نقاش داخل عقول محبطة حلمت بالتغيير عشيّة الانتخابات

May 13, 2022

 ناصر قنديل

لو تخيّلنا مشهداً انتخابياً طبيعياً في لبنان بعد الانهيار المالي والاقتصادي وثورة 17 تشرين، لكان المنطقي أن نتوقع أن النقاش الأساسي في البلد يدور حول الخيارات والبرامج الاقتصادية والمالية والاجتماعية، نحو عقد اجتماعيّ جديد وسياسة اقتصادية ومالية جديدة، وأن نتوقع تراجع الجدل حول القضايا التي كانت تطفو على السطح وهي ليست أولويات اللبنانيين، كنقاش جنس الملائكة، فلا إلغاء الطائفية وإقرار الزواج المدني يتمان بأغلبية نيابية، ولا تقرير مستقبل سلاح المقاومة تحسمه أغلبية نيابية، وليس هناك بالأصل أغلبية لبنانية علمانية كاسحة تمنح الأمل لدعاة الدولة المدنية لينقلوا الخلاف حولها إلى مرتبة الأولوية في الاستحقاق الانتخابي. ولا لدى مناوئي سلاح المقاومة مثل هذه الأغلبية ليشجعهم الأمل بالفوز الفئوي لمشروعهم على نقل الأمر إلى صدارة الأولويات. ولا البديل الوطني المتمثل بجيش قوي قادر جاهز لتولي حماية لبنان، أو يمكن أن يجهز بفترة وجيزة في ظل الفيتو المانع لتسليح الجيش اللبناني بأسلحة نوعيّة، بحيث يصير نقل هذه العناوين الى مرتبة الأولويات الانتخابية مجرد كيد سياسي بلا طائل، أو تخديم لرغبة خارجية بتسجيل نقاط على المقاومة.

غاب البرنامج الاقتصادي والمالي عن الأولويات، وصار سلاح المقاومة عنوان الاصطفاف الذي يقود الاستحقاق الانتخابي، والقوى التي خرجت من ساحات 17 تشرين صارت ضمن هذا الاصطفاف على جبهة المناوئين لسلاح المقاومة، وحشد السفراء أموالهم وتصريحاتهم ووسائل الإعلام التي يمولونها لجعل هذا العنوان جامعاً لتشكيلات كان يبدو مستحيلاً أن تجتمع، وأبعد الرئيس سعد الحريري عن المشهد السياسي والانتخابي لمجرد انه اقترح بدلاً من المواجهة مع سلاح المقاومة، ربط النزاع معها حوله، وهو المنطق الأقرب واقعياً لكل مناوئ للمقاومة يفكر بوضع البلد بعقل سياسي لا مخابراتي، وصار الانتخاب مجرد استفتاء يراد منه تشكيل محطة اختبارية لقياس نتائج حملة الضغوط التي تعرضت لها بيئة المقاومة، وقراءة نتائج الحصار الذي فرض عليها، لأن الخارج الذي بات هو مدير الحملة الانتخابية ضد المقاومة بوضوح يعرف ان نيل الأغلبية ضدها لا يفيده في تغيير موازين القوى الفعلية ضدها، لكنه يفيده في الإجابة عن سؤال، هل ثمة جدوى من مواصلة الضغوط والحصار؟ وهل يفعلان فعلهما في إنشاء بيئة لبنانية معادلة لها يمكن البناء عليها، وهل يمكن الرهان عليهما لتفكيك التأييد الذي تناله في بيئتها؟

أما وقد صار الأمر كذلك، فماذا يفعل من يرغب بالتصويت لصالح التغيير في نظام فاشل سياسياً واقتصادياً ومالياً، حتى الانهيار، والمقاومة لم ولن تضع ثقلها وفائض قوتها لتلبية رغبته بإنجاز هذا التغيير بالقوة، وحجتها في ذلك الحرص على السلم الأهلي وخشيتها من الفتنة. وهو يدرك أن خياره الأول الذي كان خلال أيام الحماسة بعد 17 تشرين شبه محسوم في وجدانه، بالتصويت لقوى تغييرية، قد بدأت تشوبه الشكوك وهو يرى هذه القوى قد اصطفت تحت لواء خطاب العداء للمقاومة، وهو يعلم أن لا سبب لبنانياً لذلك، ولا مبرر وفق أولوية مواجهة قوى النظام أن تكون المقاومة العدو الأول، والمكونات التاريخية للنظام قد بدلت ثوبها وصارت قوى ثورة وتغيير. فيسقط هذا الخيار بالضربة القاضية، وهو يرى مَن يسمون أنفسهم دعاة ثورة وتغيير قد تحولوا إلى مجرد أبواق تصطف وراء مومياءات النظام القديم، وتقدم التبريرات لتبييض سياسي يشبه تبييض الأموال، في نظرية الحلف السيادي، الذي لا تشغل باله أدوار السفراء في رعاية نشاطاته وحملاته.

هنا يتقدم الخيار الثاني الذي يتبادر لذهن هذا المؤمن بالتغيير، والذي لا يرى العداء للمقاومة مبرراً، ولا جعل البحث بسلاحها أولوية، وأغلب هؤلاء لم يروا من هذا السلاح إلا التحرير والحماية، وينتمي كثير منهم إلى بيئتها التاريخية. والخيار الثاني هو عدم المشاركة بالانتخابات. وهنا تنطرح الإشكالية، فهو يعلم أن في لبنان معادلة ونظام، معادلة حررت وحمت وتمنع الحرب الأهلية، ونظام فاسد فاشل، والمواجهة الدائرة هي حول تغيير المعادلة لجهة كسرها بحجة تغيير النظام، وهو كتغييري معني بأن يمنع سرقة هويته وتجييرها لأعداء المعادلة الذين ينتمي أغلبهم للنظام، أو الحالمين بدخول جنته باسم التغيير، وهو معني أكثر إذا لم يكن التغيير الى الأفضل ممكناً أن يمنع التغيير الى الأسوأ. وهو يعلم أن نيل خصوم المقاومة للأغلبية وتشكيلهم حكومة تملك هذه الأغلبية مشروع حرب أهلية يهدد بتخريب كل الإيجابيات والمكاسب التي تحققت ما بعد الطائف، لصالح تعزيز السلبيات التي حملتها تلك المرحلة، من التحرير الى حماية البلد بمعادلة المقاومة بوجه الأطماع الاسرائيلية إلى تحصين السلم الأهلي وفق معادلة أن من يقدر عليها لا يريدها، فلا خوف إن أرادها من لا يقدر عليها، لكن نيل الأغلبية وضم مقدرات الدولة لمن يريدها سيجعله يتوهم أنه قادر عليها.

