقتل المدنيين عن طريق الخطأ؟ أم أن القتل مسألة تدخل في صلب قواعد العمل العسكري الأميركي في الميدان؟ سؤال يفتح على سؤال آخر فيه القول كيف يمكن منع أميركا من ارتكاب هذه الجرائم؟

من يعرف ما تملكه أميركا من وسائل المراقبة والاستطلاع وتحديد الأهداف، يصل إلى نتيجة يستبعد فيها إمكان حصول الخطأ في قتل المدنيين بهذا الحجم. فأميركا وفقاً للوثائق المسرّبة نفذت خلال 5 سنوات في البلدان الثلاثة التي احتلتها كلياً أو جزئياً أكثر من 50 ضربة جوية ارتكبت فيها مئات المجازر بحق المدنيين، تنوّعت بين استهداف الجماعات والمناطق الآهلة وقوافل السير والمدارس والأعراس والتجمعات والبنى التحتية إلخ… وكلها أهداف يمنع القانون الدولي العام قصفها. وفي المقابل لم يسجل البنتاغون حادثة واحدة لوحق بها مسؤول عسكري بجريمته أو حتى اتخذ بحقه تدبير تأديبي مسلكي.

إنّ إمعان أميركا باستهداف المدنيين دونما اكتراث أو حذر يعود برأينا إلى سببين… الأول عائد إلى أنها تدرج قتل المدنيين في صلب استراتيجية ممارستها للقوة القمعية بحق الشعب في الدولة المحتلة من أجل ترهيبه ودفعه للاستسلام للاحتلال، والسبب الثاني عائد إلى شعور أميركي بالاستعلاء والممارسة فوق القانون وعدم قدرة أحد على محاسبتها أو معاقبتها، فالشعور الأميركي بالقدرة التامة على الإفلات من العقاب والتصرف بأنها فوق القانون، يدفع العسكري الأميركي للعمل باستخفاف حيال أمن الآخرين وسلامتهم، ويحول دون إلزامه باتخاذ تدابير الحيطة والحذر المفروضة في الميدان، فضلاً عن التقيد الصارم بقاعدة «التناسب والضرورة» الحاكمة في العمليات العسكرية.

والمثير للاستهجان أن أميركا التي هذا هو حال ممارستها ضدّ المدنيين، تدّعي أو تنصّب نفسها مدافعاً عنهم في وجه دولهم وجيوش دولهم، وتجيز لنفسها العدوان على تلك الجيوش بذريعة حماية المدنيين، كما فعلت أكثر من مرة في سورية، حيث زعمت أن الدولة استهدفت الشعب بالسلاح الكيماوي وقامت هي بالعدوان علي الجيش العربي السوري انتقاماً للشعب كما زعمت! ومن المفارقات المضحكة المبكية هنا أن أميركا في الوقت الذي ادّعت أن ضحايا السلاح الكيماوي في أحد المواقع كانوا32 مدنياً، تبيّن أن طيرانها كان، قبل 5 أيام فقط، قد أجهز على تجمع اجتماعي عام وقتل 120 شخصاً في سورية.

أمام هذا الواقع المثير للإدانة والاستنكار الشديدين يطرح السؤال الأساس كيف يمكن أن تعاقَب أميركا على جرائمها بحق المدنيين؟

مع تأكيدنا لرفض الاحتلال الأميركي لأيّ دولة أو منطقة واعتباره عدواناً مداناً وغير مشروع، فإنّ قتل المدنيين وفي الشكل الذي يحصل على يد القوات الأميركية يفرض البحث عن وسائل الدفاع المناسبة، خاصة أن أميركا ترى نفسها فوق القانون وبمنأى عن المحاسبة الدولية من أيّ نوع كانت. لذلك ومع عدم الجدوى من اللجوء إلى المؤسسات والقضاء الدولي لمحاسبتها لن يكون مناص من أن يتولى الشعب المعتدى عليه والمستهدف بالجرائم الأميركية، أن يمارس حق الدفاع المشروع عن النفس عبر مقاومة ضدّ قوات الاحتلال لا بدّ منها من أجل وقف الجرائم وإنهاء الاحتلال، وهذا ما أكدت عليه وقائع التاريخ الحديث التي سجلت ضدّ أميركا بدءاً بفيتنام حيث طرد الأميركي مهزوماً، وفي أفغانستان حيث هرب الأميركي مكسوراً أو في العراق حيث ألزمت المقاومة العراقية أميركا بوضع حدّ لوجودها القتالي، وتستمر المقاومة لأنهاء هذا الوجود كلياً.

أما في سورية فإنّ المقاومة الشعبية الوطنية السورية الواعدة التي تشكلت شرقي الفرات، باتت في مستوى يجعل المتابع يتفاءل خيراً بنتائجها، حيث أن تكرار التصدي للجيش الأميركي المحتلّ أثناء تنقلاته ومنعه من إكمال المسير أكثر من مرة أو استهداف مراكز عسكرية أميركية أو لأدوات أميركا من قسد وغيرها، كلها أمور تنبئ بأمر هامّ مفاده أن على أميركا أن تنهي احتلالها لشرقي الفرات السوري قبل أن تدفع الثمن الكبير الذي يجبرها على الرحيل عنه، كما طردت من سواه من مناطق احتلالها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

هل يشجع الموقف اللبناني «إسرائيل» على الإطاحة بحدود لبنان البحرية وحقوقه؟

البناء
سبتمبر 21, 2021 

 العميد د. أمين محمد حطيط*

لم يشهد لبنان حالة من التخبّط والتمادي بارتكاب الأخطاء في معالجة ملفاته كما شهد في ملف الحدود البحرية وترسيمها وتحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة له، نقول هذا على رغم ما هو «مألوف» في لبنان من إهمال وتقصير وأحياناً خفة في مقاربة القضايا الوطنية وتداولها أو معالجتها،

وقد وصل هذا الملف (ترسيم الحدود البحرية) الآن إلى نقطة خطرة تنذر في حال استمرار التجاهل والمكابرة فيها والإحجام عن المعالجة والتصدي الجادّ لها تنذر بضياع مساحة 2290 كلم2 (أي ما يزيد على خمس مساحة لبنان) من المنطقة الاقتصادية الخالصة، حيث باشرت «إسرائيل» بوضع اليد عليها بعد قطعها لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع لبنان ورفضها حتى مجرد النقاش حول الطرح اللبناني المدعوم بالحجج والأدلة القانونية والتوثيقية.

وتجنباً للإطالة واجترار الكلام الذي سبق وعرضناه أكثر من مرة وتناولنا فيه أخطاء ارتكبها لبنان في بدء مقاربته للملف ومحادثاته مع قبرص التي أفضت إلى تعيين خاطئ لموقع النقطة (1) ثم للخطأ المرتكب في تصحيح الخطأ الأول واعتماد النقطة (23) الخطأ الذي كرّس رسمياً بالمرسوم 6433/2011 وهو المرسوم الذي أودع في الأمم المتحدة ليشكل تحديد لبنان لحدوده البحرية، فإنّ المشكلة الآن تتركز في مسألة تصحيح هذا الخطأ عبر سحب المرسوم الخطأ وأبداله بمرسوم جديد يتضمّن التحديد الصحيح لحدود المنطقة الاقتصادية كما حدّدتها قيادة الجيش اللبناني بالاستناد إلى اتفاقية بوليه ـ نيوكمب واتفاقية الهدنة وقانون البحار، وهي الوثائق المرجعية الوحيدة التي يعمل بها في هذا المقام والتي تقود في تطبيقها إلى اعتماد النقطة (29) بدلاً من النقطة (1) الخطأ وبدلاً من النقطة (23) المصححة خطأً أيضاً.

لقد أعدّت قيادة الجيش اللبناني الدراسة التفصيلية المعمّقة حول الموضوع وطلبت من المراجع المختصة مراراً وتكراراً تصحيح الوضع وتعديل المرسوم 6433\2011 وألحّت بالطلب شفهياً وخطياً على ذلك، وكان آخر طلباتها في هذا الشأن بتاريخ 26\8\2021 حيث وجهت كتابها إلى وزارة الدفاع التي أحالته إلى وزارة الخارجية والمتضمّن طلباً صريحاً بـ «سحب المرسوم 6433/2011 من الدوائر المختصة لدى الأمم المتحدة لما يشوبه من عيوب فنية وإدارية وقانونية يؤدي استمرارها إلى فقدان لبنان حقه في مساحة لا تقلّ عن 1430 كلم2. لكن وللأسف لم يستجب حتى الآن لطلب قيادة الجيش وبقي مشروع التعديل متعثراً، وبقي الوضع القانوني للحدود البحرية بنظر الأمم المتحدة هو ما ينص عليه المرسوم 6433\2011 الخطأ والخريطة المرفقة به.

لقد استغلت «إسرائيل» هذه الأخطاء وتعثر لبنان في معالجة أموره تلك وأقدمت في حزيران/ 2011 على تلزيم التنقيب عن النفط في خمسة حقول إلى الشركة الأميركية «إنرجي» ومجموعتها، ومنها حقل «كاريش» الواقع شمال الخط (29) أي داخل المنطقة التي يعتبرها لبنان من منطقته الاقتصادية، وفي الأسبوع المنصرم أعلنت «إسرائيل» بأن الشركة الملتزمة بدأت بأعمال التنقيب في تلك المنطقة.

وهنا نجد مؤسفاً ومضحكاً مبكياً الموقف اللبناني حيال التصرف «الإسرائيلي» الذي يعدّ بكلّ وضوح انتهاكاً واعتداءً على لبنان وحقوقه، إذ بدل أن يسارع المسؤول السياسي في لبنان إلى تلبية طلب قيادة الجيش ويسحب المرسوم 6433 من الأمم المتحدة ثم يودعها مرسوماً صحيحاً يأخذ بتحديد الجيش اللبناني للحدود البحرية، بدل هذا قام بتوجيه كتاب من وزارة الخارجية إلى الأمم المتحدة يطلب فيه «التحقق من قيام إسرائيل بالتنقيب في منطقة متنازع عليها مع لبنان».

إنّ طلب لبنان هذا مع الإحجام عن سحب المرسوم 6433 من الأمم المتحدة ثم تفويض الأمم المتحدة حصرياً بالتحقق عما إذا وقع انتهاك أم لا، يعني بكل بساطة تمسك لبنان بالخط (23) وعدم اعتبار ما يجري جنوب هذا الخط انتهاكاً أيّ الإقرار الصريح بالتنازل عن مساحة الـ 1430 كلم2 (المساحة بين خط 23 وخط 29) وهي أمر يعدّ تفريطاً بحقوق وطنية سيادية لا بل ويمكن وصفه بكلّ صراحة بأنه خيانة وطنية. وهنا نسأل:

أ ـ لماذا لم تطلب الحكومة من الجيش اللبناني أن يتحقق من الانتهاك المظنون أو تشركه به؟

ب ـ لماذا لم تطلب الحكومة عملاً مشتركاً من الأمم المتحدة والجيش في الحدّ الأدنى؟

ج ـ ألا يعلم من طلب من الأمم المتحدة التحقق من الأمر، أنّ هذه المنظمة ستتخذ من المرسوم اللبناني الموجود لديها أساساً للتحقق ما يعني أنها ستتخذ من الخط 23 معياراً للقياس وهو الخط القانوني الموجود لديها بقرار لبناني؟

د ـ ألا يعلم من طلب هذا التحقق أن جواب الأمم المتحدة سيكون نفياً للانتهاك لأنّ العمل الصهيوني لم يتجاوز الخط 23 ومع هذا النفي يسقط حقّ لبنان باللجوء إلى أيّ وسيلة للدفاع عن حقوقه طالما انتفى انتهاكها؟

في مقاربة هذه الأسئلة وما تستدعيه من إجابات نرى أن التصرف اللبناني شكل خدمة ثمينة لـ «إسرائيل» بقصد أو عن غير قصد، وهو فعلياً لا يعدو في تفسيره أمراً من أمرين: إما أنّ هناك خفة وجهلاً وتفريطاً غير مقصود بالحقوق الوطنية وإفراطاً في غير محله بالثقة بالأمم المتحدة، هذا مع حسن الظنّ، أو أنّ هناك صفقة ومؤامرة ينفذها المسؤول في لبنان استجابة للإملاءات الأميركية لمصلحة «إسرائيل» على حساب المصلحة الوطنية اللبنانية العليا، ونرجو أن لا يكون الأمر كذلك.

أمام هذا الواقع وتجنباً للكارثة الوطنية المتمثلة بضياع ما بين 1430 كلم2 2290 كلم2 من المنطقة الاقتصادية اللبنانية التي تحاول «إسرائيل» أن تضع يدها عليها بقوة الأمر الواقع نرى أن يبادر لبنان ومن دون إبطاء إلى اتخاذ الإجراءات التالية:

ـ سحب المرسوم 6433 / 2011 من الأمم المتحدة وإبلاغها كما وإبلاغ الولايات المتحدة الأميركية بأنّ لبنان بصدد إصدار مرسوم جديد يعتمد الخط 29 الذي طرحه الوفد اللبناني في الناقورة في المفاوضات غير المباشرة التي بدأت في العام 2020 برعاية أميركية أممية.

ـ التأكيد للأمم المتحدة والولايات المتحدة انّ المنطقة شمال الخط 29 وجنوب والخط 1 والتي تبلغ مساحتها 2290 كلم2 هي منطقة لبنانية متنازع عليها مع العدو «الإسرائيلي» ينبغي عدم العبث بها حتى فض النزاع مع احتفاظ لبنان بحقه في اللجوء إلى أي وسيلة متاحة للدفاع عنها لحماية حقوقه.

ـ تعديل المرسوم 6433 / 2011 في أول جلسة لمجلس الوزراء تعقد بعد نيل الحكومة الثقة وإيداع المرسوم المصحح الجديد الدوائر المختصة لدى الأمم المتحدة.