عند عتبة التفكير بالخيار الثالث وهو المشاركة بالانتخابات والتصويت للوائح المقاومة، تلمع فكرتان، الأولى تشجع على المشاركة والثانية تدعو للتردد والتبصر. الأول هو أنه يراقب هذا الحماس الخارجي للتصويت ضد المقاومة، والاهتمام بقراءة نتائج التصويت لمعرفة ما اذا كانت خيارات مواصلة الضغوط والحصار ذات جدوى، وهو كمواطن لبنانيّ أولاً صاحب مصلحة بوقف الضغوط والحصار وإيصال أصحابها باليأس، وهو معني أن يقول بأن المقاومة التي يعتب عليها في عناوين داخلية، سواء كان مصيباً أم مخطئاً، وسواء كانت حجتها في مخالفته صحيحة أم خطأ، هي مقاومة تحظى بكل الدعم والتأييد شعبياً في ما تمثله المعادلة، أما الثانية فهي شعوره بالإحباط تجاه مستقبل البلد، بلا كهرباء بلا ودائع بلا ليرة، فما جدوى الدخول بلعبة معلوم سلفاً أنها مجرد تفليسة ميؤوس منها؟

هنا يستمع هذا التغييري الى آخر معادلات السيد حسن نصرالله، التي تضمنت وضع معادلة الردع في كفة ومستقبل ثروات النفط والغاز في كفة، واعتبار هذه الثروات بوليصة تأمين كافية لانتشال لبنان من قعر الانهيار ورد الاعتبار لودائع الناس وللعملة الوطنية، وإطلاق النهوض وحل مشكلات الكهرباء، فهل يصدق الوعد؟

تجربته تقول إن السيد هو سيد الوعد الصادق، وهو الذي سبق في حملات انتخابية سابقة أن قال لا تنتخبونا طلباً للخدمات، وإن كانت همكم فنحن لن نفيدكم، فيستحيل أن يكون وراء كلامه مجرد حملة انتخابية. فغداً تنتهي الانتخابات ويبقى وعد السيد، فيقرر المشاركة والتصويت، ومن باب التحفظ يقول سأنتخب اللائحة ولكنني سأقرأ الأسماء بتمعن، وان لم أجد اسماً يقنعني فلن اضع صوتاً تفضيلياً.

مقالات متعلقة

أنطون سعاده حلم مشرقيّ وشهيد حي

ناصر قنديل

لم يُنجِب المشرق شخصيّة عبقريّة ونضاليّة بمكانة أنطون سعاده، فقد عرف الشرق أبطالاً خاضوا معارك أسطوريّة وحققوا انتصارات تاريخيّة، أو سقطوا في ملاحم استشهادية، كما عرف الشرق قادة سياسيين نقلوا واقع كياناته ودوله من مراحل إلى مراحل، وكتبوا سيَرَهم بأحرف من نور، وعرف الشرق قادة حركات مقاومة أنجزوا ما عجزت الجيوش عن إنجازه، وعرف الشرق مفكّرين وكتّاب وفلاسفة ألمعيّين تركوا بصماتهم في الفكر الإنساني، لكن هذا الشرق لم يعرف شخصاً جمع كل ذلك في سيرة حياته القصيرة بمثل ما جسّدها أنطون سعاده.

قُدّمت عقائد ومشاريع فكرية سياسية لشعوب المنطقة، عالج بعضُها قضية التحرر من الاستعمار كأولويّة وتفوّق في رسم معاملها، وعالج بعضُها قضية الوحدة وأبدع، وعالج بعضُها قضية العدالة الاجتماعية وتفوّق، وعالج بعضُها قضية الأمراض الاجتماعية وشكل الدولة القادرة على توحيد النسيج الوطني، فوقع بعضُها في العداء مع الدّين، ووقع بعضُها الآخر في محاولة توفيق هشّة بين مفهوم الدين ومفهوم الدولة، لكن التجربة الحية لكل هذه العقائد قالت باستحالة بلوغ مرتبة متقدّمة من الإنجاز في أيّ من هذه العناوين، رغم الإنجاز الأولي المحقق، ما لم يلاقيه تناسب في الإنجاز في العناوين الأخرى، فكانت عقيدة سعاده وحدَها التي نجحت بتقديم الأجوبة المتكاملة على الأولويّات المتزامنة والمتلازمة، وبصورة تفادت خلالها الوقوع في ثنائيّات قاتلة، فتجاوزت الفِخاخ التي وقع فيها الآخرون، فهي متصالحة مع الدين وليست دينيّة، وهي مدنيّة وليست إلحاديّة، وهي نوع من اشتراكيّة لا تلغي المبادرة الفردية، ونوع من رأسمالية لا تلغي دور الدولة، ووحدويّة بحدود المدى الجغرافيّ الأضيق، وتحررية الى المدى الأبعد الذي يمثله اليقين بأمة عظيمة لا تعاني عقدة النقص تجاه الغير شرقاً وغرباً، لكنها تنطلق في التحرّر من فلسطين والصدام الوجوديّ مع كيان الاستيطان الغاصب.

خلال عقود الاحتلال التي عاشها لبنان، تعرّف اللبنانيون على فكر سعاده حزباً مقاوماً، وخلال عقد المواجهة التي خاضها السوريّون مع الإرهاب عرفوا عقيدة سعاده منظومة وحدة اجتماعيّة وسلم اجتماعي، ومقاومين يستشهدون الى جانب الجيش السوري دفاعاً عن وحدة وسيادة سورية، وفي ذروة الأزمات المحيطة بدول المنطقة اقتصادياً وأمنياً، قدّمت عقيدة سعاده مشروع وحدة الحياة بين كيانات المشرق، وما عُرف بالتشبيك الذي دعا إليه مفكّرون كثيرون ليس إلا بعضاً مما قدّمه سعاده.

عرف سعاده أهميّة الجماعة المنظّمة، وعرف أهمّية دم الشهادة، فتلازما مع مسيرته قائداً حزبياً وشهيداً لقضيته وحزبه، وعرف الأخطبوط الداخليّ والخارجيّ الممسك بالسيطرة على بلاد المشرق مبكراً أن سعاده وفكره وحزبه خطر داهم، فتضامنوا وتفاهموا على التخلّص منه بصورة دراميّة لا تزال بصماتها توقظ ضمائر الأحرار، ورغم مضي عقود على ما كتبه سعاده في كل ميدان سيكتشف مَنْ يقرأه ومَن يُعيد قراءته، أنه كتب لهذه الأيام، وأن أضعف الإيمان هو العرفان، وللعرفان موجبات، أولها دعوة الجيل الشاب للتعرّف على مفكّر من لحمه ودمه يشكل عبقريّة استثنائيّة وشخصيّة أسطوريّة، يباهي بها شعوب الأرض، ومن العرفان أن ينهض محبّو سعاده وتلامذته بما يليق بالصورة التي يستحقّها لإعادة تقديمه مخلّصاً يحمل مشروعاً يستطيع أن ينهض بلبنان وسورية وكيانات المشرق نحو التقدّم، وفكر سعاده نسخة علمانيّة غير مستوردة لا تتعارض مع الإسلام والمسيحيّة، ونسخة اقتصادية اجتماعية صُنعت في بلادنا تقدّم حلولاً جذرية لمشكلاتنا، ومشروع مقاومة تتّسع لكل مقاوم بوصلته فلسطين، ومشروع وحدة تتّسع مع أتباع عقيدته، للقوميين العرب والإسلاميين والأمميين، فوحدة بلاد الشام توفر لكل هؤلاء قلعة حرّة تتسع لمشاريعهم التحرّرية والوحدويّة والإنسانيّة.