ـ عدم متابعة الطلب المرفوع إلى الأمم المتحدة للتحقق من الانتهاك «الإسرائيلي» لحدود لبنان البحرية في ظل الوضع القائم لأنّ ذلك إنْ حصل يعني الإقرار بأنّ سقف المطالب اللبنانية هو الخط 23، وفي هذا تنازل مؤكد عن مساحة 1430 كلم2.

وإذا رغب لبنان في إشراك الأمم المتحدة بالأمر فعليه أولاً أن يعدّل المرسوم 6433 / 2011 ويتمسك بالخط 29 ثم يطلب من الأمم المتحدة مؤازرة الجيش اللبناني في عملية التحقق، وأؤكد هنا على محورية ومركزية عمل الجيش في هذا الشأن. أما الاكتفاء من الأمر بما تمّ حتى الآن فإنه يعني التنازل بكل تأكيد عن حق وطني لبناني، ما يقود إلى طرح السؤال المر: «هل خشيَ مسؤولون في لبنان على مصالحهم وحاذروا إغضاب أميركا وتخلوا عن الحقوق اللبنانية، ثم قاموا باستعراض كلامي للتظاهر بحرصهم عليها؟»

نرجو أن لا نصل إلى طرح هذا السؤال!؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

مخاطر الإرهاب الاقتصادي الأميركي ضدّ لبنان ووجوب المواجهة؟


أيلول 4 2021

 العميد د. أمين محمد حطيط _

بعد أن تيقنت أميركا مع ما تجرّه من أذيال إقليمية ودولية تسمّيهم حلفاء أو شركاء لها، طبعاً شركاء في العدوان والتآمر على الشعوب، بعد ان تيقنت من فشل عدوانها على سورية وتالياً على محور المقاومة ومع إرساء معالم هزيمتها الاستراتيجية المدوية في أفغانستان باتت تركز على الحرب الاقتصادية والإرهاب الاقتصادي الذي تعوّل عليه ليعوّض فشلها في ميادين المواجهة النارية والعملانية وكان لبنان مستهدفا مع سورية بهذه الحرب الوحشية التي طالت المواطن اللبناني في أهمّ حاجاته الحياتية كالدواء والغذاء والطاقة على أنواعها.

اعتقدت أميركا انّ هذه الوحشية التي تمارسها خنقاً وحصاراً ضدّ لبنان ومع وجود عملاء لها فيه خانوا بلادهم وخانوا شعبهم وانصاعوا لها في تحقيق ما تريد ارتكابه من جرائم بحق لبنان والمواطن اللبناني، اعتقدت أميركا أنها ستثير الشعب على المقاومة وتجعل الأخيرة تنكفئ عن مشروعها الاستراتيجي للتحرّر الوطني والقومي والإقليمي وتستسلم لها تحت ضغط المعاناة الشعبية وتقدّم رأسها منصاعة وتتنازل عن مكتسباتها التي حققتها خلال العقدين الماضيين.

اعتقدت أميركا أنّ حرمان الطفل في لبنان من الحليب وحرمان المريض من الدواء وحرمان المودع المصرفي من أمواله، وحرمان المواطن من الكهرباء والماء والبنزين والمازوت والغاز المنزلي، هذا الحرمان الموجع والمتعدد العناوين والأشكال سيتسبّب كما ظنّت بكسر إرادة لبنان ومقاومته وحمله على التراجع عن حماية الوطن والدفاع عن حقوقه والسكوت عن احتمال استجابة هذا او ذاك من المسؤولين في لبنان للإملاءات الأميركية والقبول برسم حدود برية جديدة مع فلسطين المحتلة طالما روّج لها لتعطي “إسرائيل” أكثر من ٢٠ مليون متر مربع من الأرض اللبنانية والقبول بترسيم حدود بحرية تعطي “إسرائيل” أكثر من ١٤٥٠ كلم٢ من المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة للبنان دون ان ننسى السعي الأميركي “الإسرائيلي” الدائم لتوطين الفلسطينيين في لبنان.

لقد منعت أميركا وبكلّ صلافة وفجور ووقاحة، منعت الاستثمار الأجنبي في لبنان خاصة الصيني والروسي والايراني وتسبّبت عبر عملائها في القطاع المصرفي في انهيار هذا القطاع، ما جعل الأموال بعيدة عن متناول يد أصحابها، وقادت لبنان الى الفراغ السياسي والانهيار النقدي والاقتصادي ووضعت لبنان على شفير المجاعة ما حمل الكثير من أبنائه على السفر الى الخارج هرباً من الجحيم المخطط أميركياً والمنفذ بأيدٍ لبنانية، وقد يكون إفراغ لبنان من شبابه أيضاً هدفاً من اهداف السياسة العدوانية الأميركية أيضاً.

لقد تسبّب الحصار الأميركي والاحتكار والوكالات الحصرية والجشع لدى التجار وممارسة النهب والفساد الميليشيوي في تداول المحروقات والدواء وبعض حاجات صناعة الرغيف، تسبّب في نشوء ظاهرة التجارة غير المشروعة وقيام السوق السوداء ووضع البلاد على عتبة مرعبة من التوتر والصدام داخل المجتمع والأخطر من ذلك خلق نوعاً من انغلاق المناطق على نفسها ممهّداً لما يمكن تسميته “الاقتصاد الذاتي” على صعيد المناطق وبعض شرائح الطوائف والأخطر من ذلك ما يمكن وصفه بأنه مقدّمات لـ “فيدرالية اقتصادية” تفرض بالأمر الواقع وقد يتخذها البعض مدخلاً لفيدرالية سياسية راج الحديث عنها او الدفع اليها خلال الأعوام القريبة الفائتة.

لقد وضعت السياسة الأميركية المخططة للبنان والمعتمدة في تنفيذها على لبنانيين، وضعت لبنان امام تحديات خطيرة لا تقتصر على الشأن المعيشي بل تتعداه وللأسف الى الشأن الوجودي والكياني من خلال الدفع الى الهجرة وتفكك المجتمع وضمور العلاقات الاجتماعية والحد من الزواج والتسبّب بانهيارات متعددة في مؤسسة الزواج ذاتها، بعد ان تعطلت عجلة الإنتاج الاقتصادي وتراجع الدخل الفردي والعام وانخفضت القيمة الشرائية للرواتب والأجور ورغم ذلك تستمرّ أميركا في سياستها في الإرهاب الاقتصادي وحماية عملائها من جلادي الشعب وأرباب النهب والفساد في أروقة السياسة والاقتصاد والمال والمجتمع مع رواج بدعة الـ N.G.O أيّ المنظمات غير الحكومة التي انتشرت بشكل عجائبي بإرادة أميركية واضحة رمت الى جعلها بديلاً عن دولة قيد التفكك والانهيار.