لبنان نحو مزيد من التمركز الطائفيّ نحو «طائف فرنسيّ»؟

ناصر قنديل

بنى الكثير من اللبنانيين بنيات طيّبة أحلاماً على مشهد انتفاضة 17 تشرين 2019، معتقدين أن دخول لبنان في نفق الانهيار المالي والاقتصادي، سيؤدي إلى فتح الباب نحو تغيير جذري في الاصطفافات الشعبية، ويمنح الأمل بولادة دولة مدنية تفرضها حركة شعبية عابرة للطوائف، ورغم المسار التراجعي للحضور الشعبي وصولاً لنضوب موارد الحراك شعبياً، بقي البعض متمسكاً بهذا الأمل على قاعدة أن التردّدات الأشدّ قسوة للأزمة المالية والإقتصادية ستتكفل بإنتاج موجات أشدّ جذرية من الانتفاضة الشعبية بالاتجاه ذاته العابر للطوائف نحو دولة مدنية.

بغض النظر عن الاستثمار الذي مثلته بعض الجماعات القيادية الوازنة في الحراك ووسائل إعلام فاعلة سعت لقيادته، لأخذه بوجه المقاومة، أو لفرض عزلة على عهد الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر، يبقى السؤال حول صدقيّة التحليل القائم على فرضية أن المزيد من الفقر سينتج مناخاً ثورياً مدنياً يدفع لبنان نحو التغيير هو المطروح، خصوصاً أن تجربة لبنان في السبعينيات قالت العكس تماماً، حيث يترتّب على المزيد من الفقر تراجعاً متصاعداً في وزن فكرة الدولة كفكرة لحساب الكيانات الطائفية كهويات كامنة تحت جلد الهوية الجامعة للكيان الوطني. ونهوض الجماعات الطائفية والعرقية بديلاً عن الدولة عندما تظهر عاجزة عن أداء مهمتها في الحماية والرعاية ليس حكراً على لبنان، فهو من ثوابت علم الاجتماع السياسي، كما هو حاصل مكرر في كل تجارب الدول الهشة القائمة على تراضي كيانات وجماعات تنتسب للهويات الكامنة. والحصيلة الثانية التي تقولها التجارب هي أن المكانة المميّزة للبنان في عيون الخارج، وهي مميّزة بعائداتها لمن يمتلك فيه وزناً مؤثراً، ومميزة بمخاطرها على من يترك تداعيات أزماته خارج السيطرة، ما يجعل كل التهاب في الوضع اللبناني مدخلاً لجذب التدخلات، التي تسارع لصناعة تسويات تعيد تركيب معادلة جديدة بين المكوّنات والكيانات الطائفية، كما كان اتفاق الطائف، وكما كان اتفاق الدوحة كملحق تنفيذي لبعض آليات الطائف بتوازنات جديدة، وتتحرّك هذه المداخلات والتدخلات في قلب المتغيرات الدولية والإقليمية التي ولدت في قلبها التسويات التي سبقت، وتلحظ التعديلات التي أصابت الموازين بين اللاعبين الخارجيين.

لا يمكن مراقبة الوضع خلال العام الماضي من دون ملاحظة أمرين واضحين، الأول أن الكيانات الطائفيّة التي أصابها الاهتزاز مع الانفجار الاجتماعيّ، والمتموضعة على ضفتين متقابلتين في المأزق الحكومي الراهن، أي فريقي رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، تسجلان تصعيداً في الخطاب الطائفيّ ونجاحاً في الإمساك المتنامي بشارع طائفي كان يبدو موضوع اهتزاز وتراجع ورهانات على التغيير في مرجعيّته السياسيّة وتسابق الوارثين المفترضين على لعب دور البديل، وربما نكون أمام صورة تتبلور يوماً بعد يوم، يظهر فيها تيار المستقبل أقوى في طائفته عمّا كان عشية 17 تشرين، وبالتوازي يظهر فيها التيار الوطنيّ الحر بصورة الممسك بالشارع المسيحيّ رغم كل الكلام عن تراجعه وتشتت مرجعيّاته، وتبدو الأزمة الحكوميّة وما تثيره من استقطاب وخطاب طائفيين، استثماراً مربحاً للفريقين، ما يفسر امتعاض البعض المتحمّس لإضعاف التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية من احتفاظ الرئيس المكلف بالتكليف من دون تأليف ومن دون اعتذار، لشعورهم بنتائج هذا الوضع لصالح التيار الوطني الحر والعهد، ويكشفون رغبتهم باعتذار الحريري ولو كان في ذلك خسارة كبرى لموقعه الطائفي الذي ينمو في ظل التجاذب القائم، ويقترحون بديلاً يقوم على ترك التيار والعهد يعودان بهما لصيغة تشبه حكومة الرئيس حسان دياب لإعتقادهم بأنها تنهي المناخ القائم على التجاذب والتصعيد الذي يرتاح إليه الفريقان المتقابلان، ولا يبدوان راغبين بإنهائه قريباً.

في الطوائف الأخرى لم يتعرّض التمركز الطائفي للاهتزاز بما يغير في اصطفافاته خلال الأزمة، وقد نجح من أصيب ببعض الشظايا بترميم الكثير من صدوعها، والخارج الذي دخل بعضه في رهانات على جعل الأزمة اللبنانية مدخلاً لتغيير جيواستراتيجي في توازنات المنطقة، كما كان الحال مع رهان أميركي معلن بألسنة كبار المسؤولين على إسقاط حزب الله والمقاومة، يعترف بالفشل منذ انطلاق المبادرة الفرنسية، ويعيد صياغة تموضعه الدولي والإقليمي بعد نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث تتراجع لغة التصعيد لحساب لغة السياسة، ويبدو التقارب الأميركي الأوروبي من البوابة الفرنسيّة عنواناً للمرحلة الجديدة، بمعزل عما سيحدث في ملف العلاقات الأميركية الإيرانية، وهو ليس مزيداً من التصعيد في أحسن الأحوال، بحيث يبدو المسار المقبل واضحاً نحو مزيد من التأزم اللبناني ومزيد من الزخم في المسعى الفرنسي، الذي لم يعد له من مركز نفوذ آخر غير لبنان، ويبدو المسعى الفرنسي مرشحاً ليحوز المزيد من الدعم الأميركي، وبالاستطراد تبدلاً في الكثير من المواقف الإقليمية، والطريق سيكون سالكاً باتجاه واحد، سبق وتحدّث عنه الرئيس الفرنسي، مشروع عقد سياسي جديد عبر حوار ترعاه باريس، يقع في منزلة بين اتفاق الطائف واتفاق الدوحة، ويعيد تعويم النظام الطائفي بقواه المتجذّرة، وفق صفقة تتضمن حكومة سياسية وتفاهماً على الرئاسة المقبلة، وقانون انتخابات جديد، والعديد من التطبيقات الإصلاحية، تحت عنوان تطبيق ما لم يطبق من اتفاق الطائف، ولكن بتوازنات ومعادلات تراعي ما سيثبته اللاعبون المحليّون وظهير كل منهم في الإقليم والعالم من وزن وحضور، وسيفرح المدنيّون اللبنانيون بقانون انتخابات يرجّح أن يكون قائماً على صيغة المجلسين، يفتح طريقاً نحو الخروج من الطائفية كما فرحوا بوعود اتفاق الطائف، لكن سيبقى الثابت أن الدولة المدنية لا يبنيها ممثلو الطوائف، وأن المدنيين الحقيقيين لا يزالون أقليّة وأقليّة ضئيلة.

كلن يعني كلن… ولكن

ناصر قنديل

عندما انطلقت الجموع الغاضبة في 17 تشرين الى الشوارع لم تكن للشعب قيادة يؤمن بمرجعيتها، ويثق بأهليتها، ولم تتح لأحد من المشاركين المنفردين الذين شكلوا الطوفان الشعبي الكبير يومها، أن يشترك لا في صوغ الشعارات ولا في تحديد السقوف السياسية، بل وضعت مجموعة مكوّنة من مصدرين اثنين يدها على التحرك ونالت فرصتها لاكتساب ثقة الجمهور الواسع، عبر ما يسمّى بالتصويت بالأقدام، اي المشاركة اللاحقة والمستدامة بتلبية دعوات التظاهر، وكان شعار «كلن يعني كلن» هو عنوان المعركة التي قررت هذه القيادة خوض شرعيتها على أساسها، اما المصدران لتكوين القيادة فقد تشكلا من المجموعات المنظمة القادرة على تنظيم حشود مؤيديها او ادارة الحشود الوافدة من جهة، والقنوات التلفزيونية التي منحت بثها المباشر للتحرك وصار مراسلوها ومذيعوها رموزاً للتحرك يشتركون عبر أثير قنواتهم في صناعة القيادات وتظهيرها، وفي رسم الخطوات وتحديد وجهتها، وفي الترويج للشعارات ومحاولة تعميمها، ويمكن القول في الحصيلة بعد أقل من عام على التحرك، إن التصويت الشعبي جاء في غير صالح هذه القيادة، وأنهى مهمتها رغم إصرار مجموعاتها على احتكار تسمية فضفاضة الثوب على أصحابها، «الثوار»، وفي ظل جفاف موارد المشاركة الواسعة في التحركات، رغم بقاء الأسباب وتفاقم الأزمات.

في الغالب لعب المال دوراً محورياً في عملية تظهير القيادة وشعاراتها، فبلا المال تتوقف القنوات التلفزيونية عن البث في ظل شح موارد الإعلان، وهي الحامل الأقوى للقيادة، ولولا المال تصاب الجماعات المنظمة بالشلل، والمال ليس مجانياً ومصادره ليست وافرة، ولا مبهمة، فهي في الغالب أيضاً من دول مقتدرة لها سياسات ومشاريع، وهي بالتحديد ثلاث دول إقليمية خليجية هي قطر والإمارات والسعودية تتوزّع تمويل ثلاث قنوات تلفزيونية كبرى رعت الحراك وتولت توحيد الشعارات رغم تباينات دولها، ما يجعل القيادة عند مرجعية أعلى هي المصدر الدولي للقرار والتمويل الذي تتوزّعه ثلاثة مصادر واشنطن وباريس والاتحاد الأوروبي، ولن نحتاج لكثير عناء لنكتشف أن واشنطن كانت من يتولى القيادة، وليس من خارج السياق الكلام الذي صدر عن الأميركيين والفرنسيين بعد انفجار مرفأ بيروت عن التوجّه نحو منظمات المجتمع المدني لتوزيع المساعدات بدلاً من مؤسسات الدولة تلافياً للفساد، الذي تصاعدت فضائحه بسرعة مع تدفق المال والمساعدات على هذه المنظمات، كما ليس خافياً إصرار معاون وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر في زيارته الأخيرة إلى بيروت على تظهير مكانة هذه الجماعات في سياسة واشنطن، رغم الكلام القاسي الذي سمعوه منه داخل اللقاءات.

الشعار «كان يعني كلن» لم يكن عبثياً، فقد كانت له وظيفتان، الأولى نفي أي شبهة تورط للجماعات المنظمة بالتحالف مع أي من مكوّنات السلطة رداً على تشكيك شعبي واتهامات علنية بتلاقي الجماعات الواقفة وراء قيادة التحرك مع سياسات خارجية تستهدف نصف السلطة بخلفية موقفها من المقاومة، وتدعم بالمقابل نصفها الآخر، فيحقق الشعار كلن يعني كلن النفي المطلوب لهذا الاتهام والتشكيك. أما الوظيفة الثانية فهي شيطنة الفريق الواحد الموجود خارج منظومة الحكم والسلطة، الذي يمثله حزب الله ويرمز للمقاومة، وضمه للاستهداف تمهيداً لجعله العنوان الأول المستهدف تالياً، كما حدث لاحقاً بالفعل، بحيث بقي شعار «كلن يعني كلن» بداية أسير العجز عن توجيه الاتهام للمقاومة كشريك في الفساد فكان الاتهام ناعماً باتهامها بأنها لم تحارب الفساد، وصولاً إلى الاتهام الشديد الخشونة والحصري نحوها في تظاهرة 6-6 تحت شعار تطبيق القرار 1559.

بعد كل هذا سيحقّ لنا أن نستعير الشعار «كان يعني كلن» مرة في ضوء انضمام منظمات المجتمع المدني إلى نظام الفساد والطائفيّة بصورة رسمية مكرّسة، ليصير مدى الشعار أوسع فيطال تحت مظلته هذه المنظمات، ومرة ثانية في ضوء الأزمة الراهنة التي تنوء البلاد تحت ثقلها، وانسداد الباب أمام الحلول ولو المؤقتة، والتقاء كل القوى السياسية المكوّنة للسلطة ومؤسساتها للتبشير بأن الحل بدولة مدنية وبأن النظام الطائفي قد سقط، وليس من باب الصدفة أن تلتقي معها منظمات المجتمع المدني في التبشير ذاته، لنقول أيضاً «كلن يعني كلن» ليس بمضمون ما نسمع منهم من دعوات، بل كلن يعني كلن غير مؤهلين لقيادة البلد نحو الدولة المدنيّة، ذلك أن الطرح يأتي باباً للتلاعب بالمضمون والشكل، وهروباً من مواجهة أزمة جدية يعرفون أن ربط حلها بقيام دولة مدنية على أيديهم أقرب لحلم ليلة صيف.