ورغم ما تقدّم من سوداوية المشهد اللبناني وحراجته وصعوبته وخبث أميركا ولؤمها ولا إنسانيتها في صنعه وسفالة ودناءة وإجرام لبنانيين ساعدوها في عدوانها وإرهابها فإننا لا نرى العلاج والدفاع أمراً ميؤوساً منه أو أنّ العدوان بات في وضع مقطوع بنجاحه. بل أقول رغم كل ذلك فإنّ منظومة العدوان والإرهاب الاقتصادي بوجهيها الداخلي والخارجي، على قدر من الوهن تنبئ فيه بأنّ مواجهة جادة مدروسة تمكن من إسقاط العدوان وتمنعه من تحقيق أهدافه ونقدّم دليلاً على ذلك ما قامت به المقاومة في موضوع استيراد النفط من إيران حيث تصرفت على أساس انّ الإرادة الأميركية ليست قدراً لا يُردّ او من قبيل الامور التي لا تواجه.

 فالمقاومة التي خبرتها أميركا و”إسرائيل” في الميدان، كان لها في النفط جواب وموقف يسفه غرور أميركا ويفضح سوء التقدير لديها ويكشف جهلها بطبيعة المقاومة ونهجها ومنهجها ومبناها العقائدي والتنظيمي ويُرسل لها الرسائل الواضحة والقاطعة بأن من هزم العدوان الأجنبي في الميدان لن يستسلم له تحت أيّ ضغط اقتصادي مهما كان نوعه ومهما كان أثره. فللمقاومة أساليبها التي تمكنها ان تتفلت من مكائد العدو مهما تنوّعت واشتدت.

وفي هذا السياق أيّ الردّ على الحصار الأميركي للبنان وإيران وسورية اختارت المقاومة ان تنفذ عملية اقتصادية مثلثة الأضلاع تشارك فيها الأطراف الثلاثة المستهدفة بالإرهاب الاقتصادي الأميركي (إيران لبنان سورية) فجهّزت سفينة شحن نفط، اعتبرتها المقاومة أرضاً لبنانية لنقل نفط إيراني الى ميناء سوري لسدّ حاجة مستهلك لبناني، فكانت عملية تجارية منظمة أحسن اختيار موضوعها وأسلوب تنفيذها ووسائل حمايتها.

لقد أربكت المقاومة بقرارها أميركا و”إسرائيل” وجعلتهما تتيقنا انّ المقاومة تعرف كيف تحوّل التحدي الى فرصة وكيف تنجح باستثمارها ما جعل أميركا تبدي استعداداً للتراجع عن بعض سلوكيات الحصار فكان موقف سفيرتها في بيروت المعلن لتسهيلات أميركية للبنان لتمكينه من استجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر وكله عبر سورية، ثم كان موقف السناتور الأميركي مورفي المتحدث باسم وفد الكونغرس الى لبنان والذي رغم ظاهره فإنه يستشفّ منه تراجعاً أيضاً عبر قوله انّ “واشنطن تبحث عن سبيل لتزويد لبنان بالمحروقات من دون عقوبات”، لأنّ ما تقوم به المقاومة من استيراد من إيران هو على حدّ زعمه خاضع للعقوبات لأنّ “أيّ وقود يجري نقله عبر سورية خاضع للعقوبات”.

فإذا كان قرار واحد بالمواجهة جعل أميركا تتراجع امام المقاومة وتفك الحصار ولو جزئيا، رغم انها رفضت في السابق طلبات لبنان ذات الصلة وعلى مدار سنتين متتاليتين واليوم جاء قرار المقاومة فأجبرها على إظهار الاستعداد لفك جزئي للحصار لان المقاومة وضعتها أمام خيارين: “فكوا الحصار بأيديكم او نكسر الحصار بأقدامنا” أما التهديد والتهويل فإنه لن يلقى عند المقاومة أذناً تهتمّ ولن تكون مفاعيله إلا مزيداً من الجهوزية للمواجهة التي نعلم أنّ أمّيركا المنكفئة و”إسرائيل” المتخبّطة لن تبادرا اليها وإنْ فعلتا فإنهما ستندمان.

وعليه نقول ان على لبنان ان يتخذ من قرار المقاومة استيراد النفط من إيران وعبر سورية نموذجاً يُحتذى للتعامل مع أميركا ومواجهة حصارها وإملاءاتها، وعلى المسؤولين في الدولة ان يعلموا انّ المقاومة التي انطلقت لتحرير الأرض بعد ان عجزت الدولة عنه، ستكون جاهزة لسدّ أيّ عجز او تلكؤ وعلى طريقتها ووفقاً لأساليبها لمواجهة الحصار والإرهاب الاقتصادي الأميركي حتى تحمي لبنان وشعبه، أما القول بأنّ “أميركا ستستمرّ بالحصار حتى الاستسلام او الاندثار” فإنه قول فيه من الخنوع والتشاؤم ما لا يتوافق مع نهج المقاومة التي ترى انّ أميركا ستتراجع عن الحصار وسيبقى لبنان كما تريده المقاومة.

* أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

كيف تواجه المقاومة خطة بومبيو لتنقذ لبنان؟

 العميد د. أمين محمد حطيط _

بعد ان تأكد لأميركا انّ عدوانها على سورية ومحور المقاومة فشل في تحقيق أهدافه بعد حرب كونية اعتمدت «استراتيجية القوة العمياء» التي تقوم على الإرهاب والتدمير، انقلبت في العام ٢٠١٨ الى العدوان الانتقامي الإجرامي بالحرب الاقتصادية التي عوّلت عليها لمنع مكونات محور المقاومة من استثمار الانتصار وإطلاق عملية إعادة البناء لا بل وترمي الى التجويع والتركيع وتفجير المجتمعات من الداخل لتحيل الانتصار الذي تحقق الى جثة لا روح فيها. وبذلك تنتقم أميركا ومن معها في الإقليم ممن منعها من النجاح والانتصار وألحق بها هزيمة استراتيجية ستتوالى ارتداداتها السلبية على أميركا وموقعها وعلاقتها الدولية لزمن ليس بالقصير.

وفي إطار العدوان الأميركي بالصيغة الجديدة اعتمدت أميركا «قانون قيصر» لتحاصر سورية في إطار ما تسمّيه «عقوبات” أميركية ضدّها، أما لبنان فقد وضعت لتدميره وإسقاط مقاومته ما أسمي «خطة بومبيو» ذات المراحل الخمسة التي تبدأ بالفراغ السياسي وتنتهي بعدوان «إسرائيلي» ضدّ المقاومة يعوّل عليه لتفكيك هذه المقاومة ونزع سلاحها في حرب تكون مسبوقة بدفع لبنان الى الانهيارات الثلاثة المالي والاقتصادي والأمني.

كان الاطمئنان الأميركي لنجاح خطة تدمير لبنان الخماسية المراحل شبه تامّ خاصة أنها اتكلت في تنفيذها على لبنانيين يتولون مقاليد الدولة العميقة في كلّ مفاصلها السياسية والإدارية والمالية والاقتصادية والدينية، وهي تملك سيف إرهابهم بفرض العقوبات عليهم ومصادرة أموالهم التي نهبوها من خلال توليهم السلطة والهيمنة في تلك الدولة.