لا تستقيم الدعوة للدولة المدنية مع الدفاع عن مصالح طائفية، وهذا يشمل الجميع مهما اختلفت مشروعية التبريرات المستوحاة من قلب النظام الطائفي، الذي لا يزال يشكل أرض الصراع وتشكل وصفة الدولة المدنية دعوة تعجيزية متبادلة بين أركانه وليست مشروعاً جدياً ينطوي على التسليم بالخروج من النظام الطائفي. فحصرية حقيبة المال التي يطلبها الثنائي مطلب طائفي، بغض النظر عن مندرجاته كعرف أو كمطلب مشروع للتوازن الطائفي في نظام الطوائف، وتاريخ تولي وزراء الثنائي لحقيبة المال لا يقدّم سجلاً مغايراً لمسار السياسات المالية التي أودت بلبنان الى الأزمة الخانقة بشكلها الراهن تجعل المطلب عنواناً إصلاحياً، ودعوة رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر لإلغاء طائفية الحقائب السيادية لا تجعلهما أكثر مدنية، في ظل احتجاز مراسيم الفائزين في مباريات مجلس الخدمة المدنيّة تحت ذرائع حقوق الطوائف، ولو خالفت نص الدستور بإلغاء طائفية الوظيفة بما دون الفئة الأولى، ومداورة الوزارات بين الطوائف المنطلقة من أن لا نصّ على تخصيص وزارة بطائفة، تدحض صدقيتها إدارة الظهر لنص دستوري واضح على رفض تخصيص وظيفة من وظائف الفئة الأولى بطائفة، والتمسك بهذا التخصيص خلافاً للنص مقابل المطالبة بنص لقبول تبرير تخصيص وزارة حيث لا نصّ يمنعه بمثل أن لا نص يدعو إليه. اما نادي رؤساء الحكومات السابقين الذي تحمل رموزه مسؤولية رئاسة الحكومة لإدارة البلد نحو الهاوية خلال ثلاثة عقود، فلا مصداقية لدعوته لتحرير الحكومة من الحصص بعدما وضع يده عليها كحصة كاملة من خلال احتكار تسمية رئيسها من دون امتلاك الأغلبية النابية، والطعن بالمصداقية مكرّر عندما يكون مبرر نيله «حق» التسمية قد جاء بقوة ميثاقية طائفية يرفض معاملة الغير بمثلها، ولذلك يصير شرعياً ومشروعاً القول «كلن يعني كلن» لا يشكلون قيادة صالحة لأخذنا نحو الدولة المدنية.

كلن يعني كلن، تطال أيضاً هنا منظمات المجتمع المدني والكثير من النخب التي تتحدث بلغة لاطائفية لإدانة من تتهمهم بالطائفيين، ثم تدافع بلغة طائفية عندما يتصل الأمر بجماعتها الطائفية، فكيف تكون جمعية أو يكون مثقف من الطراز المدني، ويصرّحون بالتمجيد لمرجعية طائفية، خصوصاً في اطلاق مواقف تنضح بالشحن والتحريض الطائفيين، وكيف يكون لاطائفياً ومدنياً من يصف طائفة بالسوء ويتحدث عن أمجاد طائفة أخرى بالمقابل، وبماذا يختلف هذا العقل عن العقل الميليشياوي الذي هتف لطائفته او يحمل شعارَ اعرف عدوك لتوصيف طوائف اخرى؟

لكن، وهنا نقول لكن، لنفتح قوسين على معادلتين، الأولى أن لبنان بقواه السياسية ونخبه يحتاج للكثير كي ينضج للانتقال نحو الدولة المدنية عاجز بالقوة ذاتها عن المضي في ظل النظام الطائفي الى غير الهاوية، لذلك فالمطلوب هو عدم التذاكي بطرح تعجيزي للدولة المدنية والذهاب لتطبيق الدستور الذي تفوّق على التذاكي الطائفي في رسم المخارج الواقعية والتدريجية، خصوصاً المادتين 22 و95، بإقرار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي وتشكيل مجلس للشيوخ، والإسراع بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية

فضيحة منظمات المجتمع المدنيّ

عندما تتخطى منظمات نخبويّة تهتم لشؤون بعينها وتتخصص بتقديم الخدمات ورفع الصوت بشأنها، حدود مهمتها واختصاصها وتتقدم لتصير مشروعاً سياسياً متكاملاً، يصير السؤال مشروعاً عن السبب، خصوصاً ان ذلك يحصل تحت شعار شيطنة السياسة وأهلها والتقدم كبديل مموّه عنها، ويصير الحاصل الأول لذلك هو تغييب القضايا المحورية في حياة الشعوب وصراعاتها عن الواجهة، وغالباً تحميل هذه القضايا واهلها مسؤولية الأزمات تحت شعار «تركونا نعيش»؛ فيصير الاحتلال والعدوان وانتهاك السيادة الوطنية أموراً ثانوية، وتصير المقاومة عبثاً يخرّب طريقة العيش.

نظرياً منظمات المجتمع المدني هي مؤسسات لا تبغي الربح يريد أصحابها بعيداً عن التورط في السياسة الاهتمام بقضايا مثل السجون والمخدرات والبيئة والفساد والحريات الإعلامية، تقف على مسافة واحدة من السياسيين بقياس القضية التي تشكل عنوان تحركها، ولكنها عملياً وفي زمن التحوّلات التي أصابت السياسات الغربية وتسببت بفشل مشاريعها صارت صيداً ثميناً وضالة منشودة لتحقيق هذه السياسات، فأغدقت عليها أموالاً غير خاضعة لرقابة الدول والمجتمعات، وأنيطت بها مهام تتخطى أحجامها وأدوارها، خصوصاً ان الغرب لا يمانع ان تتولى الإدارة السياسية في بلاد المستعمرات والمحميات نخب تقول إنها لا تتدخل في السياسة وتهتم لشؤون العيش، وترى في تدفق مساعدات الغرب سبباً للحياة ولو كان ذلك باسترهان البلد وثرواته.

خلال عقود مضت صعدت هذه المنظمات الى الواجهة في الكثير من بلدان العالم وليس الحال في البلاد العربية أولى التجارب. ولنتذكر ان ما سمي بالربيع العربي كان نتاج ادارة غربية بواسطة هذه المنظمات، التي قال الأميركيون إن تسميتها تغيرت وصارت تسمّى بالفاعلين غير الحكوميين، لكنهم قالوا في هذا السياق إن ثلاثة اطراف تتصدر قائمة هؤلاء الفاعلين غير الحكوميين، المقاومة وتنظيم القاعدة ومشتقاته، والفضائيات العربية الليبرالية وفي مقدمتها كانت قناة الجزيرة يومها، وإن المشروع الأميركي يستهدف تنشيط بعضها لإلغاء بعضها الآخر. والمطلوب إلغاؤه طبعاً هو المقاومة. أما المنظمات التي نعرفها فهي كومبارس الصف الخلفي في هذه العملية، لذلك في الربيع العربي ظهرت القاعدة وريثاً شرعياً لما بدأه ناشطو المنظمات المدنية، وواكبته قناة الجزيرة ومن بعدها قناة العربية، وليبيا وسورية مثال حيّ.