وبالفعل كان لأميركا ما تريد عندما وضعت «خطة بومبيو» موضع التنفيذ في ربيع العام ٢٠١٩ عندما جاء وزير خارجيتها آنذاك جورج بومبيو الى لبنان لإطلاقها والتقى تباعاً بكلّ «الأشخاص اللبنانيين القياديين» الموكل إليهم أمر تنفيذها، وفي هذا الإطار كانت استقالة سعد الحريري في خريف العام ٢٠١٩ إثر «ثورة الست سنتات على الواتس أب» وما تبعها من إغلاق المصارف وحبس أموال المودعين وتتالي الانهيارات التي أكدت أنّ المراحل الثلاث الأولى من خطة بومبيو تتحقق بنجاح.

امام هذا الواقع أدركت المقاومة انها تتعرّض لحرب من نوع جديد وأنها امام تهديد جدي، او بشكل أدقّ أمام حرب شاملة عليها وعلى بيئتها وكلّ من يرى فيها سيفاً للدفاع عن لبنان وحقوقه، تهديد لا يتعلق بموقع او ملف عابر، بل تهديد وجودي يتصل بأصل وجودها واستمرارها تهديد يتمثل في هجوم تنخرط فيه مواقع دينية وسياسية واقتصادية ومالية وإعلامية وفكرية، تهديد يكاد يكون في صيغته وحجمه وتعدّد عناوينه غير مسبوق منذ ان نشأت.

هذا التهديد ألزم المقاومة بوضع خطة دفاع متكاملة ومتدرّجة تعتمد مبادئ الاحتواء والتعطيل حينا وقواعد إطلاق البدائل حينا اخر والبقاء على أتمّ الجهوزية العسكرية والميدانية في كلّ المراحل والحالات، ومن هنا كان موقف المقاومة حيال الفراغ السياسي حيث انها تمسكت بحكومة سعد الحريري في خريف ٢٠١٩ ورفضت استقالتها لكنها لم تستطع الإبقاء عليها لأنّ الحريري كان ينفذ خطة موضوعة ويقوم بما طلب منه في إطارها. كما أنها رفضت استقالة حسان دياب وتمسكت به فلم تستطع إبقاءه أمام الضغوط التي فرضت عليه، وقدّمت كلّ التسهيلات في سبيل إنجاح مصطفى أديب ثم سعد الحريري ثم نجيب ميقاتي في تشكيل الحكومة لكنها لم توفق حتى الآن في مسعاها لأن القرار الأميركي بالفراغ الأمني كمرحلة مفتاحية من مراحل خطة بومبيو لا يزال ساري المفعول وسيبقى تشكيل الحكومة الجديدة متعذراً طالما انّ القرار هذا مستمرّ، وطالما انّ أميركا تدرك بأنّ تشكيل الحكومة يعني نقضاً للفراغ السياسي والشروع بوقف أو إفشال خطة بومبيو.

بيد انّ المقاومة التي ليس بيدها أمر التشكيل ولا يعود اليها القرار به تجد نفسها من غير اقتدار على معالجته، فإنها في الوقت عينه تجد نفسها قادرة على إفشال الخطة الأميركية من أبواب أخرى. منها الأمن والاقتصاد، وطبعاً التصدي لـ «إسرائيل».

وفي حين قام المولجون بتنفيذ خطة بومبيو بأكثر من استفزاز وتحرّش لإحداث التفجير الأمني في أكثر من مكان وموقع على الأرض اللبنانية، لم يكن آخرها حوادث الجية وخلدة وشويا، فإنّ المقاومة تعاملت مع الأحداث تلك بصبر وروية مع إحالة الأمر لصاحب الصلاحية القانونية في المعالجة أيّ الدولة، وتمسكت بشعار أنّ الأمن مسؤولية الدولة مع الإبقاء على جهوزية تمكن من الحسم إذا وصلت الامور الى محلّ لا يبقى متاحاً للدفاع عن النفس إلا طريق واحد هو الفعل الشخصي.

اما على الصعيد الاقتصادي والمالي فقد وقفت المقاومة على حقيقة مرّة هي انّ اللبنانيين بأنفسهم وفي ظلّ منظومة الاحتكار والسيطرة والهيمنة والفساد والوكالات الحصرية هم من قاد البلاد الى الانهيارين المالي والاقتصادي وأنتج بيئة العوز والفقر والجوع، وبادرت الى فعل من شأنه أن يخط شعار كسر الحصار الأميركي ويفتح أبواباً للبنان لا تستسيغ ولا تتقبّل أميركا فتحها لما فيها من انقلاب استراتيجي على صعيد الاقتصاد اللبناني.

لقد كان قرار المقاومة باستيراد النفط الإيراني رغم ما تفرضه أميركا عدواناً على إيران بما تسمّيه العقوبات، كان هذا القرار فعل تحدّ وشجاعة وقوّة يُفهم أميركا ومن معها بأنّ هناك بدائل للطرق التي تقطعها، ويكون وظيفة قرار المقاومة بشأن النفط واستيراده من إيران ليس تأمين كلّ احتياجات لبنان من النفط، وهو أمر يفوق طاقات المقاومة ويبقى في الأساس مسؤولية الدولة، والمقاومة لم تدّع يوماً بأنها ستحلّ محلّ الدولة، بل يكون القرار كسراً لحصار أميركي وإفهام أميركا انّ المقاومة القادرة في الميدان عسكرياً للدفاع عن لبنان وعن نفسها هي قادرة على إيجاد البدائل التي تعطل مفاعيل حصارها.

وهكذا تكون المقاومة التي تفلتت حتى الآن من محاولات جرّها الى الفوضى والانهيار الأمني، والتي تبادر لكسر الحصار والتخفيف من سلبيات الانهيار المالي والاقتصادي ومع البقاء في أعلى جهوزيتها وقوتها العسكرية تكون قد أرسلت رسالة قوية لكلّ من يعنيه أمر خطة بومبيو تخطيطاً وتنفيذاً ونتائج، مفادها انّ الخطة فاشلة وستضيف الى الفشل الأميركي في الحرب الكونية على المقاومة فشلاً آخر لأنها لن تصل الى تحقيق مبتغاها بشأن المقاومة ولن تفتح الطريق أمام «إسرائيل» لشنّ عدوانها وتفكيك المقاومة خاصة بعد ان تلقت الرسالة من مزارع شبعا بتثبيت قواعد الاشتباك التي تحمي لبنان ومقاومته.

ومع هذه الحقيقة الإيجابية تبقى هناك سلبيات تتصل بمعاناة الشعب اللبناني الذي لا تعبأ أميركا به بل فرضت عليه الوقوف بطوابير الذلّ أمام محطات المحروقات والصيدليات الخ… والأكثر إيلاماً في هذا المشهد انّ من ينفذه على أرض الواقع هم لبنانيون ممّن ارتهنتم أميركا وهدّدتهم بنفوذهم وأموالهم ومصالحهم فانقلبوا الى ذئاب ينهشون مواطنيهم ويحتكرون الدواء والبنزين والمازوت والغاز وقد يحتكرون غداً الرغيف مع السلع الغذائية… كلّ ذلك لتحصيل المال الحرام لجيوب العملاء وإرضاء أميركا في تنفيذ خطة تدمير لبنان من أجل تدمير المقاومة التي أثبتت قوّتها وأكدت أنها عصية على ذلك.

وعليه نقول إنّ المواجهة على أرض لبنان حتى الآن بين أميركا ومن معها من أدوات محلية او أجنبية من جهة وبين المقاومة ومحورها من جهة أخرى لم تلحق الضرر بالمقاومة ولا يبدو أنها قادرة على النيل منها في ظلّ إبداعات المقاومة في الأداء الدفاعي، لكنها أدّت الى إنزال الفظائع والمآسي بالشعب اللبناني الذي جعلته أميركا طريدة مباشرة لإرهابها الاقتصادي وضحية للفراغ السياسي وهدّدته في أمنه وماله وعيشه، وضع أنتجه الفكر الأميركي الشرير وصنعه بأيد لبنانية عملية. وضع لن يتوقف كما يبدو إلا عندما تقتنع أميركا بأنّ عدوانها لن يحقق أهدافه، أو أن يتراجع اللبنانيون الذين تتخذهم أميركا أدوات تنفيذية عن لعب هذا الدور الخسيس.

* أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

مقالات متعلقة

ماذا بعد التشكيلة الوزاريّة الحريريّة الكيديّة… والاعتذار؟

*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي
 العميد د. أمين محمد حطيط _

عندما رشّح سعد الحريري نفسه لرئاسة لحكومة بعد أن دفع عبر حلفائه حكومة حسان دياب للاستقالة وأفشل مصطفى أديب في مهمة تشكيل حكومة وفقاً للمبادرة الفرنسية، ظنّ الحريري أنّ الظرف مؤاتٍ له ولحلفائه في الداخل ومناسب لمن يعمل بإمرتهم في الخارج، مؤات لصياغة وضع يستفرد به مع حلفائه بحكم لبنان بواسطة «مجلس إدارة» يُقصي به الأكثرية النيابية عن الحكم عبر مصطلح اختصاصيّين ويرمّم عبره العلاقة مع السعودية ويستعيد موقعه وموقع أبيه في تلك المملكة الغاضبة عليه اليوم.

لكن حسابات الحريري اصطدمت بالواقع المركّب داخلياً وخارجياً، ففي الداخل واجه الحريري صلابة من رئيس الجمهورية الذي لم يؤخذ بالضغط والتهويل ولم يرعبه الحصار الاقتصادي الأميركي الضاغط، ولم يفتّ من عضده ما قام به البعض لإحداث انقلاب داخلي أو تحميله مسؤولية عرقلة تشكيل الحكومة وتسليم الأمر والحكم لسعد الحريري ومَن معه في الداخل ومَن يديره من الخارج.

لقد تمسّك رئيس الجمهورية بنصوص الدستور وأحكامه الناظمة لتشكيل الحكومة والتي تعطيه حق المشاركة الفاعلة في تشكيل الحكومة خلافاً لما أراده الانقلابيّون من عمل مغاير لروح النص الدستوريّ وحرفه، وأفشل سعيهم إلى جعل توقيع رئيس الجمهورية لمرسوم تعيين الوزراء وتشكيل الحكومة عملاً آلياً إلزامياً لا موقع لإرادة الرئيس فيه قبولاً أو رفضاً.

أما خارجياً فقد وجد الحريري أنّ رهانه على متغيّر ما في الموقف السعودي منه، هو رهان خاطئ وتأكد له بشكل قاطع أنّ الصورة التي عاشها يوم اعتقاله قبل 4 سنوات على ولي العهد السعودي لا تزال هي هي لا بل اشتدّت قسوة عليه. تأكد له ذلك بعد سلسلة من الوساطات الخارجية العربية والدولية فشلت كلها في حمل السعودية على مراجعة مواقفها من سعد الحريري الذي بات مطروداً من «نعيم مملكة الخير» ولم تفلح الوساطات الإماراتية أو المصرية أو الفرنسية أو الأميركية في ثني السعودية عن موقفها السلبي الحادّ منه والذي أبلغته للوسطاء والمتضمّن القول إنّ سعد الحريري شخص سعودي الجنسية أساء لوطنه مالياً وسياسياً وعليه أن يؤدي الحساب قبل أي تقييم آخر للعلاقة به، وبالتالي عرف جميع الوسطاء أنّ باب السعودية مقفل بوجه سعد إلى إشعار آخر إنْ لم يكن إغلاقاً أبدياً.

هذه الخيبة وفشل الرهانات دفعت سعد الحريري الذي كلف بتشكيل الحكومة بعد أن «فاز بأصوات تكاد لا تتعدّى نصف أعضاء مجلس النواب وليس فيهم إلا أقلية مسيحية جعلت البعض يطعن بما يسمّونه «الميثاقية» في التكليف لكون الكتلتين المسيحيتين الأساسيتين استنكفتا عن تسميته، هذه الخيبة حوّلت الحريري من سياسي مكلف بمهمة عاجلة تتضمّن تشكيل حكومة إنقاذ لبنان إلى «سائح سياسي» يهدر الوقت وهو يستمرّ باحثاً عن طرق ينقذ بها نفسه حاضراً ومستقبلاً، وبدل أن تشكل الحكومة في أيام قليلة وتنصرف إلى العمل أهدر الحريري ما يقرب من الأشهر التسعة سائحاً جوالاً في الخارج وزائراً ظرفياً للبنان بحيث أنه أمضى معظم المدة في بلاد الوساطات والاغتراب بعيداً عن لبنان وهمومه، مهلة قفز فيها الدولار الأميركي من 6500 يوم تكليف الحريري إلى 20000 ألف ليرة اليوم. وترسّخ أكثر الانهيار المالي والانهيار الاقتصادي وتهدّد الأمن والسلم الوطني، أما الحريري فقد كان باحثاً في سياحته السياسيّة عن رضا السعودية، ومرتاحاً إلى دعم حلفائه في الداخل الذين لهم حساباتهم الشخصية في الموضوع حسابات منعت الحريري عن الاعتذار.

لقد استفاد الحريري من خلوّ الدستور من نص على مهلة قصوى للتشكيل يسقط بعده التكليف، واستفاد من وضعه داخل طائفته باعتباره «الأقوى تمثيلاً فيها» بحيث لا يجرؤ أحد على قبول المهمة إنْ لم يرضَ الحريري بذلك، كما استفاد من خشية أطراف داخلية من فتنة سنية شيعية إذا أزيح الحريري من غير رضاه عن مقعد رئاسة لحكومة أو تشكيلها، كما استثمر في علاقات تربطه ببعض الخارج الذي يرى مصلحة في وجود الحريري رئيساً للحكومة، استفاد من كلّ ذلك واتخذ من التكليف والتشكيل رهينة بيده يبتز بها حتى يحقق مصالح له ولحلفائه على حساب المصلحة الوطنية ومصالح الشعب.