الفساد المالي مرادف دائم لحال هذه المنظمات التي جرّبها الغرب في مرحلة داخل كل من فلسطين والعراق لإفساد نخب الشعبين. فصارت ظاهرة ومصدر اتهام شعبي للمنضوين في صفوفها، ومن ثم تمّ اختبارها في تونس والجزائر والسودان واليمن، تحت شعارات سقوط القضايا الكبرى و«بدنا نعيش»، وفي لبنان لهذه المنظمات سيرة من السرقات والفساد وروائحه الكريهة مع المساعدات الخاصة بالنازحين السوريين، وفي سورية درّة تاج هذه المنظمات «الخوذ البيضاء» ذات التاريخ الملازم للتلاعب بقضية السلاح الكيميائي كما فضحتها التقارير الدبلوماسية والمخابراتية الروسية وبعض الصحف الغربية الوازنة. والمتتبع للجوائز العالمية في مجالات مختلفة سيكتشف «المعلم» الذي يصنع نجومية الرموز التي يعدها للأدوار المقبلة.

منظمات المجتمع المدني فضيحة متنقلة ما عدا قلة قليلة منها تواكب قضايا شعوبها بصدق، لكن صوتها في العالم لا يسمع كحال المنظمات الحقوقية في البحرين.

فيديوات متعلقة

مقالات متوقعة

قوى الطوائف مع دولة مدنية في لبنان The forces of sects with a civil state in Lebanon

أكتوبر 30, 2019

د.وفيق إبراهيم

يطغى شعار الدولة المدنية على كل الشعارات الأخرى في المرحلة الحالية في لبنان، متحكماً بالسنة السياسيين وقادة الأحزاب بشكل مذهل يدعو الى طرح سؤال وحيد، اذا كانت كل هذه القوى مع الدولة المدنية، فأين هي أحزاب النظام الطائفي المسيطر على البلاد منذ 1948 ؟

وكيف استطاع هذا النظام الصمود بمذهبيته العميقة، فيما تؤيد كل مكوناته مدنية الدولة؟

هنا تكمن إحدى المعجزات الكبيرة التي لا يفهمها إلا السياسيون اللبنانيون المتمكنون إلى حدود الاحتراف في تقديم صور متعددة لانتماءاتهم السياسية. فهل هناك مثيل للوزير السابق وليد جنبلاط الذي يترأس حزباً مذهبياً وإقطاعيا ومناطقياً وتقدمياً واشتراكياً وأخيراً مؤيداً للدولة المدنية!

أما رئيس حزب القوات السيد سمير جعجع فابتدأ حياته الاحترافية قائداً في حزب فجر حرباً طائفية استمرت حتى تسعينات القرن الماضي، مستفيداً من دعم إسرائيلي للبنان، أيدته القوات الجعجعية وشاركت فيه بالمزيد من اقتراف المجازر الطائفية.

وهذا ينطبق على جميع أحزاب لبنان العاملة ضمن إطار النظام السياسي مقابل أحزاب وطنية ويسارية وقومية تؤمن بالدولة المدنية ولم تنتم يوماً إلى مؤسسات النظام.

لقد وصل هذا التلفيق إلى حدود القوى الدينية، التي تعلن تأييدها للحراك الشعبي فهل تؤيد حقاً الدولة المدنية؟

علينا أولاً الإشارة إلى أن الدولة المدنية تقوم على فصل التأثير الديني عن تفاعلات السياسة وحصره في إطار خاص به يعتبر أن الدين وسيلة للعبادة وليس للسيطرة السياسية.

هذا ما فعلته اوروبا واميركا واليابان والصين وروسيا، وبلدان أخرى كثيرة.

لذلك فإن الدولة الفرنسية مثلاً ألغت التقسيم الطائفي للسلطة بين الكاثوليك والبروتستانت وجعلت من الانتماء الوطني المفتوح قاعدة للدمج الاجتماعي بالمساواة الكاملة لمواطنيها في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى اساس الوطنية والكفاءة، وبذلك اعادت الدين الى مواقعه في الكنائس مع حصر دوره في العبادات، حتى أن الزواج الفرنسي الزامي في البلديات، حتى يصبح شرعياً.

ونحت معظم دول العالم على الطريقة نفسها لكن الدين في العالم العربي والاسلامي يجري استخدامه وسيلة للتحشيد وتشكيل العصبيات السياسية فالوهابية في السعودية اداة لضبط السكان في طاعة آل سعود، ومفتي الأزهر أقوى مؤيدي كل نظام مصري جديد.

ان احوال القوى الدينية متشابهة في العالم الاسلامي ومهمتها الوحيدة تطويع الناس لخدمة المسؤولين السياسيين.

أما لبنان فبالغ في طائفية نظامه السياسي نظراً لتعددية المذاهب والاديان فيه. ففيما يحرص الدستور في مصر والمغرب والجزائر والسودان والاردن على اسلامية الدولة والرئيس، يذهب النظام السياسي اللبناني نحو «مذهبة» رؤساء مؤسساته الدستورية ونوابه ووزرائه والموظفين الاداريين والقضاء والجامعات وكل شيء تقريباً.

وهذا ما ادى الى تجذير الطائفية في لبنان، متيحاً لطبقته السياسية بالهيمنة على كل شيء تقريباً، وهذا حول المواطن متسولاً يبحث عن لقمة عيشه عند المسؤول عن طائفته، حتى أصبحت الطائفية معممة في العلاقات بين اللبنانيين وعلى كل المستويات.

فانتفخت الاحزاب واصبح لكل طائفة احزابها الناطقة باسمها والمستولية على قواها عند كل المكونات ومن دون استثناء.

لقد ادى هذا النمط من العلاقات السياسية الى تراكم اكبر فساد سياسي معروف في دولة بحجم لبنان مستتبعاً سطواً كاملاً على مقدرات البلاد باسلوب علني يحتمي بالتحشيد الطائفي، ما انتج بطالة وتضخماً وافلاساً وعجزاً ويناً عاماً يزيد على المئة وعشرين مليارا دولار في دولة لا يتعدى ناتجها الوطني العشرين ملياراً.

وغابت الكهرباء والمياه وتكدست النفايات واصبح الأمن فئوياً يخضع لسلطة الزعماء الذين اضافوا الى قوتهم ميزة القداسة الدينية.

هذا ما يدفع الى الحيرة في احزاب طائفية تسللت الى قيادة التحرك الشعبي المتواصل وتطالب بدولة مدنية، فهل هي جدية في مطالبتها ام انها تحاول السيطرة على هذا الحراك الشعبي ذي السمتين الجديدتين على لبنان وهما:تبلور شعور طبقي مع اتجاه نحو الاحساس بالوطنية على حساب تراجع هيمنة «المقدس» القامع لمصالح الناس باللعب عن العصبيات الطائفية والمذهبية.

لعل هذا يؤكد أن الاحزاب المحركة للمتظاهرين، تستعمل هذه الاساليب في إطار صراعاتها مع احزاب اخرى ضمن السلطة، لذلك تذهب نحو استغلال انتفاضة اللبنانيين على النظام الطائفي بتبني شعاراتهم حول ضرورة الدولة المدنية.

والدليل أن الحريري يقدم نفسه «بيي السنة» وجنبلاط سلطان الشوف وعالية وجعجع المدافع عن القديسين، وللامانة فإن هذا الوضع يشمل كل احزاب السلطة من دون استثناء. فهل نحن عشية تحول لبنان دولة مدنية؟

يحتاج هذا الأمر الى احزاب سياسية حقيقية تؤمن بمدنية الدولة، هناك الكثير منها خارج السلطة، لذلك فليست بقادرة على تغيير النظام الطائفي.

ان هذاالتغيير يحتاج الى موازنات قوى شعبية لها قياداتها الفعلية والتحرك الاخير هو الحركة الاساسية في رحلة الألف ميل للقضاء على نظام طائفي متلون يستعمل كل الشعارات الديموقراطية الحديثة وهي براء منه، لذلك فإن اللبنانيين ذاهبون نحو بناء دولة مدنية فعلية تحتاج الى قليل من الصبر والكثير من موازين القوى.

Translation By Word 2019

The forces of sects with a civil state in Lebanon

October 30, 2019

Dr. Wafiq Ibrahim

The slogan of the civil state dominates all the other slogans at the current stage in Lebanon, controlling the Sunni politicians and party leaders in a stunning way to ask the only question, if all these forces are with the civil state, where are the parties of the sectarian regime that has controlled the country since 1948?

How has this regime been able to withstand its deep ideology, while all its components support the civil state?

Here lies one of the great miracles that only lebanese politicians who are able to the limits of professionalism understand in providing multiple images of their political affiliations. Is there an instance of former minister Walid Jumblatt, who heads a sectarian, feudal, regional, progressive, socialist and finally a supporter of the civilstate!

The head of the Forces Party, Mr. Samir Geagea, began his professional career as a leader of the Party that blew up a sectarian war that lasted until the 1990s, taking advantage of Israeli support for Lebanon, which was supported by the Geagea forces and participated in more sectarianmassacres.

This applies to all parties in Lebanon operating within the framework of the political system as opposed to national, leftist and nationalist parties that believe in the civil state and have never belonged to the institutions of theregime.

This fabrication has reached the limits of the religious forces, which declare their support for the popular movement. Do you really support the civil state?

First, we should point out that the civil state is based on separating religious influence from the interactions of politics and limiting it to its own framework that considers religion to be a means of worship, not politicalcontrol.

This is what Europe, America, Japan, China, Russia and many other countries havedone.

The French State, for example, abolished the sectarian division of power between Catholics and Protestants and made open national belonging a basis for social integration with the full equality of its citizens in political, social and economic rights, on the basis of patriotism and efficiency, thereby restoring religion. To his positions in the churches with limited his role in worship, so that French marriage is compulsory in the municipalities, until it becomeslegal.

Most of the countries of the world are in the same way, but religion in the Arab and Islamic world is being used as a means of shaping political tensions, Wahhabism in Saudi Arabia is a tool to control the population in obedience to the Al Saud, and the Mufti of Al-Azhar is the strongest supporter of every new Egyptianregime.

The conditions of religious forces are similar in the Islamic world and their sole mission is to recruit people to serve politicalofficials.

Lebanon, on the other hand, has over-sectarianism in its political system because of its multi-confessional and religious system. While the constitution in Egypt, Morocco, Algeria, Sudan and Jordan is keen on the Islamic state and the president, the Lebanese political system goes towards the “gilded” heads of its constitutional institutions, its deputies, its ministers, administrative officials, the judiciary, universities and almosteverything.

This led to the rooting of sectarianism in Lebanon, allowing its political class to dominate almost everything, and this is about the citizen who is seeking a living at the head of his community, until sectarianism became generalized in relations between the Lebanese and at alllevels.

The parties have blown up and each group has its own own parties and has taken over its powers in all components withoutexception.

This type of political relations has led to the accumulation of the biggest known political corruption in a country the size of Lebanon, following a complete robbery of the country’s capabilities in a public way that protects sectarian ism, which has resulted in unemployment, inflation, bankruptcy, deficits and public debt of more than 120 billion dollars in a country that does not exceed Its national product is 20billion.

Electricity and water were absent, waste was piled up and security became a category under the authority of leaders who added to their power the advantage of religiousholiness.

This is what causes confusion in sectarian parties that have infiltrated the leadership of the popular movement and demands a civil state, is it serious in its demand or is it trying to control this popular movement with two new poisons on Lebanon: the crystallization of a class feeling with a trend towards a sense of patriotism at the expense of the decline of hegemony « Al-Maqdis» suppressing the interests of the people by playing about sectarian and sectariantensions.

Perhaps this confirms that the parties driving the demonstrators, use these methods in the context of their conflicts with other parties within the authority, so they go towards exploiting the uprising of the Lebanese on the sectarian system by adopting their slogans about the necessity of a civilstate.

The proof is that Hariri presents himself as “Bay sunnah”, “Jumblat sultan al-Shuf” and Aalay and Geagea, the defender of the saints, and to be honest, this situation includes all parties of power without exception. Are we on the eve of Lebanon’s transformation as a civil state?

This needs real political parties that believe in the civility of the state, there are many of them outside power, so they are not able to change the sectariansystem.

This change needs the budgets of popular forces that have their actual leadership and the last move is the main movement in the journey of a thousand miles to eliminate a sectarian system that uses all the slogans of modern democracy and is innocent of it, so the Lebanese are going towards building a real civil state that needs a little bit of Patience and a lot of powerbalances.