ومن جهة أخرى تكامل تصرف الحريري مع خطة بومبيو الموضوعة ضدّ لبنان، لا بل شكل في تصرفه ذاك الوجه الآخر للحصار الأميركي الذي ارتكز إلى فساد الطبقة السياسية اللبنانية وتسبّب معه بالانهيار الاقتصادي والمالي بعد الفراغ السياسي، وبعد 9 أشهر من المماطلة والتسويف واثر تنازلات كثيرة قام بها الطرف الآخر من أجل الإنقاذ، قدّم الحريري تشكيلة حكوميّة انقلب فيها على ما كان اتفق عليه خلال الوساطات السابقة ووضع رئيس الجمهورية بين حلين سيّئين أو سيّء وأشدّ سوءاً، حيث إنّ الموافقة على تشكيلة الحريري كما وردت من غير نقاش وتفاهم أو اتفاق مع الرئيس يعني تخلي الرئيس عن الصلاحية وإطاحة بالدستور وإنشاء أعراف جديدة غير دستورية في الموضوع، ثم من يضمن ألا يستقيل الحريري بعد تعيينه وأن يمتنع بعد ذلك عن تصريف الأعمال كما هي عادته ويستمرّ الفراغ السياسي الذي أسّس له الحريري قبل سنتين؟ أما رفض التشكيلة صيانة للصلاحيات وتطبيقاً للدستور والتسبّب باعتذار الحريري سيعني استمرار الفراغ مع احتمال تسارع الانهيار المتعدد الأشكال.

في المحصلة لم يكن سهلاً على رئيس الجمهورية اتخاذ القرار بالقبول مع هذه الهواجس، كما لم يكن سهلاً عليه رفض التشكيلة مع ما يعني دفع الحريري إلى الاعتذار، كما يشتهي الحريري نفسه لأنه يخرجه «بطلاً طائفياً» على أبواب الانتخابات النيابية. والحريري الذي أيقن أنّ السعودية لن تفتح بابها له يعرف أنّ الحكم بالنسبة إليه مستحيل مع غياب الرضا السعودي، وأنّ مهلة الأشهر الطويلة التي استهلكها لم يكن يعالج فيها العقبات الداخلية بل جلها كان من أجل معالجة الغضب السعودي.

وعليه نرى أنّ ما فعله الحريري من تقديم التشكيلة الوزارية إلى رئيس الجمهورية وبالشكل الذي حصل وما تبعها من مواقف وتصريحات أطلقها مع إعطائه الرئيس مهلة 24 ساعة للإجابة، إنما هو فعل كيديّ يشكل فخاً للرئاسة وكميناً للبنان كان يتوخى منه الحريري صنع بيئة الاعتذار ليخرج بطلاً، لأنه يعلم جازماً أن ليس ميشال عون قائد الجيش السابق ورئيس الجمهورية الحاضر وصاحب المواقف الصلبة، ليس ميشال عون من يُفرَض عليه شيء بالأمر الواقع وتطاح بصلاحياته الدستورية، لذلك كان ينتظر الحريري الرفض وكان يحضر للاعتذار المؤكد الذي تأخر سبعة أشهر.

والآن وقد حصل الاعتذار ووضع لبنان أمام خيارات صعبة تتراوح بين الطموح بالحلّ وبين الرعب من الانفجار، فإنّ السؤال كيف نتلمّس طريق الحلّ؟

اعتقد أنّ الحلّ السريع بعد كلّ ما حصل لن يكون إلا عن طريق إيجاد صيغة دستوريّة ما لتفعيل الحكومة الحالية، وفقاً لقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»، وتوكل إلى هذه الحكومة رعاية الشأن الاقتصادي لمنع الجوع، ومتابعة الوضع الأمني لمنع الانفجار، إجراء انتخابات نيابية قبل موعدها بأشهر عدة مع مبادرة رئيس الجمهورية بالموازاة مع ذلك لإطلاق حوار وطني يكون بمثابة مؤتمر تأسيسي لتحديد مستقبل لبنان. هذا إذا نظرنا إلى الأمور بجدّية وعقلانية… وإلا فلننتظر انفجاراً لا يصمد بعده إلا من هيّأ لنفسه ما يحميه ويمنع الأخطار العظمى من النيل منه.

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

لبنان: الكارثة المتفاقمة والحلول الغائبة!؟

العميد د. امين محمد حطيط

في العام 1967 أحجم لبنان عن دخول الحرب التي شنّتها «إسرائيل» على دول الطوق يومها بذريعة الضعف وعدم القدرة الدفاعية التي تحمي أرضه، ولما انتهت الحرب بعد أيامها الستة المعدودة ارتدّت «إسرائيل» على لبنان فألغت اتفاقية الهدنة معه من جانب واحد وشرعت في قضم أرض لبنانيّة في مزارع شبعا، القضم الذي استمرّ حتى العام 1973، حيث سيطرت «إسرائيل» على كامل المزارع ولم يحرك لبنان ساكناً خشية أن يُضمّ إلى القرار 242 ويضطر للتفاوض على الأرض ويسقط الحدود الثابتة باتفاقية «بوليه نيوكمب» 1923 والمؤكد عليها باتفاقية الهدنة 1949. ومن جهة أخرى نذكر أيضاً بأنّ لبنان الذي لم يشارك في حرب 1967 والتزم سياسة الحياد فيها من أجل حماية اقتصاده على أبواب فصل الصيف يومها وجد اقتصاده بعد الحرب ينهار ويظهر بأنه ضحية لتلك الحرب التي وضعت حداً للطفرة والنمو الاقتصادي اللبناني وتسبّبت بزعزعة أركانه أو لنقل هزة كبرى غيّرت مسارات النمو ووضعت حداً للبحبوحة. 

بدأت بذكر هذه الواقعة اليوم ليس من أجل السرد التاريخيّ طبعاً، ولكن من أجل الإشارة إلى حقيقة ثابتة في تاريخ لبنان مفادها القول إنّ تجنّب المواجهة أو الاتجاه إلى الحياد أو كما يُقال ابتداعاً وخرافة لبنانية «النأي بالنفس»، أنّ كلّ ذلك لا يضمن دائماً الحقوق ولا يؤدّي إلى حمايتها ولا يمكن من استرجاعها إنْ اغتصبت، خاصة إذا كان العدو الذي يهدّد تلك الحقوق من نسخة وطبيعة العدو «الإسرائيلي» وكان المُعتدى عليه دولة كلبنان واهنة هشة في نظامها وسلطتها وماليتها. اليوم تكاد الصورة ذاتها تستعاد، إذ إنّ لبنان الرسمي وفي مواجهة الحرب الكونية التي شنّت على سورية وعلى محور المقاومة زعم انه التزم سياسة «النأي بالنفس»! وهي أغرب بدعة يمكن أن يتسامع بها في العلاقات الدولية، خاصة اذا كانت الدولة متشابكة مع محيطها اللصيق في الجغرافية والتاريخ والديمغرافية والاقتصاد، ولو لم تبادر المقاومة لامتشاق السلاح والدفاع عن لبنان على الأرض السورية ابتداء ثم على الأرض اللبنانية هي والجيش اللبناني بعد وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، لكان الإرهابيون فعلوا في لبنان ما سبق لهم وارتكبوه من جرائم القتل والتشريد والتخريب والتدمير التي ارتكبوها في سورية والعراق. 