 

14 آب ليس يوماً مضى بل صيرورة مستمرة… والمطلوب؟

أغسطس 14, 2019

ناصر قنديل

– في الرابع عشر من آب 2006 تحقق عظيم الإنجاز بما يقارب الإعجاز في نصر تاريخي هزم أعتى قوة يعتمد عليها الغرب في فرض سياساته على الشرق، وبزغ فجر حركات المقاومة لتعيد كتابة التاريخ وترسم حدود الجغرافيا باسم الشعوب التي غيّبت طويلاً عن قضاياها المركزية، حيث ترجمت المقاومة التي احتفلت بانتصارها كل شعوب المنطقة إرادة هذه الشعوب في تعبير نوعي عن مفهوم الديمقراطية والإرادة الشعبية. بالتوازي سقطت أحلام وتهاوت أبراج من الأوهام، حيث كل ما سيهدد به الغرب لاحقاً هو ما سبق وما فعله سابقاً، وكانت حرب تموز البديل الذي راهن عليه لاستعادة ماء وجهه بعد حربين فاشلتين في أفغانستان والعراق، لتشكيل شرقه الأوسط الجديد كما بات ما لا يحتاج دليلاً ولا برهاناً، وأصيبت «إسرائيل» في روحها، حيث لن تنفعها بعد ذلك لا قبب حديدية وفولاذية ولا خطط ترميم لقوة الردع ولا استعادة العافية لجبهة داخلية أصيبت بمرض عضال لا شفاء منه، وخرج الشعب في مسيراته المهيبة فجر الرابع عشر من آب يكلل النصر بالمزيد من التضحيات حاضناً مقاومته وفارضاً تفسيره للقرار الأممي 1701، وخرج الجيش اللبناني المتوّج بالثلاثية الذهبية مع شعب ومقاومة لا ينازعانه الحضور العلني لعروض القوة، كأقوى جيوش المنطقة بهذين الرديفين، لا تعوزه المساعدات ولا الرعاية الأميركية الهادفة لتجريده من أقوى ما عنده، وهو الثلاثية المقدسة التي أكدها النصر.

– الصيرورة المستمرة لمعادلات 14 آب ظهرت مع تعميم نموذج المقاومة من لبنان وفلسطين إلى العراق واليمن، وظهرت في النموذج السوري لمقاومة الغزوة الدولية الكبرى، وفي صمود إيران، وفي نهوض روسيا لدورها كدولة عظمى، وفي استفاقة التنين الصيني للمنازلة في ساحات الاقتصاد تمهيداً لمنازلات مقبلة في سواها. وفي هذه الصيرورة تأكدت معادلات نصر آب، وترسخت وتعملقت، وخلال الأعوام التي مضت حاول الأميركي والإسرائيلي وما بينهما من حكام الخليج والغرب، وبعض الداخل اللبناني والعربي والإسلامي تعويض نواقص الحرب ومعالجة أسباب الهزيمة، فكانت كل حرب لإضعاف المقاومة تزيدها قوة.

– قرأ المعنيون بالهزيمة على تنوّع مشاربهم وهوياتهم أن نصر آب هو نتيجة الطبيعة الخارجية للحرب، وأن تفوق المقاومة على جيش الاحتلال تقنياً جاء بفعل أسلحة لا قيمة لها في مواجهات داخلية، فكانت تجربة الفتنة الداخلية، من محاولة كسر الاعتصام الذي دعت إليه المقاومة وحلفاؤها في مطلع العام 2007، وصولاً لقرار تفكيك شبكة اتصالات المقاومة، تمهيداً لتوريطها في فخ التصادم مع الجيش وتفتيت الشعب إلى قبائل متحاربة، فكانت عملية 7 أيار، التي يقدمها البعض دليلاً على استخدام المقاومة لسلاحها نحو الداخل اللبناني، تأكيداً لمعادلة العجز الشامل عن كسر مصادر قوة المقاومة. ومثلها جاءت الحرب على سورية وما رافقها من استقدام كل منتجات الفكر الوهابي أملاً بتعويض عجز جيش الاحتلال عن بذل الدماء باستحضار من لا يقيم لها حساباً، فجاءت نتائج الحرب تقول إن مصادر قوة المقاومة لم تمسها لا محاولات الفتن الداخلية، ولا المواجهة مع تشكيلات الإرهاب التكفيري.

– اليوم ومع تسيّد معادلات المقاومة على مساحة المنطقة من مضيق هرمز إلى مضيق باب المندب ومضيق جبل طارق، ومضيق البوسفور، وما بينها من بحار ويابسة، تبقى المعضلة في قدرة مشروع المقاومة على بلورة نموذج للحكم يُحاكي نجاحاتها في مواجهة العدوان والاحتلال والإرهاب، فيما السلاح الاقتصادي الهادف لتفجير معادلات الدول من داخلها يشكل أهم استثمارات المشروع الأميركي، ويبدو أن إعادة تنظيم الدولة الوطنية ومؤسساتها يسبق في الأهمية الحلول الاقتصادية والمالية التقنية في خطة المواجهة. وهنا لا بد من التأكيد أن بناء الدولة القوية كهدف يبقى هو العنوان، والمقاومة محور تحالفات عن يمينها وعن يسارها ما يكفي لموازين القوى اللازمة لمفهوم الدولة المرتجاة مع مراعاة ضرورات الواقعية والمرونة، وحيث يتحدث الجميع عن الدولة المدنية كإطار للحل، يتباين المفهوم حول طبيعتها، وتبدو المقاومة معنية ببدء الحوار الجاد حول هذا المفهوم خصوصاً مع حليفيها الاستراتيجيين في حركة أمل والتيار الوطني الحر ومعهما حلفاء أصيلون بالمناداة بالدولة المدنية ويحملون نموذجهم اللاطائفي إثباتاً على إمكان تخطي الطائفية، كما حمل مشروع المقاومة الإثبات على إمكانية هزيمة الاحتلال، وهؤلاء الذين يتقدمهم الحزب السوري القومي الإجتماعي متطلعون لهذا الحوار الجاد من موقعهم الشريك في مشروع المقاومة ومعاركها، والهدف هو البدء ببلورة مفهوم موحد، سيكون وحده الجواب على التحديات، خصوصاً ان الهواجس التي يثيرها طرح التيار الوطني الحر بالدعوة لتطبيق عنوان الدولة المدنية بما يتخطى إلغاء الطائفية كشرط للسير بها، ليست هواجس العلمانيين بل هي هواجس تمسّ ما يهتم به حزب الله من شؤون تتصل بدور الدين في الدولة وكيفية الفصل والوصل بينهما وضمن أي حدود. وما يثيره حلفاء حزب الله الذين يثير هواجسهم خطاب الحقوق المسيحية التي ينادي بها التيار الوطني الحر كتعبير عن تصعيد للعصبيات الطائفية، لا يخشونها من موقع طائفي وهم عابرون للطوائف، بل من موقع الحرص على عدم إثارة العصبيات، بينما في هذه اللغة ما يثير مباشرة هواجس قواعد وجمهور المقاومة وبيئتها الحاضنة.

– المهمة ليست سهلة، لكنها ليست أصعب من مقتضيات النصر في آب 2006، وأهميتها في كونها تكمل حلقات النصر، وتجعله مشروعاً وصيرورة، لا مجرد لحظة تاريخية مجيدة.

Related Videos

عنوان الحلقة معركة إدلب نقطة الفصل في معارك المنطقة الجديدة بما فيها معارك الخليج

 

Related News