لقد استطاعت المقاومة بقرارها الأوّلي الذي لم يتوقف عند «سياسة النأي بالنفس» الغبية، أن تحمي لبنان من الإرهاب، لكن الحرب الكونيّة التي قادتها أميركا ومعها «إسرائيل» ضدّ سورية لم تكن عسكرية فقط، بل تعدّدت صنوفها وسقوفها وأشكالها وشملت في ما شملت الحرب الاقتصادية والإرهاب الاقتصادي، وهنا بدل أن يساهم لبنان في تخفيف آثار العدوان على سورية ويدافع عن نفسه عبرها خاصة بعد أن وضع قانون قيصر الأميركي موضع التنفيذ وهو القانون الذي ادّعت أميركا كذباً انه لا يمسّ لبنان، فقد كان العكس تماماً حيث ساهم الممسكون بالقرار الاقتصادي والمالي في لبنان في الحرب على سورية بشكل إجرامي وحرموا السوريين من أموالهم المودعة في لبنان كما حرموا المودعين اللبنانيين أيضاً من مالهم وطبّقوا «قانون قيصر» بشكل أسوأ مما كان يطلب واضعوه الأميركيون، وظنّ هؤلاء جهلاً او ارتهاناً بأنّ في ذلك كسباً للرضا الأميركي وصيانة للاقتصاد اللبناني، وأغفل هؤلاء أيضاً ما حاكته أميركا للبنان من خطة عدوان هي خطة بومبيو التي تتضمّن الانهيار الاقتصادي والمالي. 

وهكذا تأكد على أرض الواقع بأنّ الحرب الاقتصادية على سورية شملت لبنان وكشفت عوراته الاقتصادية والمالية دفعة واحدة وأظهرت على الطبيعة الكارثة الاقتصادية الحقيقية التي يعيشها لبنان بسبب نهب الأموال العامة من قبل المسؤولين وبسبب الفساد المستشري في الإدارة العامة وعلى كلّ الصعد، وبسبب سياسة الامتيازات والاحتكارات والوكالات الحصرية، وبسب السرقات المبرمجة بما أُسمي الهندسات المالية التي وضعها حاكم مصرف لبنان ما أدّى إلى إثراء المصارف وإغنائها من مال المودعين من لبنانيين وغير لبنانيين ومنهم سوريين قيل إن رصيد ودائعهم في لبنان تخطى الـ 25 مليار دولار. هكذا وبلمح البصر انكشف الاقتصاد اللبناني وظهر وهنه وخواؤه وظهرت الطبقة السياسية والاقتصادية والمالية على حقيقتها بأنها زمر من اللصوص منهم الكثير من العملاء للخارج، والفاسدون المفسدون الذين قادوا لبنان إلى الانهيار والجوع والبطالة والويلات. 

لم تكن الحرب الاقتصادية على سورية وخطة بومبيو الإجراميّة هي السبب الوحيد للانهيار الاقتصادي اللبناني، بل كانت تلك الحرب أحد الأسباب التي فاقمت الأزمة والسبب الرئيسي الذي كشف عن الحقيقة. وشكلت رداً مباشراً وعملياً على أولئك الذين فاخروا بسياسة النأي بالنفس وقاطعوا سورية وامتنعوا حتى عن الحديث معها لا بل إنّ مسؤولين كباراً يعلم القاصي والداني أنّ الرعاية السورية هي التي بنت لهم مواقعهم وأنتجت لهم أمجاداً يتغنون بها الآن، قاطعوا سورية وعملوا مع أميركا ضدها بشكل بشع. 

إنّ مأساة لبنان باتت حقيقية كارثية قائمة، والكارثة الأفظع هي عدم الاعتراف بالمسؤولية عنها والإصرار على التمسك بالأشخاص والأساليب ذاتها التي أدت إلى الكارثة، متناسين الحكمة القائلة بانّ «المقدمات ذاتها تؤدي إلى النتائج ذاتها» أو أن تطابق المقدّمات يحكم بتطابق النتائج، وبالتالي فإنّ تماثل الأشخاص والأدوات والأساليب يؤدّي إلى نتائج متماثلة. وفي حالنا يعني أنّ لبنان سيكون أمام مأساة تتفاقم وليس أمام إشكالية يتبعها حلّ. 

والغريب في الأمر أنّ من يتفحّص مسارات وآلية البحث عن حلّ لمأساة لبنان يصاب بالذهول، حيث إنه يجد أولاً أن المتسبّبين بالكارثة هم أنفسهم يستأثرون بالبحث عن حل بعد أن أوكل إليهم أمر الإخراج منها، وأنّ أدوات إنتاج الكارثة هي نفسها الأدوات التي يتمّ التمسك بها والأفظع من ذلك هي الدعوة أو الإصرار على سياسة العزلة والنأي بالنفس أو ما ابتدع بتسميته «الحياد الناشط» الذي ليس له مكان في القانون إلا في أوهام وخيال مَن يطلقه. 

أما الحلّ الذي نراه فإنه يجب أن يُرسى على قوائم ثلاث تتمثل بإصلاح سياسي واقتصادي ومالي. ففي السياسة لا بدّ من تغيّر أو إصلاح جذري يضع حداً للطبقة السياسية الفاسدة التي ترفع شعار حقوق الطائفة وتنهب أموال الطائفة والوطن والمجيء بمن يعمل للوطن والدولة والشعب ولا يكون مطواعاً للخارج. وفي الاقتصاد يجب أن يقوم الإصلاح على شقين أو فرعين فرع في الماهية وعبره نتحوّل إلى الاقتصاد الإنتاجي الذي قضت عليه سياسات ما بعد 1992، وفرع استراتيجي يقوم على الاندماج الاقتصادي التكاملي مع المحيط وبشكل خاص الدول العربية الثلاث التي توجّه اليها الرئيس ميشال عون بمبادرته طارحاً السوق الاقتصادية المشرقية، (بدأت مصر مع الأردن والعراق بهذا التعاون الفاعل وندعو إلى انضمام لبنان وسورية لهما) كما والانفتاح على الشرق بشكل عام وعلى الصين وإيران وروسيا بشكل خاص مع وضع حدّ لسياسة الاحتكارات والتبعية للغرب. وأخيراً الإصلاح النقديّ الذي يجب أن تقوم به لجنة من الخبراء يضع حداً للدولرة ويعيد إلى القطاع المصرفي الثقة ويحرر أموال المودعين أو على الأقل يضع جدولاً زمنياً لإعادتها حتى ولو طال الوقت بضع سنين، فالمهمّ ألا تضيع. 

هذه برأينا الخطوط الكبرى للحلّ، لكن للأسف لا نرى مَن يسعى اليه بشكل يدعو إلى طمأنينة ما بل نرى استشراء في النهب والسيطرة واستباحة الدولة الأمر الذي يطرح السؤال: متى يتحرّر اللبناني من زعيمه الجلاد، ومن مرجعيته الخارجية الظالمة المستبدة ويعمل باستقلالية القرار وليس بالحياد التافه، يعمل بإرادة وقرار مستقلّ من أجل نفسه ووطنه؟ وهل ستبقى الحلول غائبة حتى تلك اللحظة؟